المدارس النظامية
أثبتت تجارب الشعوب، وحركة التاريخ أن تقدم الأمم وتفوقها على غيرها لا يتحقق إلا بالنهوض بالتعليم، وهناك العديد من النماذج في تاريخنا الإسلامي التي تؤكد هذه القاعدة، وأشهر هذه النماذج هي النهضة التعليمية التي شهدتها الأمة الإسلامية أبان الحروب الصليبية من خلال المدارس النظامية.
نشأة المدارس النظامية
في التاريخ الإسلامي كان العلم يدرس في المساجد، ثم انتقل مع اكتظاظ المساجد بطلبة العلم، إلى بعض الدور الأهلية التي عرفت بدور العلم، إلى أن أتى الوزير نظام الملك السلجوقي، وأنشأ المدرسة النظامية في بغداد، في القرن الخامس الهجري سنة 459هـ، فكانت أول مدرسة في التاريخ تشرف عليها الدولة.
وانتشرت بعد ذلك المدارس النظامية -نسبة إلى نظام الملك- في كل أنحاء مدن الدولة الإسلامية، ويمكن القول: إن الوزير نظام الملك هو أول (وزير تعليم) في التاريخ الإسلامي.
بدأ التفكير الفعلي في إنشاء المدرسة النظامية، عقب اعتلاء السلطان ألب أرسلان عرش السلاجقة في عام 455هـ، فقد استوزر هذا السلطان رجلًا قديرًا وسنيًا متحمسًا، هو الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي، الملقب بنظام الملك، فرأى هذا الوزير أنه لتحقيق النهوض والاستقرار المجتمعي لابد من تحقيق نهضة فكرية داخل المجتمع، تصاحبها نهضة سياسية، وأن يعمل على تربية الأمة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعقيدة أهل السنة والجماعة المستمدة من الوحي الإلهي.
ومن هنا كان تفكيره في إنشاء المدارس النظامية التي نسبت إليه؛ لأنه الذي جد في إنشائها وخطط لها، وأوقف عليها الأوقاف الواسعة، واختار لها الأكفاء من الأساتذة.
الأهداف التعليمية للمدارس النظامية [*]
1- الأداء الأمثل للتكاليف الشرعية المختلفة؛ وذلك لأن معالم الشريعة لا تكون واضحة، ولا تعرف أحكام الدين إلا عن طريق التعليم الإسلامي القويم، والتعليم الصحيح هو الطريق الأمثل للوصول إلى مراد الشارع سبحانه وتعالى.
2- ويترتب على الهدف السابق هدف آخر هو إعداد الإنسان الصالح بنفسه المصلح لغيره، ولذلك اعتبر هذا الهدف مهمًا من وجهة نظر التعليم الإسلامي، فالتعليم الإسلامي يعد الفرد لكي يكون آمرًا بالمعروف معينًا عليه وعلى فعله، وناهيًا عن المنكر داعيًا إلى تركه بعد أن يكون هو نفسه قد امتثل هذا الأمر أو النهي.
3- توفير جو علمي، تهدف المدرسة الإسلامية إلى توفير جو علمي يساعد الأساتذة والمعلمين على أن يفكروا ويؤلفوا ويبتكروا، فيضيفوا كل جديد إلى العلوم المختلفة بصفة مستمرة.
4- العمل على توسيع الأفق الفكري لدى الطلاب، فالمدرسة لا تكتفي بتنمية الخبرات، بل تعمل على أن تكسب الطالب الخبرات الجديدة الناتجة عن تجارب الأمم السابقة والمعاصرة, وهذا ما يسمى عند علماء التربية الإسلامية "نقل التراث"، وهذا يكون من خلال اطلاع الطلبة على التراث الحضاري والفكري لدى الأمة؛ مما يؤدي إلى توسيع الأفق لديهم نتيجة لاطلاعهم على تلك الخبرات.
5- إعداد الكوادر الفنية، تهدف المدرسة من وراء تعليمها للطلبة إلى إعداد الكوادر الفنية المؤهلة لممارسة الأعمال المختلفة، سواء في الجهاز الحكومي أو في غيره، خصوصًا أن الوظائف قد تشعبت وكثرت وتضخمت، ولذلك قامت المدرسة بتخريج الأفراد الذين عملوا على تحمل مسؤولياتهم في تلك الوظائف.
6- نشر الفكر السني، ليواجه تحديات الفكر الشيعي، ويعمل على تقليص نفوذه.
7- إيجاد طائفة من المعلمين السنيين المؤهلين؛ لتدريس المذهب السني ونشره في الأقاليم المختلفة.
عوامل نجاح المدارس النظامية
حرص نظام الملك على نجاح تجربة المدارس النظامية في تحقيق أهدافها، ولكي يضمن هذا النجاح اعتمد خطة ترتكز على محاور رئيسية:
المحور الأول: الأماكن
اختار نظام الملك مواقع مدارسه بعناية فائقة، بحيث تكون في العواصم والمدن ذات الثقل السكاني، ومن ثم يمكنها التأثير في أكبر عدد ممكن، وهكذا يضمن تأثيرها بشكل أكبر، يقول السبكي عن نظام الملك: "إنه بني مدرسة ببغداد، ومدرسة ببلخ، ومدرسة بنيسابور، ومدرسة بهراة، ومدرسة بأصفهان، ومدرسة بالبصرة، ومدرسة بمرو، ومدرسة بآمل طبرستان ومدرسة بالموصل".
