روائع الإدارة في الحضارة الإسلامية
إن من أكثر ما يدلُّ على رُقِيِّ الأُمَّة وتحضُّرِهَا تلك النظم والمؤسسات التي يتعايش بنوها من خلالها، فتَحْكُمهم وتنظِّم أمورهم ومعايشهم؛ لتمنحهم في النهاية حياة إنسانية كريمة، وهذا ما سنراه في مقالنا هذا!
لقد اعتُبر منصب الوزارة في تاريخ الحضارة الإسلامية من أهم الوظائف، وقد تناول كثير من فقهاء وسياسي الإسلام الحديث عن حيوية هذا المنصب، فيذكر الماوردي (ت450هـ) أن "كل ما وُكل إلى الإمام من تدبير شئون الأمة لا يقدر على مباشرته جميعه وحده، إلا بالاستنابة والاستعانة، فكانت نيابة الوزير المشارك له في التدبير أصحّ في تنفيذ الأمور من تفرده بها ليكون في ذلك أبعد من الزلل، وأمنع من الخلل، والاستعانة بالغير يضمن العمل"[1].
وقد انتهى إلينا العمل اليومي لأحد الوزراء من بني الفرات وهي أسرة وزرت لبني العباس زمنا طويلاً منذ بداية القرن الرابع الهجري؛ فقد كان "من عادته أن يغدو (أي الوزير) إليه الكُتَّاب فيواقفهم على الأعمال، ويسلم إلى كل منهم ما يتعلق بديوانه، ويوصيه بما يريد وصاته به، ثم يروحون إليه بما يعلمونه من أعمالهم، فيوافقهم عليها، وعلى ما أخرجوه من الخُروج، وأمضوه من الأمور، ويقيمون إلى بعض من الليل. وإذا خفّ العمل، وقد عرضت عليه في أثنائه الكتب بالنفقات وغيرها، نهض من جلسته، وانصرفت الجماعة بعد قيامه"[2].
أما ديوان الإنشاء فكان يُعنى بالكتابة والرسائل والعلاقات الوثائقية والدبلوماسية بين الدولة الإسلامية وغيرها، وظهر هذا الديوان منذ النبي صلى الله عليه وسلم فقد اتخذ عددًا من الكتاب قَدَّرتهم بعض المصادر بما يزيد على الثلاثين كاتبًا[3].
وكان ديوان الإنشاء يُفَوَّض إلى كاتب يُشرف عليه ويقوم بإدارته، فكان عبد الحميد ابن يحيى العامري (ت132هـ) الملقب بعبد الحميد الكاتب، من أشهر كُتَّاب الخلافة الأموية، وأشهر كُتَّاب الحضارة الإسلامية فيما بعد، فلمنزلته المرموقة في دولة بني أمية اتخذه مروان بن محمد (ت 132هـ) آخر خلفائهم بمثابة وزير له، بجوار وظيفته الأساسية ككاتبٍ للإنشاء والرسائل.
ويُعَدُّ عبد الحميد الكاتب أول من وضع القواعد العامَّة، والسمات الرئيسة التي يجب أن تتوفَّر في كاتب الإنشاء، ولمكانته العليا في هذا الميدان قيل: «فُتِحَت الرسائل بعبد الحميد وخُتِمت بابن العميد»[4].
ولذلك فإن تلاميذه قد احتلُّوا المكانة المرموقة في الدولة لا سيما عند مؤسسة الخلافة، فكان من جملة تلاميذه يعقوب بن داود، الذي عُيِّن وزيرًا للخليفة العباسي المهدي[5].
