دور رجال الاقتصاد في تنشئة العلماء
الأسخياء عظَّمهم الله في الدنيا كما عظَّم العلماء، فإذا كان العلماء بعلمهم وبمنزلتهم التي أكرمهم الله بها، فإن الأسخياء من رجال الاقتصاد والثروة سادوا كذلك بسخائهم وقُربهم من الله عز وجل ومن الناس.
وفي الإنفاق بصفة عامة يقول الله عز وجل: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261].
يقول ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: "هذا مثلٌ ضربه الله تعالى لتضعيف الثواب لمن أنفق في سبيله وابتغاء مرضاته، وأن الحسنة تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ..» [1].
وروى أبو ذر رضي الله عنه قال: انْتَهَيْتُ إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ يَقُولُ: هُمُ الأَخْسَرُونَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، هُمُ الأَخْسَرُونَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ. قُلْتُ: مَا شَأْنِي؟ أَيُرَى فِيَّ شَيْءٌ؟ مَا شَأْنِي؟ فَجَلَسْتُ إليهِ وَهُوَ يَقُولُ، فَمَا اسْتَطَعْتُ أَنْ أَسْكُتَ، وَتَغَشَّانِي مَا شَاءَ اللَّهُ؛ فَقُلْتُ: مَنْ هُمْ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الْأَكْثَرُونَ أَمْوَالاً، إِلاَّ مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا، وزاد مسلم: "مِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَمِنْ خَلْفِهِ، وَعَنْ يَمِينِهِ، وَعَنْ شِمَالِهِ .. " [2].
الإنفاق على العلم
وإنه إذا كانت سبل الخير وطرق الإنفاق كثيرة ومتنوعة، فإن من أفضل وأحسن وأنفع ما ينفق فيه المحسنون ويبذل فيه الأسخياء والموسرون من رجال الاقتصاد والثروة نشر العلم، وتعهُّد طلابه ورعايتهم، والعمل على تنشئة العلماء، وإقامة المراكز والمؤسسات البحثية.
وذلك أن طلب العلم ونشره يحتاج فيما يحتاج إليه إلى تفرغٍ وجهادٍ بالنفس والنفيس كما سبق أن رأينا، وذلك يتعذَّر كثيرًا على من لم يُكْفَوا مؤونة العيش وهم كُثُر، وقد قال الشاعر [3]:
بِالعِلمِ وَالمالِ يَبني الناسُ مُلكَهُمُ ***لمَ يُبْنَ مُلكٌ عَلى جَهلٍ وَإِقلالِ
والمجتمع المسلم قبل كل شيء مجتمعٌ متكافلٌ ومترابط، ومتممٌ بعضه بعضًا، وما من شريحة من شرائحه إلا وهي تقوم بدورٍ فاعلٍ فيه، وتسد ثغرة من الثغرات المهمة التي لا يمكن إغفالها، والتقصير في أي دور من تلك الأدوار يؤدي بالضرورة إلى إحداث خللٍ وأضرار وتأثيرات سلبية على المجتمع الإسلامي ككل!!
وعليه فإن مساعدة رجال الاقتصاد والثروة لإخوانهم من العلماء وطلاب العلم، وعملهم على سد تلك الثغرة الحيوية والمهمة في المجتمع، والتي كثيرًا جدًّا ما تحتاج إلى الإنفاق عليها، من شأنه أن يعمل على قيام حياة علمية متقدمة، ومن شأنه أن يُيسِّر ويتيح للعلماء القيام بواجبهم في نشر العلم، ونفع الناس، وهدايتهم إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم في الدين والدنيا.
ابن المبارك والإنفاق على العلم
فهذا العالم المجاهد التاجر، الذي اشتغل بالتجارة لأجل الإنفاق على العلماء وطلاب العلم، عبد الله بن المبارك رحمه الله، يقول: "إني أعرف مكان قوم لهم فضلٌ وصدق، طلبوا الحديث فأحسنوا الطلب للحديث، وحاجة الناس إليهم شديدة وقد احتاجوا، فإن تركناهم ضاع علمهم، وإن أغنيناهم نشروا العلم لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا أعلم بعد النبوة درجة أفضل من بَثِّ العلم" [4]!!
