بيت المال في عهد النبي والخلفاء الراشدين
يُعتبر النظام المالي الإسلامي من أكثر الأنظمة استقلالاً، وأنبلها غاية في حضارتنا، وقد قرر القرآن الكريم هذا في قوله تعالى: {كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7]. فهدفت الحضارة الإسلامية إلى وجوب تداول الأموال بين الناس جميعًا، وعدم اقتصار ذلك على فئة الأغنياء؛ لأن ذلك مما يُسبب حرجًا في المجتمع الإسلامي، وإعلاءً لطبقة بعينها دون وجه حق.
أهمية بيت المال ووارداته
بيت المال هو المؤسسة التي تُشرف على ما يَرِدُ من الأموال وما يخرج منها في أوجه النفقات المختلفة؛ لتكون تحت يد الخليفة أو الوالي، يضعها فيما أمر الله به أن تُوضع بما يُصلح شئون الأمة في السلم والحرب[1].
وأهم واردات بيت المال: الزكاة، والخراج، والجزية، والغنيمة، والفيء، والأوقاف، وفيها جميعًا -باستثناء الأوقاف- معنى الضريبة على الثروة والأرض والأنفس[2].
وأما اختصاصات بيت المال فكل مالٍ استحقَّه المسلمون، ولم يتعيَّن مالكه منهم فهو من حقوق بيت المال، وكلُّ حقٍّ وجب صرفه في مصالح المسلمين فهو حقٌّ على بيت المال[3]، وبناء على هذا التعريف فإن بيت المال من أهم المؤسسات الحضارية الإسلامية، فهو الجهة الوحيدة المخولة للصرف على مصالح المسلمين المتفاوتة؛ ولذلك فهو يجمع اختصاصات وزارة المالية والبنك المركزي في عصرنا الحاضر.
مصروفات بيت المال
تنحصر مصروفات بيت المال في:
أولاً: رواتب الولاة والقضاة، وموظفي الدولة، والعمال في المصلحة العامة، ومن هؤلاء أمير المؤمنين، أو الخليفة نفسه.
ثانيًا: رواتب الجند والعسكر.
ثالثًا: تجهيز الجيوش وآلات القتال من سلاح، وذخائر، وخيل، وما يقوم مقامهما.
السدود والجسوررابعًا: إقامة المشروعات العامة من جسور، وسدود، وتمهيد الطرق، والمباني العامة، ودور الاستراحة،
والمساجد.
خامسًا: مصروفات المؤسسات الاجتماعية؛ مثل: المستشفيات، والسجون، وغير ذلك من مرافق الدولة.
سادسًا: توزيع الأرزاق على الفقراء واليتامى والأرامل، وكل من لا عائل له, فالدولة تعوله وتكفله.
ومن العرض السابق يتضح لنا النظام الاقتصادي الدقيق الذي ابتكرته الحضارة الإسلامية في خطواتها الأولى، ومبكرًا جدًّا قبل أي حضارة أخرى سابقة؛ فهي صاحبة السبق في تنظيم الموارد والمصارف المالية الخاصة بالدولة، ويبقى بعد هذه الموارد والمصارف كلها أنه قد تفاجأ الدولة بكارثة أو مجاعة، أو قحط شديد، أو وباء قاتل، وهنا يكون ندب الأغنياء من المسلمين من غير إكراه للصدقة والعطاء لإنقاذ جمهور المسلمين، كما فعل عثمان بن عفان مع المجاعة في عهد أبي بكر الصديق عندما تصدق بأموال طائلة لنجدة المسلمين، وكما فعل عبد الرحمن بن عوف أيام عمر بن الخطاب ، وأمثال ذلك كثير عبر التاريخ الإسلامي؛ مما يضمن استمرارية تدفق الأموال على خزينة الدولة، دون إكراه أو مصادرة أو إجبار[4].
