الوزارة في الأندلس
نظامها وتطورها التاريخي
لقد كانت الوزارة في تاريخ الإسلام وحضارته من المناصب المهمة، التي أضافت لحيوية وقوة الدولة الإسلامية الشيء الكثير؛ فمع مرور فترات من الضعف والوهن في مؤسسة الخلافة والحكم، وجدنا كثيرًا من الوزراء الذين كان لهم الفضل في قوة وحيوية الدولة الإسلامية، والعجيب أن هؤلاء الوزراء لم يخرجوا على مؤسسة الخلافة، التي كانت تمر بمرحلة ضعف ظاهر، كما رأينا مع المنصور بن أبي عامر (ت: 392هـ) في الأندلس، وابن العميد (ت: 360هـ) بالمشرق [1].
نشأة نظام الوزارة في الأندلس
إن نظام الوزارة في الأندلس كان يُشبه إلى حدٍّ كبير "التشكيل الوزاري" في عصرنا الحاضر، وكان رئيس الوزراء في بادئ الأمر الخليفة نفسه، ثم تطور هذا الأمر، فأصبح (الحاجب) هو رئيس الوزراء الفعلي. وقد أشار ابن خلدون إلى نظام الوزارة في الأندلس، بقوله: "وأما دولة بني أمية بالأندلس فأبقوا اسم الوزير في مدلوله أول الدولة، ثم قَسَّموا خطته أصنافًا، وأفردوا لكل صنف وزيرًا، فجعلوا لحسبان المال وزيرًا، وللترسيل (البريد) وزيرًا، وللنظر في حوائج المتظلمين وزيرًا، وللنظر في أحوال أهل الثغور وزيرًا، وجُعل لهم بيت يجلسون فيه على فرش منضدة لهم، وينفذون أمر السلطان هناك كلٌ فيما جُعِلَ له، وأُفْرد للتردُّد بينهم وبين الخليفة واحدٌ منهم ارتفع عنهم بمباشرة السلطان في كل وقت، فارتفع مجلسه عن مجالسهم وخصُّوه باسم الحاجب، ولم يزل الشأن هذا إلى آخر دولتهم، فارتفعت خطة الحاجب ومرتبته على سائر الرتب، حتى صار ملوك الطوائف ينتحلون لقبها، فأكثرهم يومئذ يسمى الحاجب .." [2].
وهذا النص السابق الذي ذكره ابن خلدون، يوضِّح أن الحضارة الإسلامية الأندلسية كانت المثال الحقيقي الذي احتذت الأمم الحالية أثره، فالمعلوم أن الدولة الأموية في الأندلس قد بدأت منذ عام 138هـ، بدخول عبد الرحمن الداخل بن معاوية بن هشام إلى الأندلس، ودخولها تحت طاعته، وهذا التقسيم السابق للوزراء -من وزير للمالية، وآخر للشئون الخارجية، وآخر للعدل، وآخر للدفاع والأمن القومي، ثم وجود رئيس للوزراء يُسَمَّى بالحاجب، ووجود دار يجتمعون فيها كرئاسة مجلس الوزراء- كان قد تمَّ بالفعل منذ فترة مبكرة من تاريخ الأندلس.
والحق أن نظام الوزارة في دولة بني أمية بالأندلس يدين في وجوده وتنظيمه للأمير عبد الرحمن الأوسط (206 - 238هـ / 822 - 852م)، أما قبل ذلك فلم يكن هناك تنظيم حقيقي لهذا الجهاز، فالأمير عبد الرحمن الداخل أنف من اتخاذ الوزراء، ولكنه اتخذ مجموعة من المعاونين والمستشارين الذين توسم فيهم الإخلاص والوفاء والكفاءة، واختصهم بمجالتسه وبذل المشورة له عندما يطلب منهم ذلك.
منهم: أبو عبده حسان بن مالك وابنه عبد الغافر؛ وشهيد بن عيسى بن شُهيد، وثعلبة بن عبيد الجذامي وغيرهم. وذكر ابن الأبار أن الأمير عبد الرحمن الداخل قد استوزر ولديه سليمان وهشام، بالإضافة إلى كل من عبد الله وإبراهيم وحكم أبناء عبد الملك بن عمر بن مروان. وذكر ابن عذاري أن عدد وزراء الأمير هشام الرضا كانوا ثمانية، بينما كان عددهم لدى ابنه الحكم الربضي خمسة وزراء [3].
