العزة من أخلاق العلماء
لم يرث الأنبياء غير العلماء، وإذا كانت رتبة النبوة أعلا المراتب وأشرف المنازل عند الله تعالى، فإنه لا يليها في المرتبة والمنزلة غير تلك التي ورثتها، ولقد قال الله عز وجل: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8].
عزة العلماء بالعلم
فالعلماء أعزّاء بالعلم الذي هو إرث الأنبياء، فلا يخضعون ولا يذلون ولا يهانون؛ إذ أنهم لا يريدون من دنيا الناس شيئًا؛ حكامًا كانوا أو محكومين !!
وهكذا، فلا يضيرهم كيد المستكبرين، ولا ظلم المستبدين، ولا بريق أموال المزهوين، ويستوي في ذلك الأمر أن يكونوا أغنياء أو فقراء، فإنهم يعلمون قوله صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ، وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ" [1].
صور من عزة العلماء
عزة الحسن البصري
ومصداق ذلك ما ذكره ابن عبد البر من أن الحجاج سأل خالد بن صفوان: مَنْ سيد أهل البصرة؟ فقال له: الحسن (الحسن البصري). فقال: وكيف ذلك وهو مولى؟! فقال: احتاج الناس إليه في دينهم، واستغنى عنهم في دنياهم، وما رأيت أحدًا من أشراف أهل البصرة إلا يروم الوصول إلى حلقته؛ ليستمع قوله ويكتب علمه.
فقال الحجاج: هذا -والله- السُّؤْدد!!
وتلك العزة التي هي في الغنى، صورها الشافعي رحمه الله حين قال منشدًا:
أمطري لؤلؤًا جبال سرنديــــب *** وفيضي آبار تــــــبريز تــبرًا
أنا إن عشت لســت أعدم قوتًا *** وإذا مت لســـت أعدم قبـــرًا
همتي همة الملــوك ونفســــي *** نفس حر تـــرى المذلة كفـرًا
وإذا ما قنعت بالقــوت عُمري *** فلماذا أهاب زيدًا وعمــــرًا؟!
عزة أبي حازم التابعي
وجسّدها أبو حازم التابعي رحمه الله حين دخل على الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك؛ ورأى منه الأخير عزته وقوته في الحق؛ فقال له يطلب صحبته:
هل لك أن تصحبنا، وتصيب منا ونصيب منك؟ قال: كلا. قال: ولم؟ قال: إني أخاف أن أركن إليكم شيئًا قليلاً، فيذيقني الله ضعف الحياة وضعف الممات، ثم لا يكون لي منه نصيرًا. قال: يا أبا حازم، ارفع إلىَّ حاجتك. قال: نعم، تدخلني الجنة، وتخرجني من النار. قال: ليس ذاك إلي. قال: فما لي حاجة سواها [2].
عزة العز بن عبد السلام
وذكر السيوطي أيضًا في حسن المحاضرة أن السلطان الصالح إسماعيل استعان بالصليبيين وأعطاهم مدينة صيدا وقلعة الشقيف، فأنكر عليه الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وترك الدعاء له في الخطبة، وساعده في ذلك الشيخ جمال الدين أبو عمرو بن الحاجب المالكي، فغضب السلطان منهما، فخرجا إلى الديار المصرية. فأرسل السلطان إلى الشيخ عز الدين -وهو في الطريق- رسولاً يتلطف به في العودة إلى دمشق، فاجتمع به ولاينه، وقال له: ما نريد منك شيئًا إلا أن تنكسر للسلطان، وتقبل يده لا غير!!
فقال الشيخ له: يا مسكين، ما أرضاه يُقبِّل يدي، فضلاً عن أن أقبل يده! يا قوم، أنتم في وادٍ وأنا في واد! والحمد لله الذي عافانا مما ابتلاكم [3].
وفي مواقف أخرى له أيضًا يقول الباجي: خرج السلطان أيوب في يوم العيد في أُبَّهة الملك، وأخذت الأمراء تقبل الأرض، فالتفت إليه الشيخ العز بن عبد السلام، وناداه: يا أيوب، ما حُجَّتك عند الله إذا قال لك: ألم أبوئ لك مُلك مصر ثم تبيح الخمور ؟
فقال السلطان: هل جرى هذا ؟
فقال العز: نعم، الحانة الفلانية يُباع فيها الخمور وغيرها من المنكرات، وأنت تتقلَّب في نعمة هذه المملكة -يناديه بأعلى صوته والعساكر واقفون!!
قال: يا سيدي، هذا أنا ما عملته، هذا من زمان أبي.
فقال العز: أنت من الذين يقولون: "إنا وجدنا آباءنا على أمة"؟!
فأمر السلطان بإبطال تلك الحانة.
فسأله الباجي: أما خفته؟
قال العز: والله يا بني، استحضرت هيبة الله تعالى، فصار السلطان قُدَّامي كالقِط [4]!!
والأمثلة في ذلك جد كثيرة،. وكلها تجسد وضْع العلماء الصحيح بين الناس، وكيف أنهم هم القادة لا المقودون، وأنهم هم الموجِّهون لا الموجَّهون.