شروط الخلافة في النظام السياسي الإسلامي
عند الحديث عن شروط الخلافة الإسلامية، فإننا نعني بها تلك الشروط التي وضعتها الشريعة الإسلامية، واتفقت الرعية من العلماء والعامة على ضرورة تحققها ووجودها في الراعي، قبل توليته مقاليد الحكم، ومراسم الخلافة.
ومما لا ريب فيه أن التأمل في هذه الضوابط والشروط، ومقارنتها بالضوابط التي تعارفت عليها المجتمعات الفارسية والرومية في زعمائها وحكامها، ليأخذنا نحو الإبهار الحقيقي، والتقدم الحضاري الذي وصلت إليه الحضارة الإسلامية على صعيد مؤسسة الحكم الإسلامية.
إن الإسلام جاء ليرفع من قيمة الإنسان، ويجعل كل إنسان خليفة لله في أرضه، بيد أنه حافظ في ذات الوقت على وحدة الجماعة الإسلامية، من خلال وضع مجموعة من الأنظمة والضوابط التي تجعل هذه الأمة في مصافِّ الأمم الأخرى، بل أعظم وأفضل.
إذن حقق الإسلام المعادلة الصعبة التي كانت مفتقدة في الأنظمة السابقة وكذا اللاحقة، هذه المعادلة التي تقوم على ضرورة تحقيق شرع الله في الأرض، مع حفظ الحقوق الكاملة للراعي، وإجابة كل المتطلبات الشرعية التي تحتاجها الرعية؛ مسلمة كانت أم غير مسلمة، ولا عجب أن نجد هذه المعادلة ظاهرة جلية في المؤسسة السياسية الإسلامية بأصولها وفروعها.
شروط الخلافة الإسلامية
كتاب الاحكام السلطانيةولما كان منصب الخليفة أو أمير المؤمنين أو رئيس الدولة المسلمة، من أهم المناصب على الإطلاق؛ فبه تقوم "حراسة الدِّين وسياسة الدُّنيا"[1]، وجدنا فقهاء ومجتهدي الإسلام يضعون مجموعة من الشروط الواجب توافرها فيمن يتولى هذا المنصب، وقد حددها الإمام الماوردي بسبعة شروط، وهي:
الأول: العدالة على شروطها الجامعة.
والثاني: العلم المؤدِّي إلى الاجتهاد في النَّوازل والأحكام.
والثالث: سلامة الحواسِّ من السَّمع والبصر واللِّسان؛ ليصحَّ معها مباشرة ما يدرك بها.
والرابع: سلامة الأعضاء من نقصٍ يمنع عن استيفاء الحركة وسرعة النهوض.
والخامس: الرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح.
والسادس: الشجاعة والنجدة المؤدِّية إلى حماية البيضة وجهاد العدوِّ.
والسابع: النسب وهو أن يكون من قريشٍ لورود النصِّ فيه وانعقاد الإجماع عليه[2].
ومن دون شكٍّ فإن مؤسسة الخلافة قد أخذت في عين الاعتبار هذه الشروط، فسارت على نهجها، واهتمَّ عامة المسلمين بضرورة تحققها ووجودها في خليفتهم، ووجدنا كثيرًا من خلفاء المسلمين قد اتصفوا بهذه الصفات التي حددها الفقهاء، فهذا عبد الملك بن مروان بن الحكم (ت 86هـ)، يصفه ابن قتيبة الدينوري في كتابه "الإمامة والسياسة"، وذلك في مستهلِّ حديثه عن بدء خلافته للمسلمين بقوله: "إن عبد الملك بن مروان... وعد الناس خيرًا، ودعاهم إلى إحياء الكتاب والسنة، وإقامة العدل والحق، وكان معروفًا بالصدق مشهورًا بالفضل والعلم، لا يختلف في دينه، ولا ينازع في ورعه، فقبلوا ذلك منه، ولم يختلف عليه من قريش أحد، ولا من أهل الشام"[3].
فعامة المسلمين قد بايعوا عبد الملك بن مروان نتيجة لتلك الصفات الذي ذكرها ابن قتيبة، وهذه الصفات هي من جملة الشروط التي وضعها فقهاء الإسلام فيمن تحلى برتبة الخلافة، وهذا الأمر لافت للانتباه؛ إذ لم تكن تقييمات الفقهاء وشروطهم - التي استنبطوها من كتاب الله وسنة رسول الله رَّد كلام نظري عابر لا دخل للمجتمع به، بل على النقيض من ذلك تمامًا، فقد كانت ثمة علاقة وثيقة بين ما يقرُّه الشرع الحنيف، وما يترتَّب عليه من تطبيق في أرض الواقع الإسلامي، وهذا ما وجدناه في أمر الخلافة أو الإمامة الكبرى كما ذكر فقهاء الإسلام.