هذه إذن هي أمهات المدارس النظامية التي أنشئت في المشرق الإسلامي, ويتضح من توزيعها الجغرافي أن معظمها أنشئ في المدن التي تحتل مركز القيادة والتوجيه الفكري.
المحور الثاني: الدقة والعناية في اختيار المعلمين والأساتذة
تم اختيار أساتذة المدارس النظامية بعناية تامة، بحيث كانوا أعلام عصرهم في علوم الشريعة، ويشير العماد الأصفهاني إلى دقة نظام الملك في هذه الناحية فيقول عنه: "وكان بابه مجمع الفضلاء، وملجأ العلماء، وكان نافذا بصيرًا ينقب عن أحوال كل منهم، فمن تفرس فيه صلاحية الولاية ولاه. ومن رأى الانتفاع بعلمه أغناه، ورتب له ما يكفيه حتى ينقطع إلى إفادة العلم ونشره وتدريسه، وربما سيره إلى إقليم خال من العلم ليحلِّي به عاطله، ويحيي به حقه، ويميت به باطله".
وفي كثير من الأحيان كان نظام الملك لا يعين الواحد منهم إلا بعد أن يستمع إليه ويثق في كفاءته، حدث ذلك مع الإمام الغزالي الذي كان يتفقه على إمام الحرمين في نظامية نيسابور، فلما مات أستاذه في عام 478هـ قصد مجلس نظام الملك، وكان مجمع أهل العلم وملاذهم، فناظر الأئمة العلماء في مجلسه، وقهر الخصوم، وظهر كلامه عليهم واعترفوا بفضله وتولاه الصاحب "نظام الملك" بالتعظيم والتبجيل وولاه تدريس مدرسته ببغداد.
وفعل مثل ذلك مع أبي بكر محمد بن ثابت الخُجندي (ت: 496هـ) الذي سمعه نظام الملك وهو يعظ بمرو، فأعجب به وعرف محله من الفقه والعلم، فحمله إلى أصفهان وعينه مدرسًا بمدرستها. كما استدعى الشريف العلوي الدبوسي (ت: 483هـ)، ليدرس بنظامية بغداد؛ لأنه كان بارعًا في الفقه والجدل.
وكان نظام الملك يحوط هؤلاء العلماء برعايته، ويمدهم بتأييده، حتى احتلوا منزلة عليا في البلاد التي حلوا بها، وصار لبعضهم وجاهة في بلاط السلطان، كأبي إسحاق الشيرازي الذي اختاره الخليفة المقتدي في عام 475هـ، ليحمل شكواه من عميد العراق أبي الفتح بن أبي الليث إلى السلطان ملكشاه ووزيره نظام الملك، فأكرماه وأجيب إلى جميع ما التمسه، وجرت بينه وبين إمام الحرمين مدرس نظامية نيسابور مناظرة، بحضرة نظام الملك، ولما عاد أبو إسحاق إلى بغداد أهين العميد، ورفعت يده على جميع ما يتعلق بالخليفة.
المحور الثالث: تحديد منهج الدراسة
كما عنى نظام الملك باختيار الأساتذة الأكفاء لمدارسه، فإنه حدد منهج الدراسة الذي ستسير عليه هذه المدارس، وقد كان لتراث الإمام الشافعي في الفقه والأصول والعقائد وسيرته الذاتية أكبر الأثر على تلك المدارس، كما كان يدرس الحديث، والنحو, وعلمي اللغة والأدب.
المحور الرابع: توفير الإمكانات المادية
لم يبخل نظام الملك بتوفير الإمكانات المادية التي تعين هذه المدارس على النهوض برسالتها على أكمل وجه، ولذا نراه ينفق عليها بسخاء، ويخصص لها الأوقاف الواسعة، فيذكر ابن الجوزي أن نظام الملك وقف على مدرسته ببغداد ضياعًا وأملاكًا، وسوقًا بنيت على بابها، وأنه فرض لكل مدرس وعامل بها قسطًا من الوقف، وأجرى للمتفقهة (الطلاب) أربعة أرطال خبز يوميًا لكل واحد منهم. أما مدرسة أصفهان فقدرت نفقاتها وقيمة أوقافها بعشرة آلاف دينار، وكان للمدرسة النظامية في نيسابور أوقاف عظيمة.
وقد اهتم نظام الملك بتوفير السكن للطلاب داخل هذه المدارس، ويفهم من بعض الروايات التاريخية أن كل طالب كانت له غرفة خاصة به، إذ روي أن واحدًا من طلابها ويدعى يعقوب الخطاط توفي في عام 547هـ، وكانت له غرفة في النظامية، فحضر متولي التركات، وختم على غرفته في المدرسة، كما حرص نظام الملك على توفير الحياة المعيشية الكريمة لطلاب مدارسه، فإنه حرص أيضًا على تهيئة المناخ العلمي الذي يساعدهم على الدراسة والبحث، فاهتم اهتمامًا كبيرًا بتوفير المراجع العلمية داخل هذه المدارس، فكانت في كل مدرسة مكتبة عامرة يتولى أمرها قوام على شؤونها، وأشار ابن الجوزي إلى أن وقفية نظامية بغداد نصت على أن يكون متولي الكتب بها أيضًا شافعيًا.