عبد الرحمن الأوسط وتطور نظام الوزارة
عَدَّل الأمير عبد الرحمن الأوسط (206 - 238هـ) نظام الوزراء، فقسمها إلى عدة وزارات مختلفة، وألزم وزراءه الحضور يوميًا إلى بيت الوزارة الذي خصصه لهم في قصر الإمارة، وذلك من أجل مشاورتهم في جميع أمور الدولة. وقد تولى إدارة دولة الأمير عبد الرحمن الأوسط عدد من الشخصيات القوية أمثال: عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث، وعيسى بن شُهيد وغيرهما، وفيهم قال ابن حيان نقلًا عن ابن مفرج: "وكان قد اجتمع للأمير عبد الرحمن من سراة الوزراء أولي الحلوم والنهى والمعرفة والذكاء عصابة لم يجتمع مثلها عند أحد من الخلفاء قبلهم ولا بعدهم".
ولم يكن لأولئك الوزراء في البداية مجلس خاص بهم يجتمعون فيه فقد كان الأمير يستدعيهم متى شاء، إلا أن الأمير عبد الرحمن الأوسط نظم تواجدهم، وأصبح تنظيمه هذا معمولًا به إلى نهاية الدولة، فقد "ألزم هؤلاء الوزراء الاختلاف إلى القصر كل يوم، والتكلم معهم في الرأي، والمشورة لهم في النوازل، وأفردهم ببيت رفيع داخل قصره مخصوص بهم، يقصدون إليه ويجلسون فيه فوق أرائك ..". وعلى هذا، فالوزراء أصبح لديهم عمل رسمي يزاولونه بشكل يومي، ومجلس خاص بهم، يمارسون فيه أعمالهم كل حسب اختصاصه.
وقد شهدت الوزارة في الأندلس تقسيمات متعددة، فقد كانت تضم عدة خطط تعتبر من أخطر مناصب الدولة على الإطلاق. وهناك خطط يتقلدها أكثر من واحد في نفس الوقت، من ذلك أن خزانة بيت المال في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط كانت تحت إشراف أربعة يعرفون بالخزَّان، كما أن خطة العرض كان يتولاها أربعة من كبار رجالات الدولة، وذلك في بداية عهد عبد الرحمن الناصر. ومن الملاحظ هنا أنه عندما تسند عملية الإشراف على خطة من الخطط لأكثر من شخص واحد، فإن اختصاص كل منهم لابد أن يكون واضحًا لديه لكي لا تكون هناك ازدواجية في الأداء.
اختصاصات ومهام الوزير
وللوزير اختصاصات يعمل على عدم تجاوزها، فهو ينفذ الأوامر الصادرة إليه، ومن اختصاصات الوزير التحقيق في الشكاوى المقدمة ضد أحد أصحاب المناصب الهامة في الدولة والاجتماع بالفقهاء في بيت الوزارة للإفتاء في بعض المسائل، وكذلك الإشراف على بناء يشاد، واستقبال رؤساء الوفود الزائرة في بيت الوزارة، كما يتولى بعض الوزراء الإشراف على أحباس الخليفة في حين أن الوزير صاحب المدينة يتولى في بعض الأحيان مسئولية استنفار الناس للخروج إلى الجهاد، كما أن على كل وزير تولي قيادة الجيش ومن لم يفعل ذلك يكون عرضة للاتهام من قبل السلطة الحاكمة، وأخيرًا فإن الوزير قد يتولى الصلاة على الجنائز أحيانا.
مرتب الوزير الشهري
وللوزراء ديوان خاص تسجل فيه مرتباتهم الشهرية وأرزاقهم السنوية، إلا أننا لم نجد ذكرًا صريحًا لمقدار مرتب الوزير في الشهر. لكننا عرفنا عند الحديث عن الحجابة أن مرتب الحاجب ثمانون دينارًا في الشهر، وبما أن الحاجب أعلى مرتبة من الوزير، إذًا لابد أن يكون راتب الوزير أقل من ثمانين دينارًا.
أما ما ذكره ابن عذاري من أن رزق كل وزير من وزراء الأمير عبد الرحمن الأوسط يبلغ ثلاثمائة دينار، فإن ابن حيان قد فسر هذه النقطة، فعند حديثه عن وزراء الأمير عبد الرحمن الأوسط، ذكر أن الوزير محمد بن السليم "كانت له مع الوزارة خطط يرتزق عليها في كل شهر ثلاثمائة دينار" ولا شك أن ابن حيان مقدم على ابن عذاري في هذا المجال وإلا فما معنى أن يكون رزق الوزير فطيس بن سليمان خمسمائة دينار في ديوان الأمير الحكم الربضي؟.