ومن جملة الدواوين التي كونت النظام الإداري للدولة الإسلامية ديوان العطاء وكانت مهمته تتمثَّل في: إحصاء المجاهدين، وتثبيت أسمائهم مع انتماءاتهم العرقية والجغرافية، وتثبيت العطاء لهم، وتحديد رواتبهم ومواعيدها، مع تثبيت تسليحهم، وذلك تسهيلاً على المقاتل، وإعانة لأهله وعائلته ومعاشه[6]، ولقد أجمعت كتب التاريخ على أن أول من أنشأ ديوان العطاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وقد بحث رضي الله عنه عن أي الآليات أفضل في تقسيم هذه الأموال بين الناس، فقعّد مجموعة من الأسس العامة للعطاء؛ منها: درجة النسب من رسول الله ﷺ، والسبق في الإسلام والجهاد، وفَضَّل أهل الجهاد على قدر براعتهم في القتال، وكذلك البُعد والقرب من أرض العدو[7].
وكان لديوان العطاء أهمية تاريخية في البتِّ في القضايا المختلف فيها، كوفاة أحد الرجال، فقد كان يُعرف من خلال هذا الديوان وفيات كثير من الأعيان ممن لم يُعثر لهم على تاريخ للوفاة في مكان آخر، ومن ثم فهو بمثابة دار للوثائق القومية في كل أقطار الخلافة الإسلامية[8].
وأما الأوقاف الإسلامية وهو نظام خيري مبتكر لم يوجد في حضارة سابقة؛ فقد ظلَّت في يد مستحقِّيها، أو نُظَّار الوقف حسب ما جاء في شروط الواقف، دون أن يكون للدولة الإسلاميَّة تَدَخُّلٌ مباشر فيه؛ حتى تولَّى قضاء مصر القاضي الأموي توبة بن نمر الحضرمي، وذلك في زمن هشام بن عبد الملك؛ الذي لاحظ تداوُل الوقف بين أهله ونُظَّاره، فرأى أن يجعل من نفسه مُشْرِفًا عليه؛ حفاظًا عليه من أن يُعبَث به، أو أن ينصرف عن شروط وقفيَّتِه[9].
واستمرَّ الأمر كذلك حتى كان النصف الأوَّل من القرن الرابع الهجري، فأصبح للأوقاف مُتَوَلٍّ مستقلٌّ يُشْرِف على شئونها، ويُنَظِّم أمورها، وكان هذا مبعثًا لأن يُصبح للأوقاف ديوان مستقلٌّ، وعلى الرغم من حداثة هذا الديوان إلاَّ أن رئيسه سرعان ما ارتقى إلى مركز كبير في الدولة، حتى فاق منصبُه منصبَ قاضي القضاة في مصر [10].
وكان النظام الإداري للدولة يزدان بنظام بريدي صارم قال المستشرق فون كريمر فيه: «إنه كان على كل رأس مصلحة في الولايات الكبيرة عاملُ بريدٍ، مهمته موافاة الخليفة بجميع الشئون المهمَّة، بل والإشراف على أعمال الوالي، كما كان بعبارة أخرى مندوبًا أَوْلَتْهُ الحكومة المركزية ثقتها». فكان الخلفاء يَعُدُّون عمال البريد عونًا لهم على الإشراف على أمور دولتهم، وبواسطتهم كانوا يقفون على أعمال ولاتهم وسائر رجال دولتهم[11].
وانقسم البريد إلى: برّي بواسطة الخيول السريعة، وجوّي بالحمام الزاجل، وبحري بالسفن المخصصة لذلك؛ وقد اعتنى الخلفاء بهذا النظام عناية بالغة ففي عهد عبد الملك بن مروان أدخل على البريد العديد من التحسينات؛ ليصبح أداة مهمَّة في إدارة شئون الدولة، وذلك مثل مسح الأرض، ووضع حدود على كل مساحة، فضلاً عن أربعة طرق تمتدُّ من القدس إلى دمشق، وبلغ من عناية عبد الملك بنمروان بالبريد أنه أوصى حاجبه أن لا يمنع صاحب البريد من الدخول عليه ليلاً ونهارًا[12].