وقد قال له الفضيل بن عياض يومًا: "أنت تأمرنا بالزهد والتقلل والبلغة ونراك تأتي بالبضائع من بلاد خراسان إلى البلد الحرام؟ كيف ذا وأنت تأمرنا بخلاف ذا؟!" فرد عليه ابن المبارك وقال: "يا أبا علي، إنما أفعل ذا لأصون فيه عرضي، وأكرم به عرضي، وأستعين به علي طاعة ربي، لا أرى لله حقًّا إلا سارعت إليه حتى أقوم به". فقال له الفضيل: "يا بن المبارك ما أحسن ذا إن تم ذا" [5].
ويحكي الذهبي عن ابن المبارك أيضًا فيقول: بلغنا أنه قال للفضيل بن عياض: "لولاك وأصحابك ما اتجرت" [6]!!
وذكر ابن حجر أن بن المبارك كان يتجر ويقول: "لولا خمسة ما اتجرت: السفيانان (يعني العالمين الكبيرين والمحدِّثين العظيمين: سفيان الثوري وسفيان بن عيينة رحمهما الله)، والفضيل، وابن السماك، وابن علية؛ فيصلهم" [7].
وقال علي بن خَشْرم: قلت لعيسى بن يونس: كيف فَضَلَكُم ابن المبارك ولم يكن بأسن منكم؟ قال: كان يقدم ومعه الغِلْمة الخرسانية، والبزَّة الحسنة، فيَصِل العلماء، ويعطيهم [8].
وكان من ذلك ما يحكيه جعفر بن عبد الله الوراق حيث قال: قدِم ابن المبارك الكوفة ومعه مال، فقسمه، فصرَّ صُررًا، فجعل يوجه إلى كل شيخ بصُرَّة [9]!!
وهكذا كان حال التاجر المسلم في عصره، عبد الله بن المبارك، مع العلماء وطلاب العلم؛ يكفلهم بالمال، ويغنيهم عن ذل السؤال، ويعينهم على مؤونة العيش؛ ليتفرغوا هم للعلم ونشره، ونفع الناس به، وذلك كله رغم ما أُثر عنه من علمه هو وجهاده في سبيل الله!!
دعلج بن أحمد
وغير ابن المبارك كان هناك أيضًا دعلج بن أحمد (ت 351هـ)؛ إذ كان ضمن منظومة من لهم صدقات جارية على العلماء والمحدِّثين!!
قال الخطيب البغدادي في ذلك ما مؤداه: كان من ذوي أليسار، مشهورًا بالبر، له صدقات جارية ووقوف على أهل الحديث ببغداد ومكة وسجستان. (أي جعل لهم قدرًا كبيرًا من المال موقوفًا عليهم، لا ينفق منه على وجه آخر من وجوه الخير)، وزاد ابن ناصر الدين قول الحاكم: لم يكن في الدنيا أيسر منه [10].
وقال الذهبي: قال الحاكم: "دعلج الفقيه ..، له صدقات جارية على أهل الحديث بمكة وببغداد وسجستان" [11]!!
ومثل ذلك الصنيع إذا قام به رجال الاقتصاد والثروة في مجتمعنا، وكان لهم اهتمام خاص بالمؤسسات والمراكز العلمية الناجحة -وهناك الكثيرين ممن يقومون بذلك بفضل الله- من شأنه أن يعمل على خلق جو علمي عام، ينشأ فيه العلماء ويكثرون، ويدفعهم ذلك إلى إتمام مسيرتهم، واستكمال طريقهم نحو تقدم الأمة ورفع الحرج عنها في كل المجالات العلمية المختلفة.
مؤسسة سعيد هائل الخيرية
ونستطيع هنا أن نُشيد ببعض مؤسسات رجال الاقتصاد والثروة في عصرنا الحاضر، والذين بات لهم دورٌ بارزٌ في هذا المجال. فنذكر على سبيل المثال لا الحصر مؤسسة سعيد هائل الخيرية، كمثال حضاري إيجابي.
فهي مؤسسة علمية ثقافية تأسست في عام 1996م بقرار من مجموعة هائل سعيد أنعم وشركاه؛ تكريمًا لذكرى هائل سعيد أنعم رحمه الله؛ لما قدمه من خدمات لمجتمعه في الميدان التنموي بصورة عامة، وفي المجال الخيري بصورة خاصة، انطلاقًا من حسِّه الإسلامي وتجسيدًا لأمانيه في تطوير العلوم والثقافة والتكنولوجيا في بلاده اليمن.
وتهدف المؤسسة إلى الآتي:
- الإسهام في تطوير جيل من العلماء والخبراء والمتخصصين اليمنيين في ميادين العلوم الطبيعية الأساسية والتطبيقية والتقنية والتنموية.