وهذه المرتبات والأرزاق الواسعة، فيها دلالة على ثراء الدولة كما أنها تدل على حرص بني أمية على إكرام رجال دولتهم، والتوسيع عليهم، حتى لا يتطلعوا إلى ما بأيدي الآخرين، مما يحول دون إغرائهم بأي مقابل، مادي الأمر الذي يكفل بالتالي تسيير الأمور بصورة طيبة [4].
الوزارة في عهد الأمير محمد وابنه عبد الله [*]
وضع الأمير محمد بن عبد الرحمن الأوسط (238 - 273هـ) نظامًا جديدًا للوزارة يمتاز فيه الوزراء بنوع من التعظيم، وقدم الوزراء الشاميين على الوزراء البلديين وأعلاهم في الجلوس على كراسيهم ببيت الوزارة، وقد أقر الأمير محمد حاجب أبيه عيسى ابن شُهيد ومعظم الوزراء الذين كانوا يتولون خدمة أبيه. وفي عهد الأمير عبد الله (275 – 300هـ) ازداد عدد الوزراء، واحتلت أسرة أبي عبدة مكانة في هذا العصر حيث تولى خمسة أفراد منها الوزارة في آن واحد.
واستمر الأمير عبد الله على سياسة والده الأمير محمد في تقديم الوزراء الشاميين على الوزراء البلديين، فقد اجتمع في عهده وزير شامي وهو موسى بن حُدير، ووزير بلدي وهو عيسى بن أحمد بن محمد أبي عبدة. وأراد عيسى التقدم على صاحبه معتزًا بمكانة أبيه الوزير القائد أبي العباس صاحب الفضل في إنقاذ الإمارة من الضياع، لكن الأمير عبد الله آثر أن يظل الأمر كما رسمه أبوه للوزارة، أي قرر أن يظل بنو حدير متقدمين على بني أبي عبدة.
الوزارة في عهد الخليفة الناصر
وفي عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر (300 - 350هـ) استمرت أسرة أبي عبدة تتولى المناصب الوزارية وقد اعتمد عليها الناصر اعتمادًا كبيرًا في الشؤون الإدارية والحربية. وفي عهد هذا الخليفة أطلق لقب (ذو الوزارتين) على بعض الوزراء والحجاب في الأندلس، فقد أطلقه الناصر على وزيره أحمد بن عبد الملك بن شُهيد عام 327 هـ، وهو لقب تشريفي مثل لقب (ذو السيفين) الذي منحه الحكم لقائده غالب بن عبد الرحمن، بعد أن قلده سيفين عقب انتصاره على بقايا الأدارسة عام 364هـ [5].
الوزارة في فترة الحجابة
وفي فترة الحجابة (366 - 399هـ) قلت أهمية الوزير، مما فرض عليه من الخضوع للحاجب وتقبيل يديه، وبذلك ضعفت شخصية الوزير، ومما يدل على ذلك أن زيري ابن عطية زعيم قبيلة مغراوة الزناتية في المغرب احتقر لقب وزير الذي أنعم عليه به الحاجب المنصور، بعد مساعدته في إخماد حركة الحسن بن كنون.
والحق أن رئيس الوزراء المنصور بن أبي عامر، لم يكن مستكينًا في مكانه نمطيًّا في تحركاته وتطلعاته؛ فقد كان من أكابر الوزراء الذين جاهدوا في سبيل الله، حيث غزا مملكة ليون بنفسه عام 373هـ، وفتح برشلونة عام 374هـ، بل استطاع أن يضم بلاد المغرب العربي عام 386هـ تحت حكم الدولة الأموية في الأندلس، فكانت الدولة الأموية بالأندلس بزمن الحاجب المنصور في أكبر توسع شهدته طَوَال زمن بقائها [6].
الوزارة في عهد ملوك الطوائف
ولما سقطت الخلافة الأندلسية وقام عصر ملوك الطوائف، انحطت مرتبة الوزير وصار هذا المنصب يمنح للطبقة الوسطى من الموظفين والكتاب وشيوخ القرى. كذلك زاد استعمال الألقاب التشريفية المزدوجة مثل: ذو الوزارتين وذو الرياستين، وذو المجدين وذو السيادتين. ولكن مع هذا وجد وزراء مشهورون في هذه الفترة أمثال أبي بكر بن عمار وزير المعتمد بن عباد، والوزير ابن الحضرمي وزير المتوكل بن الأفطس صاحب بطليوس، والوزير ابن الحديدي وزير المأمون بن ذي النون صاحب طليطلة، وغيرهم كثير [7].
