إسهامات المسلمين النظرية في نظام الوزارة
إسهامات ابن المقفع
الوزارة والخلافةنتيجة لظهور منصب الوزارة في الخلافة العباسية منذ اليوم الأول لوجودها، وجدنا المؤلفات الكثيرة التي اعتنت بهذه القضية، سواء من ناحية الضوابط الفقهية، أو الآداب العامة التي لا بُدَّ أن تتجلَّى فيمن نال الوزارة، فمِن أوائل من كتبوا في هذا الأمر نجد ابن المقفع القائل: "لا يُستطاع السلطان إلا بالوزراء والأعوان، ولا تنفع الوزراء إلا بالمودة والنصيحة"[1].
إسهامات ابن أبي الربيع
ووجدنا ابن أبي الربيع[2] يقول في كتابه "سلوك المالك في تدبير الممالك": "اعلم أنه لا بُدَّ لمن تقلَّد الخلافة والملك من وزير على نظم الأمور، ومعين على حوادث الدهور، يكشف له صواب التدبير، ألا ترى إلى نبينا مع ما خصَّه الله تعالى به من الإكرام، وآتاه من الآيات العظام، ووعده بإظهار الدين، وأيَّده بالملائكة المقرَّبين، وهو مع ذلك مُوَفَّق للصواب، مُؤَيَّد للرشاد، اتخذ علي بن أبي طالب وزيرًا، فقال : "أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى[3]"[4]... فلو استغنى أحد عن المؤازرة والمعاضدة برأيه وتدبيره، لاستغنى نبينا محمد وموسى صلوات الله عليهما وسلامه؛ فالوزير هو الشريك في الملك، المدبِّرُ فيه بحفظ أركانه، المدبر بالقول والفعل"[5].
إسهامات الماوردي
الاحكام السلطانية المورديويأتي الماوردي على رأس من كتبوا في النظام السياسي الإسلامي، فعني بنظام الوزارة، وخصص لها فصلاً مستقلاً، وقد قَسَّم الوزارة إلى قسمين: وزارة تفويض، ووزارة تنفيذ؛ فأما وزارة التفويض فهي أن يستوزر الخليفة من يُفَوِّض إليه تدبير الأمور برأيه، وإمضاءَها على اجتهاده[6]، ولا شكَّ أن مثل هذا المنصب دليل على مرونة مؤسسة الحكم والخلافة، التي لم تتخذ موقف الإدارة المركزية في كل شاردة وواردة، وإنما كان هذا المنصب تلبية لحاجة المسلمين، وتيسيرًا لشئونهم وأحوالهم، ومن أهم وزراء التفويض في الحضارة الإسلامية يأتي جعفر بن يحيى البرمكي الذي كان يُلقَّب بالسلطان أيام الخليفة العباسي الرشيد، وذلك "إشارة إلى عموم نظره وقيامه بالدولة"[7]، وكذلك يأتي نظام الملك في مُقَدِّمة هؤلاء في الحضارة الإسلامية المشرقية، والمنصور بن أبي عامر، في الحضارة الإسلامية الأندلسية، كما أوضحنا في المقال السابق.
وأما وزارة التنفيذ فهي أقلُّ شأنًا من وزارة التفويض؛ لأن النظر فيها مقصور على رأي الخليفة وتدبيره، ويكون عمل هذا الوزير أن يُؤَدِّيَ عن الخليفة ما أَمَرَ، ويُنَفِّذُ عنه ما ذَكَرَ، ويُمْضِي ما حَكَمَ[8]، ومعظم الوزراء في الحضارة الإسلامية على شاكلة هؤلاء، يُعَـيِّنهم الخلفاء؛ لتنفيذ ما يأمرون في الأمور المالية أو العسكرية أو الاجتماعية.
إسهامات الطرطوشي
سراج الملوك الطرطوشيوخصص الطرطوشي في كتابه "سراج الملوك" فصلاً عن الوزراء وصفاتهم، وقد أوضح أن أهم ما يُفيد الملك والخلافة من الوزير أمران؛ هما: "علمُ ما كان يجهلهُ، ويُقوِّي عنده علمُ ما كان يعلمه"[9]. كما حذَّر الطرطوشي الخلفاء والأمراء من أن يلي الوزارة لئيمٌ؛ لأن "اللئيم إذا ارتفع جفا أقاربه، وأنكر معارفه، واستخفَّ بالأشراف، وتكبَّر على ذوي الفضل". ثم يُورد ما يؤكد وجهة نظره بواقعة حدثت بين سليمان بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز، فقال: "لما أراد سليمان بن عبد الملك أن يستكتب كاتب الحجاج يزيد بن أبي مسلم، قال له عمر بن عبد العزيز: أسألك بالله يا أمير المؤمنين، أن لا تحيي ذِكْرَ الحجاج باستكتابك إياه. فقال: يا أبا حفص، إني لم أجد عنده خيانة دينار ولا درهم. قال عُمر: أنا أُوجدك من هو أعفُّ منه في الدينار والدرهم. قال: ومن هو؟ قال: إبليس ما مس دينارًا ولا درهمًا، وقد أهلك هذا الخلق"[10].
