الشعر والشعراء في دولة المرابطين
ازدهرت الحركة الأدبية في دولة المرابطين في عهد الأمير على بن يوسف بن تاشفين الذي اهتم بالشعر والأدب، وشجَّع الشعراء والأدباء؛ فتوافدوا على بلاطه من أهل الأندلس، ومِن الذين مدحوا الأمير على بن يوسف الشاعر الكبير أبو العباس أحمد بن عبد الله القيسي، المعروف بالأعمى التطيلي، حيث قال:
يا على العلاء في كل يوم *** وما أنت للملك بالسائس
يا ربيع البلاد يا غيمة العالم *** مـــن بين مؤتــــل وموال
يا قريع الأيام عن كل مسجد *** يا سليل الأذواء والأقيال
لك من تاشفين أو من أبي *** يعقوب ذكر مكارم وفعال [1]
وكان الشعراء يقصدون ولى عهد الدولة في زمن الأمير على بن يوسف لمدح ابنه تاشفين، ومن أشهرهم الشاعر أبو بكر يحيى بن محمد بن يوسف، كما حظى الشعراء في عصر على بن يوسف بمكانة عظيمة لدى الأسرة الحاكمة وكبار القادة وعمال الدولة على الأقاليم المختلفة.
وكان الأمير عبد الله بن مزدلى موضع اهتمام الشعراء منهم ابن عطية، الذي قال فيه:
ضاءت بنور إيابك الأيام *** واعتز تحت لوائك الإسلام
ومن قبل مدح الشعراء والده الذي قال فيه أبو عامر بن أرقم:
أنت الأمير الذي للمجد همته *** وللمسالك يحميها وللدول
لمزدلي لواء كان يرفعه *** مناسب كالضحا والشمس في الحمل
يا أيها الملك المرهب صولته *** وارتجى غوثه في الحادث الجلل [2]
ووصل المديح إلى الفقهاء والعلماء لمكانتهم العالية في دولة المرابطين، فهذا الأعمى التطيلى يمدح القاضي الفقيه ابن أحمد قاضى الجماعة، بقوله:
إليك ابن حمدين وإن بَعُد المدى *** وأن غربت بي عنك إحدى المغارب
صبابة ود لم يكدر جمامه *** مرور الليالى وازدحام الشوائب
وذكر عساها أن تكون مهزة *** ترى على أعقابه كل شاغب
بأيه ما كان الهوى متقاربًا *** وخطوى فيه ليس بالمتقارب [3]
ولا ننسى أن أعداء المرابطين مِن الشعراء قاموا بالتندر بالمرابطين، وبفقهاء دولتهم، وممن اشتهر بالهجاء والتندر في هذا العصر الشاعر أبو بكر يحيى بن سهل اليكي، الذي هجا المرابطين, ومن ذلك قوله:
في كل من ربط اللثام دناءة *** ولو أنه يعلو على كيوان
ما الفخر عندهم سوى أن ينقلوا *** من بطن زانية لظهر حصان
المنتمون لحمير لكنهم *** وضعوا القرون مواضع التيجان
لا تطلبن مرابطا ذا عفة *** واطلب شعاع النار في الغدران
وازدهر في عصر المرابطين لون آخر مِن ألوان الشعر أعنى الطبيعة، فقد شهد هذا العصر ظهور عدد كبير مِن الشعراء الذين نبغوا في هذا الفن الشعري، نذكر منهم: ابن سارة الشنتريني، وابن الزقاق، وابن خفاجة البلنسي، وعبد الحق بن عطية.