الوزارة في عهد المرابطين
وأصبحت الأندلس ولاية مرابطية، واحتل الوزير في عهدهم مكانًا مرموقًا، وكان الشخص المقرب من السلطان، وكان يستشيره في كل الأمور. ووجد في دولة المرابطين نوعان من الوزراء:
1 - وزراء عسكريون، وهم من قرابة السلطان، ومن قبائل لمتونة وصنهاجة.
2 - وزراء كتاب وهم من الفقهاء.
ومن الوزراء الأندلسيين الذين اعتمد عليهم السلطان المرابطي علي بن يوسف بن تاشفين، الوزير الفقيه مالك بن وهيب الإشبيلي، وهو الذي أشار على هذا السلطان بقتل محمد ابن تومرت لما استفحل أمره. واشتهر كذلك الوزير أبو بكر بن باجة العالم المشهور[8].
الوزارة في عهد الموحدين
وفي عهد الموحدين، اعتمدوا نظام الوزارة بجانب مشيخة الموحدين وعرفوا باسم العشرة أو أهل الجماعة، وكان منصب الوزير من المناصب المهمة، وقد شغله عدد من أبناء الخلفاء وإخوتهم ولذا سموا بالسادة أو الأسياد، وهؤلاء الوزراء الأسياد يتخذون غالبًا وزراء يعاونوهم.
ومن الوزراء أصحاب الأصول الأندلسية الذين وزروا للخلفاء الموحدين، أبو العلاء إدريس بن إبراهيم بن جامع وزير الخليفة أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن (558 - 580هـ)، وكان والده إبراهيم بن جامع من مدينة شريش الأندلسية وكان من أعوان ابن تومرت، وأصبح لأبي العلاء مكانة مرموقة في البلاط الموحدي. وكذلك الوزير أبو بكر محمد بن عبد الملك بن أبي العلاء بن زهر الأيادي (توفي عام 595هـ) الذي كان وزيرًا للخليفة يعقوب المنصور الموحدي (580 - 595هـ)، وكان دائم التردد بين المغرب والأندلس.
وكان وزير الموحدين أحيانًا يقوم بمهمة الإشراف على الأندلس وتفقد أحوالها، وبعضهم شارك في معارك الجهاد الأندلسية التي خاضتها القوات الموحدية والأندلسية ضد الممالك الإسبانية، واستشهدوا فيها. ونرى كذلك أن بعض حكام مدن الأندلس الموحدين يُعين لهم وزير يساعده في إدارة الولاية [9].
الوزارة في ظل مملكة غرناطة
أما نظام الوزارة في عهد مملكة غرناطة، فكان له مكانة عالية، وكان الوزير دائمًا ينوب عن السلطان، وهو الذي يهيمن على شؤون الدولة المدنية والعسكرية، ولذا كثيرًا ما كان الوزير الغرناطي يلقب بألقاب تدل على قوة نفوذه مثل: لقب الرئيس وعماد الدولة، وذي الوزارتين وغير ذلك. وتقلد منصب الوزارة في مملكة غرناطة أشخاص من علية القوم، وأشخاص عاديون، وأحيانًا من أرقاء الإسبان.
وكان لوزراء بني الأحمر أدوار سياسية مهمة من خلال المهمات التي أوكلت إلى بعضهم، فالوزير ابن الخطيب ذهب سفيرًا إلى فاس، ثم أرسل مرة أخرى إلى عدوة المغرب كي يطلب عون المرينيين لصد الخطر الإسباني. والوزير ابن زمرك قام بتسع رحلات إلى بلاد الإسبان من أجل عقد معاهدات صلح، وبعض الوزراء قاد بعض الحملات العسكرية أمثال الوزير أبي النعيم رضوان.
واكتفى بعض سلاطين غرناطة بوزير واحد، بينما نجد في عهد السلاطين الآخرين عدة وزراء، ووصل عددهم إلى خمسة وزراء، واشتهرت بعض العائلات بتولي أبنائها مناصب الوزارة مثل عائلة آل الأمين وبني عبد البر وبني سراج وغيرهم [10].