الأقسام العلمية في مكتبة بغداد
تنوعت الأقسام العلمية في بيت الحكمة؛ مما يعطي للقارئ انطباعًا عامًّا بأن هذه المكتبة العملاقة كانت بمنزلة جامعة عالمية متطورة، ويمكن أن نستعرض أقسام ومنشآت جامعة بغداد فيما يلي:
قسم الترجمة والتعريب
الترجمة والتعريباجتمعت لدى المأمون ثروة هائلة من الكتب القديمة, فَشَكَّل لها هيئة من المترجمين المهرة والشُّرَّاح والوَرَّاقين,؛ للإشراف على ترميمها ونقلها إلى العربية, وعَيَّنَ مسئولاً لكل لغة يُشْرِفُ على مَنْ يترجمون تراثها, وأجرى عليهم الرواتب العظيمة,؛ حيث جعل لبعضهم خمسمائة دينار في الشهر[1], (أي ما يساوي اثنين من الكيلو جرامات ذهبًا تقريبًا)!
وكان قسم الترجمة منوطًا به ترجمة الكتب من اللغات المختلفة إلى اللغة العربية، وأحيانًا من العربية إلى لغات أخرى، وكان يُعَيَّنُ في هذا القسم نَقَلَة يختلفون من الناحية العملية والإدارية عن الخَزَنَة الذين يُعَيَّنُونَ في قسم المكتبة، وكان من هؤلاء: يوحنا بن ماسويه، وجبريل بن بختيشوع[2]، وحنين بن إسحاق الذي أُرسل في رحلة إلى بلاد الروم ليتَمَكَّنَ من اللغة اليونانية، وكانت الكتب الأجنبية تُجْلَبُ إلى المكتبة وتُتَرْجَم فيها، كما كان بعض النقلة يُترجم خارج المكتبة ويمدُّ المكتبة بترجماته،وكان الخليفة المأمون يُقَدِّم مكافآت سخية للمترجمين إلى حدِّ وزن الترجمة بقيمتها ذهبً[3]!
وقد ذكر ابن النديم في كتابه (الفهرست) أسماء لعشرات ممن كانوا يقومون بالترجمة من اللغات الهندية، واليونانية، والفارسية، والسريانية، والنبطية, وهؤلاء لم يقوموا بترجمة الكتب إلى العربية فقط, وإنما إلى سائر اللغات الحية المنتشرة داخل المجتمع الإسلامي؛ كي ينتفع بها جميع من يعيش داخل البلاد الإسلامية على اختلاف جنسياتهم, وبعضهم كان يقوم بترجمة الأصل إلى لغته هو, ثم يقوم مترجم آخر بنقله إلى العربية وغيرها, كما كان يفعل يوحنا بن ماسويه الذي كان ينقل الكتاب إلى السريانية, ثم يُكَلّف غيره بنقله إلى العربية، مع الاحتفاظ بالأصل بعد صيانته وتجليده[4].
ومَنْ يُرَاجِع كتب الفهارس التي نقلت عن هذه المكتبة يجد إشارات كثيرة تدلُّ على أن الكثير من الكتب كان يوجد منها نسخ نبطية، وقبطية، وسريانية، وفارسية، وهندية، ويونانية, وقد قَدَّمَ علماء المسلمين بذلك خدمة جليلة للبشرية كلها؛ بنقلهم لهذا التراث الذي كان مُهَدَّدًا بالزوال, ولولاهم ما عرف الناس في العصر الحديث شيئًا عن المصنفات اليونانية والهندية الثمينة القديمة,؛ حيث كان يُحَرَّمُ الاطلاع عليها في كثير من البلدان التي جُلِبَتْ منها, وكان يُحْرَق منها ما يُعْثَرُ عليه, كما فُعِلَ بكتب أرشميدس العالم الشهير,؛ إذ أَحْرَق الرومُ منها خمسة عشر حِمْلاً[5]!