إسهامات الشيزري
وقد أوضح الشيزري (ت 589هـ) في كتابه "المنهج المسلوك في سياسة الملوك" أقسام الوزارة على غرار ما رأينا عند الماوردي، وقد أكد الشيزري في كتابه على ضرورة أن يتصف الوزير بعشر صفات واجبة التحقق؛ وهي: العلم، والسن، والأمانة، وصدق الحديث، والقناعة، والمسالمة، وقوة التذكُّر، والذكاء والفطنة، وألا يكون من أهل الأهواء، وأن يكون من أهل الكفاية[11].
إسهامات محمد علي القلعي
وكتب محمد بن علي القلعي (ت 630هـ) كتابه " تهذيب الرياسة وترتيب السياسة"، وقد حوى هذه الكتاب الكثير من القصص والأخبار التي تُعين الخلفاء والولاة والسلاطين على سياسة إماراتهم على بصيرة، من خلال تجارب الأولين في هذا المضمار، وقد قسَّمه القلعي إلى قسمين؛ فأما الأول منه فيشتمل على "أنواع أبواب يحتوي على غرر من كلام الحكماء، ودرر الفصحاء ما ينسبكُ في قالب الأمثال الشاردة، وينتظم في سلك الحكم الواردة...".
وأما القسم الثاني، فـ"بحكايات من الخلفاء ووزرائهم، وعمالهم وأمرائهم؛ مما يدل على نبلهم وغزارة فضلهم، وحسن سيرتهم، وكمال مروءتهم، وما اشتملت عليه طرائقهم"[12]. وحديثه عن الوزارة إيرادٌ للأمثال والحكم التي قيلت من الحكماء والخبراء في هذا الشأن، وبعض أهم الأشعار التي قيلت في حق الوزارة والوزراء[13].
إسهامات ابن خلدون
أما عبد الرحمن بن خلدون (ت 808هـ)، فأبدع وأظهر آليات الوزارة في "المُقَدِّمَة"، وتاريخية تطورها في كل مراحل الحضارة الإسلامية بدءًا منذ عهد رسول الله ، وانتهاء بوقته وعصره، وفي كل عَرْضٍ لمنصب الوزارة من خلال بعض الروايات التاريخية يتبعه بتفسير وتحليل لسمو منصب الوزارة في تلك الخلافة، وأُفولها في تلك الدولة؛ وذلك دليل على عمق نظرته في المنظومة السياسية الإسلامية، فعند حديثه عن الوزارة في عهد الدولة الأموية يذكر أنها "أرفع رتبهم يومئذ في سائر دولة بني أمية، فكان النظر للوزير عامًّا في أحوال التدبير والمفاوضات، وسائر أمور الحمايات والمطالبات، وما يتبعها من النظر في ديوان الجند، وفرض العطاء بالأهلية وغير ذلك"[14].
ولا شكَّ أن رؤيته السياسية والحضارية للدول الإسلامية، أصبحت فيما بعد علمًا يُطلق عليه علم الاجتماع.
إسهامات شمس الدين بن الأزرق الغرناطي
بدائع السلك في طبائع الملكوجاء شمس الدين بن الأزرق الغرناطي (ت 896هـ) يحذو خُطا ابن خلدون في نظرته الاجتماعية ورؤيته السياسية، ففي كتابه "بدائع السلك في طبائع الملك" نراه يُخصص بابًا عن "الأفعال التي تقام بها صورة الملك ووجوده"، ويجعل ركنها الأول تنصيب الوزير، ويستدلُّ على أهمية ذلك بالأدلة العقلية والشرعية، والكتابُ شبيهٌ بكتب الفلاسفة والمنطقيين، في تقسيماته وتفريعاته[15].
ولعلنا بعد هذه الجولة السريعة ندرك عظمة الإسهامات الإسلامية في مجال الوزارة، خاصة أن الأمم الأوربية، ومن قبلها الحضارات السابقة لم يكن لها أي إسهام لا من قريب ولا من بعيد في هذا المجال.