البيعة في عصور الخلافة الإسلامية المختلفة
بيعة المسترشد بالله العباسي
البيعة في عصور الخلافة الاسلاميةلما كانت البيعة أمرًا في غاية الأهمية، وركنًا أساسيًّا في بدء الاستخلاف، فإنها لم تنقطع في عصور الخلافة و الحضارة الإسلامية المختلفة، حتى في مراحل ضعف مؤسسة الخلافة وجدنا أمر البيعة لازمًا، وواجب التحقق، ففي ظلِّ تَحَكَّم السلاجقة في أمور المسلمين وشئونهم، وجدنا المسلمين يحرصون على أخذ البيعة، بل رأينا قاضي القضاة في بغداد أبو الحسن الدامغاني يأخذ البيعة للخليفة الجديد المسترشد بالله وذلك في عام 485هـ[1].
ولأهمية أمر البيعة حرص المسترشد بالله على مبايعة كبار العلماء، والتحقق من قبولهم له بنفسه؛ فقد ذكر عالم بغداد وشيخ الحنابلة في عصره أبو الوفاء بن عقيل أنه "لما وَلِي المسترشد بالله تلقَّاني ثلاثة من المستخدمين، يقول كل واحد منهم: قد طلبك أمير المؤمنين. فلما صرتُ بالحضرة، قال لي قاضي القضاة، وهو قائم بين يديه: مولانا أمير المؤمنين ثلاثُ مرات. فقلتُ: ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس. ثم مددتُ يدي، فبسط لي يده الشريفة، فصافحْتُ بعد السلام، وبايعتُ، فقلتُ: أُبايع سيدنا ومولانا أمير المؤمنين المسترشد بالله على كتاب الله، وسنة رسوله، وسنة الخلفاء الراشدين، ما أطاقَ واستطاعَ، وعلى الطاعة مني"[2].
فهذا التقليد المتوارث منذ عهد النبي يُدلل على حرص مؤسسة الخلافة على إشراك رعاياها في اختيار حاكمهم الجديد، ومن دون شكٍّ فإن هذا إعلاء لشأن هذه الحضارة العريقة، التي اهتمَّت أشدَّ الاهتمام بأمر الرعية، وحرصت أن يكون حاكمها متوافقًا مع طبقات الشعب المختلفة، بدءًا بمؤسسة القضاء، ومرورًا بالعلماء، وانتهاءً بعامة الناس وسوادهم.
بيعة الأمراء المستقلين
ومما يُدلل على أن البيعة في الحضارة الإسلامية كانت ميسمًا عامًّا، أن الأمراء المستقلين بولاياتهم كانوا شديدي الحرص على أخذ البيعة لأنفسهم أو لأولادهم من بعدهم من رعيتهم، لا فرق في ذلك بين أمراء المشرق أو أمراء المغرب والأندلس، أو بين أمير مُسن أو صغير؛ فهذا إدريس بن إدريس بن عبد الله، أمير دولة الأدارسة في المغرب الأقصى، قد أخذ البيعة لنفسه وهو في الحادية عشرة من عمره، ولا عجب في ذلك فقد كان فصيحًا نابهًا، قادرًا على تحمل المسئولية؛ إذ صعد إِدْريس المنبر "وخطب الناس فقال: الحمد لله، أحمده وأستغفره، وأستعين به، وأتوكل عليه، وأعوذ به من شرِّ نفسي، ومن شرِّ كل ذي شرٍّ، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، المبعوث إلى الثقلين بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه، وسراجًا منيرًا، صلى الله عليه وعلى آل بيته الطاهرين، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا، أيها الناس، إنَّا قد وُلِّينا هذا الأمر الذي يُضاعَفُ فيه للمحسن الأجر، وعلى المسيء الوزرَ، ونحن والحمد لله على قصدٍ، فلا تمدُّوا الأعناقَ إلى غيرنا، فإن الذي تطلبونه من إقامة الحق إنما تجدونه عندنا. ثم دعا الناس إلى بيعته، وحضَّهم على التمسُّك بطاعته، فعجب الناس من فصاحته وقوة جأشه على صِغَر سنه، ثم نزل فتسارع الناس إلى بيعته، وازدحموا عليه يُقَبِّلون يده، فبايعه كافة قبائل المغرب: من زناتة، وأوربة، وصنهاجة، وغمارة، وسائر قبائل البربر، فتمت له البيعة"[3].
وهذه البيعة -التي تمت لفتًى لم يتجاوز عمره الحادية عشرة، من وجوه الناس وأعيانهم، ومن قبائل البربر المشهورة بالعصبية وبالثورات- لهي من الحوادث الفريدة في الحضارة الإسلامية، فهي تُدلل على أن الأمير إدريس بن إدريس كان يملك المؤهلات الكافية لتحمُّله أعباء مسئولية الإمارة في منطقة شائكة في بلاد المغرب الأقصى، فلم يكن لعامل السن أدنى اعتبار، فكانت البيعة تعبيرًا جماعيًّا عن الإعجاب بشخص إِدْريس، ومن ثَم قدرته على تسيير شئون الرعية.
عظمة البيعة في الحضارة الإسلامية
إذن كانت البيعة في الحضارة الإسلامية نموذجًا للعطاء الإنساني، وتقديرًا لدور الفرد -رجلاً أو امرأة، صغيرًا أو كبيرًا- في هذه الحضارة، بل وأسبقية مطلقة من الحضارة الإسلامية على الحضارة الغربية المعاصرة، التي أعطت الحرية الفردية المشروطة، واعترفت بقيمة الإنسان "الأرستقراطي" دون سواه في القرن الثالث عشر الميلادي، وبالتحديد في عام 1215م، حينما تعهَّد الملك جون ملك بريطانيا بحماية مصالح النبلاء[4]، وقد عدَّ البعض ذلك تطورًا مهمًّا في نظرة الحكومة البريطانية لقيمة الإنسان وحريته، بل وافتخر هؤلاء أنهم أدركوا قيمة الإنسان "الأرستقراطي" أخيرًا في القرن الثالث عشر الميلادي، واعتبروا ذلك سبقًا فريدًا من نوعه، على حين أن الحضارة الإسلامية لم تُفَرِّق في تعاملاتها بين الغني والفقير، وجعلت آراء الرعية المسلمة من خلال البيعة فيصلاً مهمًّا حول مدى شرعية الحاكم الجديد، ومدى قبول الناس له.