وبالطبع لم يقتصر دور هؤلاء العلماء على الترجمة, وإنما قاموا بالتعليق على هذه الكتب، وتفسير ما فيها من نظريات, ونقلها - كما سبق أن رأينا - إلى حَيِّزِ التطبيق, وإكمال ما فيها من نقص, وتصويب ما فيها من خطأ؛ حيث كان عملهم يشبه ما يُسَمَّى بالتحقيق الآن, كما يُفْهَمُ من تعليقات ابن النديم على بعض تلك الكتب[6].
وقد ذكر القاضي صاعد الأندلسي في كتابه "طبقات الأمم" أطوار عملية الترجمة في بيت الحكمة، واهتمام الخليفة المأمون بهذه المكتبة الرائعة، فقال: "لما أفضت الخلافة إلى الخليفة السابع منهم (من العباسيين) عبد الله المأمون بن هارون الرشيد... تمم ما بدأ به جدُّه المنصور، فأقبل على طلب العلم في مواضعه، واستخراجه من معادنه، بفضل همته الشريفة، وقوة نفسه الفاضلة، فداخل ملوك الروم وأتحفهم بالهدايا الخطيرة، وسألهم صِلَتَهُ بما لديهم من كتب الفلاسفة، فبعثوا إليه بما حضرهم من كتب أفلاطون، وأرسطاطاليس، وأبقراط، وجالينوس، وأوقليدوس، وبطليموس، وغيرهم من الفلاسفة، فاستجاد لها مهَرَة التراجمة، وكَلَّفهم إحكام ترجمتها، فتُرجمت له على غاية ما أمكن، ثمَّ حضَّ الناس على قراءتها، ورَغَّبهم في تعليمها، فنفقت[7] سوق العلم في زمانه، وقامت دولة الحكمة في عصره، وتنافس أولو النباهة في العلوم لما كانوا يرون من إحصائه لمنتحليها، واختصاصه لمتقلديها، فكان يخلو بهم، ويأنس بمناظرتهم، ويلتذُّ بمذاكرتهم، فينالون عنده المنازل الرفيعة، والمراتب السنية"[8].
إن هذا النص من القاضي صاعد الأندلسي يُدلل على أن الخليفة المأمون أنشأ أكاديمية مختصة لترجمة العلوم المختلفة، واستطاع أن يجلب لها كبار المترجمين من كافة بقاع الأرض، فاستوفد أبا يحيى بن البطريق وهو من علماء الإغريق، وكذلك حنين بن إسحاق، وكان من بين المترجمين العالم الشهير ابن ماسويه[9].
وما أن انتهى عصر المأمون حتى كانت معظم الكتب اليونانية، والفارسية، وغيرها من الكتب القديمة في علوم الرياضة، والفلك، والطب، والكيمياء، والهندسة موجودة بصورتها العربية الجديدة بمكتبة (بيت الحكمة)، وفي ذلك يقول ول ديورانت صاحب كتاب (قصة الحضارة): "لقد ورث المسلمون عن اليونان معظم ما ورثوه من علوم الأقدمين, وتأتي الهند في المرتبة الثانية بعد بلاد اليونان"[10].
مركز البحث والتأليف
وهو من أهمِّ روافد المكتبة؛ حيث كان المؤلِّفُون يُؤَلِّفُون كُتبًا خاصة لهذه المكتبة، وكان هؤلاء المؤلفون يقومون بذلك داخل قسم التأليف والبحث في المكتبة، أو يقومون بذلك خارج المكتبة، ثم يُقَدِّمُون نتاج تأليفهم إليها، وكان المؤلف يُثَاب على ذلك بمكافأة سخية من قِبَلِ الخليفة[11]، بل كان النسَّاخون في بيت الحكمة يُنتقون حسب معايير خاصة، وذلك تلافيًا لأي خلط يحدث منهم، ومن ثم وجدنا علان الشعوبي -وهو من علماء القرن الثالث- ينسخ في بيت الحكمة للرشيد والمأمون[12].