ومن ذلك قول الشنترينى الشاعر يصف البركة:
لله مسجورة في شكل ناظرة *** من الأزهر أهداب لها وطف
فيها سلاحف ألهاني تقصمها *** في مائها ولها من عرمض لخف
تنافر الشط إلا حين يحضرها *** برد الشتاء فتستدلى وتنصرف
كأنَّها حين يُبديها تصرفها *** جيش النصارى على أكتافها الجحف
وهذا أبو جعفر بن سلام المعافرى يصف في شعره الثلج:
ولم أر مثل الثلج في حسن منظر *** تقرُّ به عين وتشنعه نفس
فنار بلا نور يضيء له سنا *** وقطر بلا ماء يقلبه اللمس
ترى الأرض منه في مثال زجاجة *** كأن كئوس الماء يجمعه كأس
وهذا شاعر آخر يصف لنا قوسًا:
يا رب مائسة الأعطاف مخطفه *** إذا دنا نزعها فالعيش منتزح
ظلَّت ترنُّ فظلَّ النزع يعطفها *** كما ترنم نشوان به قزح
وقد تألَّف نصل السهم مندفعًا *** عنها قفل كوكب يرمى به قزح [4]
لقد ازدهرَ الشعر والأدب في عصر الأمير على بن يوسف ازدهارًا عظيمًا، شهدت بذلك قصائد شعراء المرابطين التي سجلت في ذاكرة التاريخ الخالدة، وما قيل عن انحطاط الشعر والأدب في عصر المرابطين أكذوبة استشراقية بان زيفها أمام حقائق التاريخ التي لا تُجامل ولا تعرف التحايل.
فن الموشحات في دولة المرابطين
ولا ننسى شيوع فن الموشحات والأزجال في عصر المرابطين، يقول ابن خلدون عن نشأة فنِّ الموشحات: "وأمَّا أهل الأَنْدَلُس، فلما كثُر الشعر في قطرهم, وتهذَّبت مناحيه وفنونه وبلغ التنميق فيه الغاية، استحدث المتأخرون منهم فنًا يسمونه بالموشح ينظمونه أسماطًا وأغصانًا يكثرون منها ومن أعاريضها المختلفة, ويسمون المتعدد منها بيتًا واحدًا, ويلتزمون عند قوافي تلك الأغصان, وأوزانها متتالية فيما بعد إلى آخر القطعة، وأكثر ما تنتهي عندهم إلى سبعة أبيات، ويشمل كلُّ بيت على أغصان عددها بحسب الأغراض والمذاهب, وينسبون فيها ويمدحون كما يفعل في القصائد, وتجاوزوا في ذلك إلى الغاية واستطرفه النَّاس جملة الخاصة والكافة لسهولة تناوله وقرب طريقه".
ومِن أشهر وشاحي عصر المرابطين الأعمى التطيلي, ومن موشحاته:
دمع مسفوح وضلوع حرار ماء ونار *** ما اجتمعا إلا لأمر كبار
بئس لعمرى ما أراد العذول *** عمر قصير وعناء طويل
يا زفرات نطقت عن غليل *** ويا دموع قد أعانت مسيل [5]
نشأة الزجل في دولة المرابطين
وأما نشأة الزجل، فقال ابن خلدون عنه: "إنه لما شاع فنُّ التوشيح في أندلسهل الأ, وأخذ به الجمهور لسلاسته وتنميق كلامه وترصيع أجزائه، نسجت العامة من أهل الأمصار على منواله، ونظموا في طريقته بلغتهم الحضرية من غير أن يلتزموا فيها إعرابًا، واستحدثوا فنًا سموه بالزجل، والتزموا النَّظْم فيه على مناحيهم إلى هذا العهد، فجاءوا فيه بالغرائب, واتسع فيه للبلاغة مجال بحسب لغتهم المستعجمة" [6].
ويعتبر أبو بكر بن قزمان القرطبي أول من ابتكر الزجل، ومن أشهر أزجاله ما كان في مدح القاضي أحمد بن الحاج، قوله:
"وصل المظلوم لحق، وانتصف غنى، ومسكين يحضر الإنكار والإقرار، ويقع الفصل، فالحين اجتمع فيه الثلاثة: الورع والعلم والدين، فيزول الحق إذا زال ويدوم الحق إذا دام".
هذه نبذة مختصرة عن بعض فنون الأدب التي ازدهرت وترعرعت في ظلِّ دولة المرابطين.