توريث العلم من أخلاق العلماء
نقل العلم هو أعظم استثمار له، فبه قد وصل إلينا، وبه أيضًا يصل إلى غيرنا، وإن أعظم الأعمال هي تلك التي لم يقتصر نفعها على صاحبها، وإنما التي يتعدى نفعها إلى الآخرين.
حق العلم توريثه
ونقل العلم وبيانه للناس هو أعظم حق له على العلماء الربانيين، فبه يتعلم الجاهل، ويرشد الضال.. يقول تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187].
ومن هنا فإن من أهم أخلاق العالم هو أن ينفع بعلمه الآخرين، فينقله لهم ويورثه إياهم، لتعم الفائدة، ويعود النفع على الأمة بأثرها.
وذلك الأمر قد فقهه جيدًا أبو هريرة رضي الله عنه فيقول: "إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ: "أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ"، وَلَوْلَا آيَتَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُ حَدِيثًا، ثُمَّ يَتْلُو: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} إلى قَوْلِهِ: {الرَّحِيمُ} [البقرة: 160] وَإِنَّ إِخْوَانَنَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ، وَإِنَّ إِخْوَانَنَا مِنَ الْأَنْصَارِ كَانَ يَشْغَلُهُمُ الْعَمَلُ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشِبَعِ بَطْنِهِ، وَيَحْضُرُ مَا لَا يَحْضُرُونَ، وَيَحْفَظُ مَا لَا يَحْفَظُونَ" [1].
فضل توريث العلم
وعن فضل توريث العلم ومكانته، يروي زيد بن ثابت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ" [2].
وفي صورة رائعة، توضح فضل من يعلِّم العلم على غيره، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يضرب المثل فيقول: "مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلاً. فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ" [3].
ومن هنا تراه صلى الله عليه وسلم يحضُّ على تعليم الغير، فيقول في حِجة الوداع في خطبته الجامعة، عن أبي بكرة رضي الله عنه: "لِيُبَلِّغ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ؛ فَإِنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أَنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ مِنْهُ" [4].
وروى عثمان بن عفان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ" [5].
وفي شرحه يقول ابن حجر: والذي يُعلِّم غيره يحصل له النفع المتعدي، بخلاف من يعمل فقط، بل من أشرف العمل تعليم الغير، فمُعلِّم غيره يستلزم أن يكون تعلمه وتعليمه لغيره عمل وتحصيل نفعٍ متعدٍ.
ولا شك أن الجامع بين تعلم القرآن وتعليمه مكمِّلٌ لنفسه ولغيره، جامع بين النفع القاصر والنفع المتعدي، ولهذا كان أفضل، وهو من جملة من عنى عز وجل بقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33] [6].
ويقول معاذ بن جبل رضي الله عنه: ".. وتعليمه من لا يعلمه صدقة .. " [7].
خطورة كتم العلم
ويقول جابر بن عبد الله رضي الله عنه: "إذا لعن آخر هذه الأمة أولها، فمن كان عنده علم فليظهره؛ فإن كاتم ذلك العلم ككاتم ما أُنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم" [8]!!
وهو يريد أنه إذا جاء زمان يلعن فيه الناس أوائل هذه الأمة، أي الصحابة رضي الله عنهم، فمن كان عنده علم في الدفاع عنهم فليظهره، وإلا فإن من يكتمه كمن يكتم ما أُنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وكلاهما أمر عظيم!!
ومن هنا كان التحذير الشديد من كتمان العلم عمن يسأل عنه.
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ عَلِمَهُ ثُمَّ كَتَمَهُ، أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ" [9]!!
توريث العلم سبب لانتشاره
ولعلَّنا ندرك بعد ذلك سبب انتشار علم الإمام مالك رحمه الله، حتى صار له مذهبٌ فقهيٌّ خاصٌّ به، وعدم انتشار علم الإمام الليث بن سعد رحمه الله، وقد كان فقيه عصره وإمامه البارز !!
وتظهر الحقيقة في أنَّ الإمام مالك رحمه الله كان له من التلاميذ الذين يبلِّغون عنه، وينشرون علمه، في حين لم يجد الإمام الليث من يحمل مذهبه حتى يعُمَّ وينتشر، وقد أشار إلى هذه الحقيقة الإمام الشافعي رحمه الله حين قال: "الليث بن سعد أفقه من مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به" [10].
وبذلك أيضًا استفادت الدنيا من علم الرازي رحمه الله، فقد كانت له مدرسة في تعليم الطب؛ فكان يؤلف الكتب، ويجري التجارب والأبحاث مع طلبة العلم، وكان يقوم بجولة معهم للاطمئنان على المرضى، فورَّث رحمه الله العلم، واستفادت منه ليست أمة الإسلام فحسب، وإنما البشرية جمعاء !!
وفي العلوم الحياتية أيضًا، فقد أهدى أبو نصر بن عراق (وهو من علماء القرن الرابع الهجري، وله مصنفات في الآلات الفلكية والمثلثات) أكثر كتبه ورسائله إلى أبي ريحان البيروني، وقد اعترف له البيروني بفضله، فكان يلقبه بـ "أستاذي" [11]!!
أما الجلدكي (وهو من علماء القرن الثامن الهجري)، والذي اشتهر بسعة اطلاعه وتبحره في علم الكيمياء، فكان محبًا لنشر هذا العلم بين الناس؛ ولذلك كانت داره مفتوحة أمام طلاب المعرفة، وصدره واسعًا لإجابة من يستفتيه في مسألة من مسائل الكيمياء، أو أي فرع من فروع المعرفة [12].