المدرسة البوعنانية بمدينة فاس
تأسيس المدرسة البوعنانية وموقعها
شرع في بناء المدرسة البوعنانية في الثامن والعشرين لشهر رمضان المعظم عام أحد 750هـ / 1350م، وتم الانتهاء من عملية البناء في آخر شعبان المبارك عام 756هـ / 1355م، وكان بناؤها بأمر السلطان أبو عنان فارس المريني (729 - 759هـ / 1329 - 1358م)، على يد الناظر أبي الحسن بن أحمد بن الحسين بن أحمد بن عسكر. وترتفع المدرسة البوعنانية بالشمال الشرقي من قصبة بوجلود؛ وهي تشرف على معظم مدينة فاس.
تصميم المدرسة البوعنانية
يشكل المبنى مدرسة ومسجدًا جامعًا في نفس الوقت، أسسها السلطان أبو عنان فارس لتعليم العلم، وأداء صلاة الجمعة، ومنافسة مدرسة العطارين التي بناها جده السلطان أبو سعيد عثمان بن يعقوب بن عبد الحق المريني سنة 725هـ / 1325م.
تنتظم المدرسة على شكل مستطيل، يتكون من صحن مفتوح، ومسجد، وقاعتين للدرس، وغرف للطلبة موزعة على مستويين، ومئذنة، وغرفتين للوضوء، منها واحدة تفتح بابها بمقابل الباب الرئيس للمدرسة على الطالعة الكبيرة.
تحيط بالصحن ثلاثة أروقة تحملها قواعد ضخمة وتوصل إلى غرف الطلبة والمراحيض. أما الواجهة الرابعة فتمر بها قناة متصلة بإحدى شعاب النهر لتزود المدينة بالماء. تمكن قنطرتان مبنيتان بزوايا الواجهة من الدخول إلى المسجد عبر بابين عبارة عن عقدين منكسرين ومتجاوزين. كما يربطها بالأروقة وبغرف الطلبة بالطابق السفلي، بابان متقابلان على الجدارين الجانبين.
ينقطع الرواقان الجانبيان في الوسط بقاعتين متقابلتين ومخصصتين لإلقاء الدروس. لهاتين الأخيرتين، أبواب كبيرة مفتوحة على الصحن وسقفتا بقبتين مضلعتين. يعطي موقعهما هذا بالإضافة إلى فسقية موجودة بوسط الصحن أهمية كبيرة للمحور المستعرض مما يولد تنظيما متقاطعا للمعلم. وتمثل المدرسة التاشفينية بتلمسان (710هـ /1310م) أقدم نموذج لهذا التصميم بالمغرب الكبير.
ويحتمل أن تكون المدرسة الشماعية بتونس (626هـ/ 1229م)، التي تتقدم عن المدرسة البوعنانية بأكثر من قرن من الزمن، مصدر استلهام لمهندس مدرسة فاس. فبالرغم من عدم انتظام سورها الشمالي الشرقي، فإنها تتخذ نظاما متقاطعا. فالمحور الطولي ينطلق من المدخل في اتجاه المسجد والمحراب، ويتقاطع مع خط ثانوي تمثله حجرتان متقابلتان للدروس.
ويمكن أن نرد سبب بناء هاتين القاعتين إلى كون المنطقة التي بنيت فيها المدرسة لم تعمر إلا في الفترات المتأخرة، وبالتالي لا تملك مسجدا جامعا في مستوى القرويين أو الأندلس لاحتضان الدروس. لهذا عمد مهندس المدرسة البوعنانية إلى التفكير في بناء هاتين القاعتين لاستقبال دروس الفقهاء والعلماء. وتحمي الدرابزين الخشبية الأروقة التي تنفتح عليها 14 غرفة بواسطة عقود مفصصة منكسرة ومتجاوزة. ويمكن درجان موجودان بزوايا الرواق الشمالي الغربي من ربط الطابق السفلي بالطابق العلوي للمدرسة.