- إنشاء مركز للبحث العلمي.
- الإسهام في تطوير قطاعات الإنتاج الوطني وقطاع الزراعة على الخصوص والنهوض بها وتحديثها بزيادة البحوث والتجارب العلمية والعملية.
- تنظيم المسابقات للعلماء والمبدعين لتشجيعهم على البحث العلمي والأعمال الإبداعية وعلى إجراءات علمية مبتكرة أو متطورة وتقديم جوائز للبحوث والابتكارات للفائزين.
وتنتهج المؤسسة أساليب علمية وعملية لتنفيذ أهدافها، وهي تنظيم الندوات والمحاضرات وورش العمل والمؤتمرات العلمية، وكذلك تنمية العلاقات بين المؤسسة ومؤسسات البحث العلمي داخل اليمن وخارجها لتحقيق الأهداف المشتركة، وإبراز عملية الإبداع العلمي والفكري والأدبي، وضمان تقدير العلماء والأدباء والكتاب ورجال الفكر ونوابغ الباحثين الذين يسهمون في بناء الوطن وحضارته، وتشجيع البحث الأدبي والنقدي والمعرفي.
وتتوزع مجالات منح الجائزة في الوقت الراهن فيما يلي:
- جائزة العلوم الطبية.
- جائزة العلوم الإنسانية والاجتماعية.
- جائزة العلوم الإسلامية.
- جائزة الإبداع الأدبي.
- جائزة العلوم البيئية والزراعية.
- جائزة العلوم الاقتصادية.
وتمنح هذه الجوائز في اليوم السابع والعشرين من شهر إبريل من كل عام في ذكرى وفاة السيد/ هائل سعيد أنعم [12].
وفيما يخص البحث العلمي؛ فقد تم إنشاء صندوق السعيد لدعم البحث العلمي بقرار من مؤسسة السعيد للعلوم والثقافة تكريمًا لذكرى السيد/ هائل سعيد أنعم، ولتحقيق المقاصد والأهداف التالية:
1- دعم البحث العلمي وتشجيعه في الجامعات والمؤسسات والمراكز العلمية المتخصصة في اليمن، وذلك من خلال:
* دعم البحوث العلمية الأصيلة للباحثين والمتخصصين والأكاديميين في الجامعات والمؤسسات والمراكز التعليمية المؤهلة.
* تشجيع الباحثين والمتخصصين والأكاديميين في الجامعات والمؤسسات والمراكز العلمية اليمنية على إجراء بحوث علمية مبتكرة، ثم تصميمها بعناية مع مؤسسات البحث العلمي الراقية، المحلي منها والعربي والدولي.
* دعم البحوث العلمية عن طريق المنح أو التعاقد مع الصندوق في مجالات معينة من العلوم الأساسية والتطبيقية والتكنولوجية ذات الأولوية للصندوق والمؤسسة.
* التطوير المشترك للتكنولوجيات الناشئة التي من شأنها الإسهام في تطوير الاقتصاد اليمني.
2- المشاركة في دعم المؤتمرات المتخصصة والندوات وورش العمل العلمية التي تتواءم وأهداف المؤسسة.
3- المشاركة في تنمية إمكانات مكتبة السعيد من كتب ومراجع ونصوص إلكترونية في العلوم الأساسية والتطبيقية والتكنولوجية.
4- العمل على نشر نتائج البحوث العلمية ووقائع المؤتمرات والندوات وورش العمل التي تقيمها الجامعات ومؤسسات ومراكز البحث العلمية التخصصية والتي تتفق وأهداف المؤسسة.
5- إقامة وتعزيز الصلات بين مراكز ومؤسسات البحث العلمي محليًّا وعربيًّا ودوليًّا.
ويدير الصندوق لجنة خاصة مؤلفة من رئيس ونائب رئيس وخمسة أعضاء يختارهم مجلس إدارة مؤسسة السعيد للعلوم والثقافة من ذوي الكفاءة العالية، ومن أصحاب التخصصات والخبرات العلمية المختلفة ولمدة ثلاث سنوات [13].
ومثل هذه المؤسسة هناك مؤسسات أخرى كثيرة تقوم بمثل هذا الدور، وهي -ولله الحمد- في ازدياد وتطور مستمر، وإنا لنأمل في أن يقوم خيرون من هذه الأمة ذوو ثروة بتخصيص أموال بعينها للبحث العلمي، مضارعة بنوبل السويدي، صاحب ومؤسس الجائزة المشهورة على الأبحاث العلمية الممتازة.