البيمارستان النوري في دمشق
تعتبر البيمارستانات من مفاخر الحضار العربية الإسلامية، والبيمارستان كلمة فارسية الأصل مكونة من بيمار ومعناها "مريض" وستان بمعنى "دار" فهي إذن دار المرضى، ثم اختصرت في الاستعمال فصارت مارستان.
ولم تكن مهمة البيمارستانات في العصر الإسلامي تقتصر على معالجة المرضى، بل كانت في الوقت نفسه جامعات لتعليم الطب وتخريج الأطباء في مختلف الاختصاصات المعروفة اليوم.
وكانت في أول أمرها بسيطة، ثم أصبحت فيما بعد بحالة جيدة تتوافر فيها التسهيلات التي يطلبها المريض من علاج وطعام وشراب وثياب، فتوسعت وزودت بالعقاقير والأطباء البارزين الذين كان عملهم فيها ابتغاء لمرضاة الله وخدمة لعباده وليس طلبا للمال، وكان لها من الشرف والمكانة بحيث كان السلطان أو نائبه هو الرئيس الأعلى لها، ولا غرابة في أن يولي الناس آنذاك علوم الطب كل عنايتهم، وقد رأوا ما للأطباء من الأرزاق الوافرة من السلطان والمناصب العليا والشأن الاجتماعي العظيم.
وكانت تكاليف إنشاء هذه البيمارستانات وتمويلها والإنفاق عليها يتم صرفها من بيت المال أو من الأوقاف المخصصة لها في صك إحداثها.
كما تتفق الروايات على أن أول من بنى البيمارستان في بلاد الشام وأخذ شكله المتكامل كان الوليد بن عبد الملك الخليفة الأموي، وذلك سنة (88هـ - 706م)، وجعل فيه الأطباء وأجرى لهم الأرزاق، وأمر بحجر المجذومين وأجرى عليهم وعلى العميان الأرزاق، وأعطى لكل مقعد خادما ولكل ضرير قائدا.
وقد انتشرت البيمارستانات في بلاد الشام انتشارا واسعا حتى صرت تجد في بقعة صغيرة حول المسجد الأموي ثلاثة بيمارستانات يمر الماشي عليها جميعا في دقيقتين، إلا أن أشهرها كان البيمارستان النوري بدمشق.
نور الدين محمود وبناء البيمارستان
تذكر المصادر التاريخية أن السلطان العادل نور الدين محمود بن زنكي (511 - 566 هـ- 117-1174م) خلال حروبه الطويلة مع الصليبيين كان قد أسر بنفسه أحد ملوكهم، واستشار مجلس اعيانه بمصيره فأشاروا عليه أن يطلق سراحه مقابل فدية مالية كبيرة تنفق في بناء بيمارستان ليكون مشفى يقدم العلاج والدواء لكل مصاب، وبالفعل فقد راقت له الفكرة وأطلق سراح هذا الملك بعد اخذ الفدية، واستقدم خيرة المهندسين والعمال العرب المهرة لبناء البيمارستان الذي كان فاتحة أعمال السلطان نور الدين بن محمود زنكي، ومن أعظم مآثره في المنشآت المدنية التي زخر بها عهده في دمشق.
وقد بني على مرحلتين، الأولى: تضم البناء الأساسي في عهد الملك العادل نور الدين سنة 549هـ - 1154م، والثانية: حين وسعه الطبيب بدر الدين ابن قاضي بعلبك سنة 637هـ، وقد بقي القسم الرئيسي من البيمارستان على وضعه الأصلي حتى الآن.
وتبلغ مساحة البيمارستان النوري أكثر من عشرة آلاف متر مربع، ويعد من الأبنية الأثرية المتكاملة التي تقدم نموذجا رائعا لفن العمارة في الحضارة الإسلامية، من حيث مخططه وطراز عمارته وزخارفه البديعة ونقوشه الفريدة، كما تزين جدرانه لوحات رخامية كتب عليها آيات من القرآن الكريم، ويقع هذا البيمارستان في قلب مدينة دمشق القديمة في الشارع المسمى حاليا منطقة الحريقة، والمتفرع عن سوق الحميدية، وهو على مسافة غير بعيدة من الجامع الأموي الى الجنوب الغربي منه.