بيت المال في عهد النبي
وقد أسَّس المسلمون بيت المال منذ عهد النبي ؛ فقد كان النبي يُعين أمراء وعمال الأقاليم، وكانت مهمة كل أمير أن يقوم بجمع الصدقات والجزية وأخماس الغنائم والخراج، وأحيانًا كان رسول الله يُرسل عاملاً مختصًّا بالنواحي المالية، تنحصر مهمته بجمع مستحقات الدولة من الأموال (الخراج، والجزية، والعشور، والصدقات) ويدفعها إلى بيت مال المسلمين، كما فعل رسول الله مع معاذ بن جبل ، حينما بعثه إلى اليمن لقبض الصدقات من عمالها، ومع أبي عبيدة بن الجراح حينما أرسله إلى البحرين ليأتيه بجزيتها...[5].
إن تأسيس بيت مال المسلمين منذ عهد النبي يُدلل على دقة النظم المالية الإسلامية منذ هذا العهد المبكر؛ ولذلك كان من الطبيعي أن تتقدم مؤسسة بيت المال وتتطور تبعًا للعصور المختلفة.
بيت المال في عهد عمر بن الخطاب
وحينما اتسعت فتوحات الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة، وخاصة في عهدي عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان ، حيث فتحت الشام والعراق ومصر والجزيرة والجبل وأرمينيا والري وأذربيجان وأصبهان في عهد عمر بن الخطاب ، وفُتحت كرمان، وسجستان، ونيسابور، وفارس، وطبرستان، وهراة، وبقية أعمال خراسان وإفريقية في عهد عثمان ، كان من الطبيعي أن تفد الأموال بصورها المختلفة إلى مقر الخلافة الإسلامية في المدينة النبوية[6].
وقد جعلتْ كثرة هذه الأموال الفاروق عمر يبكي وهو يُشاهد الغنائم تتوارد تترى إلى المدينة، محملة بكنوز الذهب والفضة والحجارة الكريمة، وملايين الدراهم والدنانير، والعبيد والأقمشة... وغيرها من الثروات، ومن ثم أمر عمر على الفور بوضع نظام الديوان، فرتّب لرعيته، وفرض للأجناد، كما ذكرنا من قبل في ديوان العطاء[7].
وكانت سياسة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب تقوم على عدم ادِّخار الأموال في بيت المال للنوائب؛ بل كان يجري توزيعها لمستحقيها أولاً بأول، فيذكر ابن الجوزي أن عمر "كان يأمر بكسح[8] بيت المال مرة في السنة"[9]. أي أنه كان يُفرغُ بيت المال مما فيه، لتوزيعه على مستحقيه كل عام، ولا غرو أن هذا العمل من الأعمال الجليلة التي قامت بها الحضارة الإسلامية؛ فقد حرصت مؤسسة الخلافة منذ فترة مبكرة على إشراك الرعية في أخذ أنصبتها التي قسمتها الدولة فيما بينهم، في وقت معلوم من كل عام دون تأخير أو تلكؤ، وذاك نوع من أنواع التكافل والنظام الممنهج بين الراعي والرعية.
في عهد علي بن أبي طالب
أموال وذهبكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب t يُقَسِّم أموال بيت المال كل جمعة؛ "حتى لا يُبقي فيه شيئًا"[10]خوفًا من فتنة المال على الراعي والرعية، ولذلك دخل بيت المال ذات مرة: "فوجد الذهب والفضة، فقال: يا صفراء اصفري، ويا بيضاء ابيضي، وغُرِّي غيري، لا حاجة لي فيك"[11].
واللافت للنظر أن الخلفاء قد اتبعوا سياسة تقضي بالفصل بين الإدارتين السياسية والمالية؛ منعًا للبس، وتفاديًا للمشكلات، وفصلاً للسلُطات؛ فقد عين عمر بن الخطاب عمار بن ياسر على إمارة الكوفة، وبعث معه عبد الله بن مسعود على بيت المال، وجعله "مُعلِّمًا ووزيرًا"[12].