المرصد الفلكي
المرصد الفلكيأنشأ المأمون هذا المرصد في حي الشماسية بالقرب من بغداد ليكون تابعًا لبيت الحكمة؛ وذلك ليكون تعليم الفلك فيها تعليمًا عمليًّا؛ حيث يُجَرِّب فيها الطلاب ما يدرسونه من نظريات علمية، وكان يعمل فيه علماء الفلك والجغرافيا والرياضيات[13]؛ مثل: الخوارزمي، وأولاد موسى بن شاكر، والبيروني ومن خلال هذا المرصد استطاع المأمون بفريقين من العلماء أن يحسب محيط الأرض[14].
المدرسة
قرَّب الخلفاءُ الذين جاءوا من بَعْدِ الرشيد العلماء الذين اشتهروا في عصرهم، وأوكلوا إليهم تعليم أبنائهم وتأديبهم، فأجزلوا لهم العطاء؛ ومن أمثال هؤلاء: الكسائي علي بن حمزة[15] الذي حَظِيَ[16] عند المأمون، وعهد إليه بتعليم ابنيه النحو، وله مؤلفات عظيمة في النحو واللغة، وابن السكيت[17]، وكان يؤدِّب ولد جعفر المتوكل[18]، وارتفعت ثقافة بعض العلماء وتنوَّعَتْ، فسُجِّلَتْ أسماؤهم مع الفقهاء، وكان البعض يأخذ أرزاقًا في هذه الطوائف كلها، كالزجاج الذي كان له رزق في الفقهاء وفي العلماء، ومبلغ ذلك 200 دينار كل شهر[19]، وقد أجرى الحاكم المقتدر على ابن دريد[20] خمسين دينارًا في كل شهر، حينما قَدِمَ بغداد فقيرًا[21].
وعندما أنشئت المدارس، وعُيِّنَ المدرسون بها أصبحت لهم مرتبات شهرية منتظمة من الخزانة العامة، أو من إيراد الأوقاف التي كانت عادة تُعَيَّنُ ليُنْفَق من ريعها على هذه المنشآت، وقد كانت هذه المرتبات تختلف باختلاف مكانة المدرِّس وريع الوقف، ولكنها كانت على العموم أميل إلى الجود والسخاء[22].
وقد حظي بيت الحكمة في عهدي الرشيد والمأمون بجعله دار إقامة للطلاب والأساتذة على حَدٍّ سواء[23].
وأمَّا عن المنهج المتَّبَع في الدراسة في بيت الحكمة، فكان يتمُّ من خلال نظامين: نظام المحاضرات، ونظام الحوار والمناظرة والمناقشة، وكان المدرس يُحَاضِرُ في بعض العلوم العالية في قاعات كبيرة، يساعده المعيد؛ فيجتمع بفئة من الطلاب، ويشرح لهم ما استغلق من المحاضرة، ويناقشهم في مادتها، والأستاذ أو الشيخ هو المرجع الأخير في موضوعه، وكان الطلاب ينتقلون من حلقة إلى أخرى؛ يعالجون في كلٍّ منها فرعًا من فروع العلم[24].
وكان التدريس يشمل من العلوم الفلسفة، والفلك، والطب، والرياضيات، واللغات المختلفة؛ كاليونانية، والفارسية، والهندية، إلى جانب اللغة العربية، وعندما يُنْهِي خِرِّيج بيت الحكمة دراسة عِلْـمٍ من العلوم يمنحه أستاذه إجازةً، تشهد بأنه قد أتقن ذلك العلم، فإذا كان من الممتازين نَصَّتِ الشهادة على أنه قد أجيز له تدريسه، فكان حقُّ مَنْحِ الشهادة للأستاذ دون غيره، وكانت طريقة المنح أن يكتب الأستاذ للخرِّيج إجازة يَذْكُر فيها اسم الطالب، وشيخه، ومذهبه الفقهي، وتاريخ الإجازة[25].