ويمكن القول: إن بناء البيمارستان النوري وغيره من البيمارستانات الكثيرة في مدن بلاد الشام من قبل الملك نور الدين ربما كان له مغزى كبير، فإلى جانب المهمة الأولى التي يقوم بها وهي معالجة المسلمين وإصلاح الأوضاع الصحية، كان نور الدين يدرك أنه في حالة حرب مستمرة مع الصليبيين لا يعرف لها نهاية، وهذه الحروب التي يخوضها المسلمون من الطبيعي أن يوجد فيها من يتعرض للقتل أو لجروح خطيرة أو خفيفة، وكلها بحاجة إلى علاج، فيستفيد من البيمارستانات في معالجتهم، ولا يعني هذا أن الجندي المسلم عندما يتعرض في ارض المعركة لإصابة يتم نقله إلى البيمارستان، وإنما كانت تصاحب الجيش فرقة طبية تشكل من الأطباء ومساعديهم تجهز بكامل المستلزمات الطبية للإسعافات الأولية للتخفيف من آلام المرضى.
كما تذكر المصادر التاريخية أن بيمارستان نور الدين كان يماثل القصور الملكية بترفه، ووسائل الراحة المتوفرة فيه، وأنواع الطعام الفاخرة التي تقدم للمرضى والمصابين، كما أن العلاج كان مجانا للفقراء والأغنياء على حد سواء دون أن تكلف المرضى درهما واحدا، بل كانوا يمنحون لدى خروجهم من البيمارستان ثيابا ونقوداً تكفيهم للعيش دونما اضطرار للعمل لمدة أسبوعين (مدة فترة النقاهة).
أقسام البيمارستان
لم تكن البيمارستانات تسير بغير نظام ولا ترتيب، بل كانت أعمالها تسير على وتيرة منتظمة، وكانت منقسمة إلى قسمين منفصلين، قسم للذكور وقسم للإناث، وكل قسم مجهز بما يحتاجه من آلة وعدة وغيرها.
وفي كل قسم عدة قاعات لمختلف الأمراض: فقاعة للأمراض الباطنة، وقاعة للجراحة، وقاعة للكحالة (أمراض العين)، وقاعة للتجبير وغيرها، وأيضا كانت كل قاعة تخصصية منقسمة إلى: قسم للمحمومين وهم المصابون بالحمى، وقسم للممرورين (وهو لمن بهم مرض مانيا أو ما يعرف بالجنون السبعي)، وقسم للمبرودين (أي المتخومين) وقسم لمن بهم إسهال... الخ.
كما كان لأطباء البيمارستان رئيس يسمى ساعور البيمارستان (الساعور كلمة سريانية تعني بالعربية متفقد المرضى)، وكانت تناط بالساعور مهمة إدارة الأمور الطبية والفنية في البيمارستان، فالإشراف الطبي كان من صلاحية رئيس الأطباء، فهو الذي يحكم على مقدرة الأطباء، ويأذن لهم في التطبيب ونحو ذلك، وكان يتم اختياره من بين العديد من زملائه بعد اجتيازه امتحانا دقيقا.
وكان للبيمارستان ناظر يشرف على إدارته، وكان النظر عليه معدودا من الوظائف الديوانية العظيمة.
وللبيمارستان صيدلية تسمى شرانجاناه، ولها رئيس يسمى شيخ شرانجاناه البيمارستان.
نظام المعالجة والعناية بالمرضى
كان في البيمارستان طريقتان للعلاج: علاج خارجي أي أن المريض يتناول الدواء من البيمارستان ثم ينصرف ليتعاطاه في منزله، وعلاج داخلي يقيم المريض إثناءه في البيمارستان في القسم الخاص بمرضه حتى يشفى منه.
ففي الطريقة الأولى كان الطبيب يجلس على دكة ويكتب لمن يرد عليه من المرضى للعلاج أوراقا يعتمدون عليها، ويأخذون بها الأدوية من البيمارستان، فكان المرضى يوزعون على القاعات حسب أمراضهم، وكان لكل قسم من أقسام البيمارستان طبيب أو اثنان أو ثلاثة أطباء حسب اتساعه وكثرة المرضى، وكان اذا دعت الحاجة يستدعى طبيب من قسم آخر غير القسم الذي يعالج فيه المريض.
الدروس الطبية (الإكلينيكية)
كان طلبة الطب يتلقون علومهم على يد أساتذتهم في البيمارستانات، إذ كانت تهيأ لهم الايونات الخاصة المعدة والمجهزة بالآلات والكتب أحسن تجهيز، فيجلسون بين يدي معلمهم بعد أن يتفقدوا المرضى وينتهوا من علاجهم، كما كان يفعل الطبيب أبو المجد بن أبي الحكم رئيس الأطباء في البيمارستان النوري الكبير، وهو أول طبيب عينه السلطان نور الدين لإدارة البيمارستان، حيث كان يتردد على المرضى في البيمارستان، يتفقد أحوالهم ويصف الدواء والغذاء لكل منهم، وبعدها يذهب إلى قلعة دمشق فيتفقد المرضى من أعيان الدولة، ثم يعود ثانية إلى البيمارستان فيجلس في قاعة الدرس وهي الإيوان الكبير، وكان يقرأ على التلاميذ ما يخطر له من بحوث ويبقى معهم عدة ساعات يناقشهم ويرد على أسئلتهم واستفساراتهم.