وأما بيت المال فهو المؤسسة التي تُشرف على ما يَرِدُ من الأموال وما يخرج منها في أوجه النفقات المختلفة؛ لتكون تحت يد الخليفة أو الوالي، يضعها فيما أمر الله به أن تُوضع بما يُصلح شئون الأمة في السلم والحرب[13]. وأهم واردات بيت المال: الزكاة، والخراج، والجزية، والغنيمة، والفيء، والأوقاف، وفيها جميعًا – باستثناء الأوقاف – معنى الضريبة على الثروة والأرض والأنفس[14].
ومن جملة الجهاز الإداري وجود مؤسسة الشرطة منذ النبي ﷺ، وإن لم تكن منظمة؛ فقد ذكر البخاري «أن قيس بن سعد، كان يكون بين يدي النبي ﷺ بمنزلة صاحب الشُّرط من الأمير»[15]. وكان أوَّل من سنَّ نظام العسِّ[16] هو عمر بن الخطاب t، فكان يَعُسُّ بالمدينة (أَي يطوف بالليل) يحرس الناسَ ويكشف أَهل الرِّيبَة[17].
وقد ابتكر هذا المنصب في ظل الحضارة الإسلامية؛ إلا أنه اتخذ عند الأندلسيين قسمين مهمين، فأما القسم الأول: فسُمِّيت بالشرطة الكبرى، وكان هدفها الضرب على أيدي أقارب السلطان ومواليه وأهل الجاه، ولصاحب الشرطة الكبرى كرسي بباب السلطان، وكان من المرشحين دائمًا للوزارة أو الحجابة، ولا شكَّ أن ابتكار هذا المنصب ليُدلل على أن الحضارة الإسلامية كانت حضارة تحترم القوانين التشريعية، والأعراف المجتمعية، لا فرق فيها بين غني أو فقير، أو بين رئيس ومرءوس. وكان القسم الثاني: الشرطة الصغرى، وهي مخصَّصَة للعامَّة وسواد الناس، وكان صاحب الشرطة في الأندلس يُلَقَّب بصاحب المدينةِ[18].
ومن ابتكارات النظام الإداري الإسلامي وظيفة الحسبة؛ فقد ظهرت الحاجة الماسة إليها نتيجة تضخُّم ظروف الحياة في الخلافة الإسلامية، وهي وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي هو فرض على القائم بأمور المسلمين، يُعَيِّنُ لذلك مَنْ يراه أهلاً له، فيتعيَّن فَرْضُه عليه بحُكْمِ الولاية، وإن كان على غيره من فروض الكفاية[19]
وقد تطورت وظيفة المحتسب في ظلِّ الخلافة العباسية من مراقبة المكاييل والموازين، ومنع الاحتكار، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى الإشراف على نظافة الأسواق والمساجد، ومراقبة الموظفين للتقيد بالأعمال، حتى مراقبة المؤذِّن للتَّقَيُّد بأوقات الصلاة، وامتدَّت سلطة المحتسب كذلك إلى مراقبة القضاة إذا تأخَّروا عن أعمالهم، أو انقطعوا عن الجلوس عن الحكم، والغريب أن المحتسب كان له الحق في امتحان واختيار ذوي المهن والحرف؛ لمعرفة مدى إتقانهم للمهنة والحرفة؛ حتى لا يستغلُّوا الآخرين، فقد طلب الخليفة العباسي المعتضد (ت 279هـ) من سنان بن ثابت رئيس الأطباء امتحان جميع الأطباء ببغداد، وكانوا حوالي 860 طبيبًا، وأمر المحتسب بعدم السماح لطبيب أن يُمارس مهنته إلا بعد اجتياز الامتحان[20]!
ولعلنا بهذا التجوال السريع في النظام الإداري في ظل الحضارة الإسلامية قد عرفنا إلى أي حد وصلت عظمة الدولة الإسلامية لأوجها باتكائها على مثل هذا النظام المثالي الذي حوى جانبًا كبيرًا من الابتكار والجدة.