وبسبب تنظيم بهو المدخل وغرفتي الدروس المتماثلتين والمتقابلتين ووجود "دويريات" في هاتين المدرستين، يجعل منهما ومن مدرسة أبي عنان وزاوية النساك بسلا، مجموعة متجانسة تدل على وجود تأثيرات متبادلة بين فاس وتلمسان وتونس.
تحتوي المدرسة على أماكن بسيطة للوضوء داخل المبنى في الطابق السفلي المخصص للطلبة والمصلين. لذلك يرجح أن تكون الميضأة الكبيرة وقاعتي الوضوء مخصصة لاستعمال سكان الحي أو في المناسبات المهمة، أما القاعة الأولى فتشغل الزاوية الشمالية الغربية من المبنى، ونصل إليها عبر باب الحفاة الموازية للباب الرئيسي. يرتبط مدخلها بمدخل المدرسة عبر ممر مقبب. وكان يلزم من قبل، المرور عبر مدخل ذي زاويتين قائمتين للوصول إلى فناء في وسطه حوض ماء. وتحيط بها من الجانبين الشمالي الشرقي والجنوبي الغربي ميضآت مختلفة الأبعاد والأشكال.
يتم الوصول إلى قاعة الصلاة عبر فناء واسع يبلطه رخام أبيض وتزين واجهاته زخارف تقليدية. وكما هو شأن قاعات القصر النصري بالحمراء في غرناطة، يزين الزليج أسفل أعمدة عقود الأروقة. وهو عبارة عن شبكة من الخطوط البيضاء المتشابكة تؤطر زخارف هندسية سوداء وزرقاء وحمراء، وتحيط بها مربعات صغيرة خضراء. وفي أعلاها توجد نقائش محفورة على مربعات مزججة بالأسود، تتم إزالة أجزاء من زجاج البلاطة لتبرز الكتابة النسخية السوداء فوق احمرار الأرضية.
وعلى غرار قاعة الأختين بقصر الحمراء، ينهي إفريز من المربعات الخزفية، على شكل شرافات سوداء، هذه الزخرفة بالزليج ليترك المكان للجص. ونجد نفس الشرفات بالخشب المخرم في أعلى أجزاء أروقة الفناء. أما أعلى الواجهات الداخلية فزين بلوحات الخشب المنحوت.
يوجد في وسط حائط القبلة محراب مضلع يشكل بروزا خارج البناية. سقف هذا التجويف بقبة زينت بمقرنصات، وهو يذكر بمحراب الجامع الكبير بقرطبة المؤرخ بعام 355هـ / 966م. أما فتحته فهي على شكل عقد منكسر متجاوز يتكأ على عمودين بارزين ومتوجين من الرخام الأسود. ويحيط به عقد ثان متعدد الفصوص منكسر ومتجاوز يؤطر حنية مكونة من صنج زائفة. وفي الأعلى نجد لوحة نباتية ومكتوبة تركب عليها لوحة من الشمسيات عبارة عن أقواس منكسرة. تؤطر محيط المحراب سلسلة من التجويفات تحيط بها نقيشة من القرآن تنتشر على الواجهات الثلاث لبلاطة حائط القبلة. في يمين المحراب، يوجد المنبر الخشبي.
يعتبر المنبر المخصص لإلقاء خطبة الجمعة تحفة رائعة في فن النجارة الراقية. وهو يحمل اسم مؤسس المدرسة البوعنانية بفاس، السلطان أبو عنان فارس (حكم 749هـ - 759هـ/ 1348م – 1358م). يتميز المنبر ببنية كرسي عالي من خشب الأرز ويحتوي على سبع درجات يرتفع فوق الأولى عقد مكسور متجاوز، يحمل نقيشة على شكل شريط مكتوب تشير إلى مؤسس المدرسة. أما جوانبه فتكسوها رصائع منحوتة برقة ومطعمة بالعاج والعظم وخشب الليمون.