إجازة الطب
لم تكن إجازة الطب تمنح للطبيب إلا إذا أثبت جدارته ومهارته في هذه الصناعة، وكان رئيس الأطباء في البيمارستان يقوم بامتحان الطلبة الراغبين في الحصول على إجازة الطب كل حسب اختصاصه، ويكتب للناجح رقعة (وثيقة بخطه تجيز له ممارسة الطب).
لقد اعترف الغرب بقدرة هذا النظام التدريسي، الذي لا يزال قيد التطبيق حتى الآن، وتقول المستشرقة هونكة: "إن هذه السمعة الوطيدة التي تمتع بها أطباء العرب في أرجاء الدنيا قاطبة، كانت تعتمد على تضلع كبير وباع طويل في العلوم والخبرة والامتحانات القاسية".
ومن المفارقات التي تذكرها هونكة بين تقدم العرب وتخلف الأوروبيين في العصور الإسلامية، أنه قبل أكثر من 600 عام كانت مكتبة كلية الطب بباريس لا تحتوي إلا على كتاب واحد، وهذا الكتاب هو "الحاوي في الطب" للرازي، الذي ظل مرجعاً في أوروبا لمدة تزيد على 400 عام، بعد ذلك التاريخ، وتكريماً للرازي أقام الفرنسيون له نصباً تذكاريا في باحة القاعة الكبيرة في مدرسة الطب لديهم.
الأطباء الذين عملوا في البيمارستان النوري
ذكر لنا المؤرخون عددا كبيراً من مشاهير الأطباء الذين مارسوا الطب وخدموا في البيمارستان النوري بدمشق ومنهم:
ابن النفيس
هو علاء الدين أبو الحسن علي بن أبي الحزم القرشي الشهير بابن النفيس، ولد بدمشق سنة 607 هـ/ 1211م، وهو من الأطباء الذين نبغوا في الطب وذاعت شهرته في جميع الأمصار، وكان من أشهر أطباء البيمارستان النوري، وقد درس على يد العالم الكبير الدخوار، وكان للدخوارية دورها العظيم في ثقافة ومنهج ابن النفيس وطريقته العلمية باعتماده على التجربة والملاحظة وتطبيق قواعد المنهج التجريبي، وهو القائل: "لو لم أعلم أن تصانيفي تبقى مدة عشرة آلاف سنة ما وضعتها". استدعاه السلطان الكامل محمد إلى القاهرة لشهرته العظيمة، فعمل في البيمارستان الناصري.
ابن النفيس صفحة مشرقة في تاريخ التراث العلمي العربي، حيث حظي بشهرة كبيرة تجاوزت عصره وزمانه بفضل مؤلفاته الكثيرة وتصانيفه وتجاربه، واعتماده التشريح المقارن كطريقة له في عمله وبحثه.
وتشير المصادر إلى أن البيمارستان النوري الكبير ظل عامراً يعالج فيه المرضى إلى سنة 1317هـ - 1899م، وكان أطباؤه وصيادلته لا يقلون عن العشرين، حتى قامت بلدية دمشق في عهد حسين ناظم باشا - والي سورية آنذاك - بإنشاء مشفى الغرباء (المشفى الوطني) بجانب التكية السليمانية، وهكذا خلف هذا المستشفى الجديد البيمارستان النوري الذي جعل ميتما للبنات أثناء الحرب العالمية الأولى، ثم أصبح فيما بعد مدرسة للتجارة سنة 1356 هـ/ 1937م.
ومنذ عام 1945م عُنيت به مصلحة الآثار القديمة وقامت بترميم بعض أجزائه، وفي سنة 1987م أصبح متحفاً للطب والعلوم عند العرب وأعيد ترميمه من جديد.
وأخيرا فإن هذا البيمارستان يعد بحق أول وأعظم جامعة طبية في ذلك العصر وفي الشرق كله، وهو انجاز كبير من انجازات حضارتنا الإسلامية، حيث بقي يقدم رسالته الإنسانية حتى أواخر القرن التاسع عشر الميلادي.