شروط الحاكم بين الإسلام والإمبراطوريات الأخرى
وإذا ما تأكَّدنا من أن منصب الخلافة كان منضبطًا في حضارتنا الإسلامية بتلك الضوابط الشرعية، وأن الخليفة ما هو إلا بشر، قد تميز عن الآخرين بمميزات جعلته يتأهل إلى هذا المنصب، إلا أن ذلك لم يُعفه من المساءلة أمام الرعية، أو يُصبغ نفسه بصبغة التأله- التي لمسناها في الإمبراطورية الفارسية أو الرومية - تيقنَّا أن منصب الخلافة الإسلامية كان منصبًا إنسانيًّا، ونعني بذلك حفظ حقوق الرعية، وضرورة تحقيق العدل بينهم جميعًا، وهو ما لم يحرص عليه ملوك الفرس والروم.
فكسرى إمبراطور فارس، كان في عُرف الثقافة الفارسية بمثابة إله، وقد ظهر هذا جليًّا في تعامل ملوك الفرس مع رعيتهم، حتى أطلق كثيرٌ منهم العنان في البطش وجمع الأموال واستعباد الرعية، وأكبر مثال على ذلك كسرى الثاني، الملك الذي سمى نفسه "الرجل الخالد بين الآلهة، والإله العظيم جدًّا بين الرجال، صاحب الصيت الذائع الذي يصحو مع الشمس، والذي يهب عينيه للنيْل"[4]، وقد وصفه أرثر كريستنسن في كتابه "إيران في عهد الساسانيين" بأنه: "قد ظلم الشعب ليملأ خزائنه، كما أنه لم يَرْعَ العظماء أيضًا. كان حقودًا شديد الشكِّ، ينتهز الفرص ليقتل من يَشُكُّ فيه مِنَ الذين أخلصوا في خدمته"[5].
ولقد كانت تولية حكم كسرى الفرس تتم عن طريق الوراثة، دونما أي ضابط اجتماعي أو ثقافي أو سياسي يحكم هذا الأمر، فلم يكن للشعب أدنى قيمة في عرف ملوك الفرس، وهذا أمر لا يُستغرب إذا عرفنا أن الدولة الفارسية كانت مُقَسَّمة من الناحية الاجتماعية إلى طبقات أربع بعضها فوق بعض، وهي: طبقة رجال الدين، وطبقة رجال الحرب، وطبقة كُتاب الدواوين، وطبقة الشعب (الفلاحين والصناع...)، وهذه الطبقات الاجتماعية كلها، كانت دون طبقة الأسرة المالكة (الساسانيين)[6].
وكذلك كان الأمر بالنسبة إلى الرومان، فالسلطة التي كانت تُمْنَح للإمبراطور كانت سلطة مطلقة، وهي تفويض شعبي لشخص الإمبراطور الذي كان يحكم بالحديد والنار، ولا سبيل للشعب بأن يُقاوم هذه السلطة ولو كانت مستبدَّة عاتية[7].
ووصل التدهور في تعيين الإمبراطور إلى أدنى مراحله، حينما استبدَّ العسكريون بشئون الإمبراطورية، وسار الإمبراطور الروماني من جملة قُوَّاد الجيش؛ فقد أحاط هؤلاء الأباطرة العسكريون مناصبهم بهالة من القدسية، بعدما صارت بيدهم مقاليد الأمور، والحلّ والنهي، ولم يكن هناك رادع يردُّ هؤلاء المستبدين من العلماء أو الرعية، ومن ثَمَّ كان من الطبيعي مع هذه الأحداث أن يُطلق على الإمبراطور أوريليان[8] عندما تولى مقاليد الحكم عام 270م لقب السيِّد والإله، بل تفاقم الأمر في عهد الإمبراطور دقلديانوس – أشهر وأقسى أباطرة الرومان- الذي شهدت الإمبراطورية في عهده النموذج المثالي لمعنى الإمبراطور الفاسد[9]!
والحق أن الضوابط الفقهية والأخلاقية التي وضعها علماؤنا، كانت متمثِّلَة في كثير من خلفاء المسلمين، فهذا أمير المؤمنين هارون الرشيد رحمه الله يعفو عن أحد المسيئين في حقِّه عندما يُذَكِّره بالله[10]، ولا نجد مِثْل هذا عند أحدٍ من ملوك الفرس أو الروم، وليس هذا الأمر استعراضُ عدلِ خلفاء المسلمين، بقدر ما هو تطبيق منهم بما أَقَرَّته ضوابط الدين في هذا الشأن.