إسهامات علماء المسلمين في الفلك
ارتبط علم الفلك عند المسلمين بكثير من شعائر دينهم، فظهرت الحاجة إلى دراسته لتحديد أوقات الصلاة بحسب الموقع الجغرافي والفصل الموسمي، وكذلك تحديد اتجاه القبلة، ومتابعة حركة القمر لتحديد بدء الصوم، والحجِّ، وغير ذلك.
اهتمام القرآن بالفلك
الشمس تجري لمستقر لها جاءت آيات قرآنيَّة كثيرة تهتمُّ بالفلك والكون المحيط بالإنسان بكل معطياته، وأيضًا تحثُّ المسلمين على النظر في ملكوت السموات والأرض؛ ومن ذلك قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 37-40]. وقال جلّ شأنه: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْـحِسَابَ مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْـحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} [يونس: 5، 6]. ثم يذهب القرآن أبعد من ذلك، فيذكر كواكب معيَّنة ونجومًا بأسمائها، ومن ذلك قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ} [الطارق: 1-3]، وقوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} [النجم: 49].
وإلى جانب ذلك فقد أتى القرآن بحقائق علميَّة لا يمكن لأحدٍ فهمها أو مجرَّد محاولة تفسيرها ما لم يكن لديه علم واسع بعلم الفلك، وهو ما استوجب اهتمام وعناية خاصَّة من العلماء المسلمين.
اهتمام المسلمين بالفلك
اطَّلع المسلمون في بداية تطويرهم لعلم الفلك على ما خلَّفه علماء الحضارات السابقة فيه؛ فقاموا أولاً بترجمة الكتب الفلكيَّة التي ألَّفها اليونان والكلدان والسريان والفرس والهنود، وكان أول كتاب قام علماء المسلمين بترجمته هو كتاب (مفاتيح النجوم) المنسوب إلى هرمس الحكيم[1]، ترجموه من اليونانية إلى العربيَّة، وذلك أواخر عصر الدولة الأمويَّة، وكان من الكتب الفلكيَّة المهمَّة المترجمة عن اليونانية أيضًا كتاب (المجسطي) لبطليموس في علم الفلك وحركات النجوم، وكان ذلك في العصر العباسي[2].
أبناء موسى بن شاكر
لقد نبغ في العصر العباسي ثلاثة عرفوا بأنهم أبناء موسى بن شاكر، وموسى بن شاكر هذا هو فلكي كان في بلاط الخليفة المأمون، فلما مات تعهد المأمون أولاده بالعناية والرعاية صغارًا، وأوكلهم إلى الفلكي يحيى بن أبي منصور، وإلى حين أن يكبر الصغار كان الخوارزمي يصحِّح أخطاء بطليموس من موقعه في بيت الحكمة ببغداد. فلما كبر الصغار نبغ منهم في الفلك محمد بن موسى بن شاكر، وأفسح المأمون لفلكييه دارًا في أعلى ضاحية من بغداد، بقرب باب الشماسية لرصد النجوم رصدًا دقيقًا علميًّا، وإجراء قياسات مثيرة للإعجاب، كانت تقارن بغيرها في جنديسابور، وبأخرى تُجرى بعد ثلاث سنوات تقع على جبل قاسيون على مقربة من دمشق للمقارنة. وكان علماء الفلك يعملون مجتمعين على وضع جداول الفلك "المجرَّبة" أو "المأمونية"، وهي مراجعة دقيقة لجداول بطليموس القديمة[3].
واستخدم المأمون جماعة من الفلكيين -كان منهم محمد بن موسى بن شاكر- ليرصدوا الأجرام السماوية، ويسجِّلوا نتيجة هذه الأرصاد، وليحققوا كشوف بطليموس الفلكي، ويدرسوا كلف الشمس. واتخذوا كرية الأرض أساسًا بدءوا منه بقياس الدرجة الأرضية بأن رصدوا موضع الشمس من تدمر وسنجار في وقت واحد. وتوصلوا من هذا الرصد إلى تقدير الدرجة بستة وخمسين ميلاً وثلثي ميل - وهو تقدير يزيد بنصف ميل على تقديرنا في الوقت الحاضر، ومن هذه النتائج قدروا محيط الأرض بما يقرب من عشرين ألف ميل. ولم يكن هؤلاء الفلكيون يقبلون شيئًا إلا بعد أن تثبته الخبرة والتجارِب العلميَّة، وكانوا يسيرون في بحوثهم على قواعد علمية خالصة"[4].
والإنجاز الحقيقي أن الحضارة الإسلامية بعد حفظ علم الأمم السابقة، وتصحيح ما كان فيه من أغلاط؛ هو تحويل ذلك العلم من الحيِّز النظري إلى مجال التجارِب العمليَّة، وتطهيره ممَّا شابه مما كان يعتقده العرب في الجاهلية من الدجل والشعوذة، الذي واكب ظهور علم التنجيم في الأمم السابقة؛ حيث أبطلت الشريعة الإسلامية التنجيم وأنكرته، واعتبرته مخالفًا لعقيدة الإسلام.
إنشاء المراصد الفلكية
إن أهم ما يؤكد اهتمام المسلمين بالتجارب العلمية الفلكية هو كثرة بناء المراصد الضخمة والمزوَّدة بالآلات المتنوِّعة والعلماء المتفرِّغين، والتي كانت مبثوثة في العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه؛ فبخلاف المراصد التي أنشأها المأمون على جبل قَاسيون[5] في دمشق، وفي الشماسيَّة في بغداد، فقد توالى بعد ذلك إنشاء المراصد في أنحاء متفرقة من العالم الإسلامي؛ فأقام أبناء موسى بن شاكر مرصدًا في بغداد، وفيه استخرجوا حساب العرض الأكبر، وكان مرصد مراغة ببلاد فارس الذي بناه نصير الدين الطوسي من أشهر المراصد وأكبرها، واشتهر بآلاته الدقيقة وتفوُّق المشتغلين فيه، وقد امتازت أرصاد هذه المراصد بالدقَّة، واعتمد عليها علماء أوربا في عصر النهضة وما بعده في بحوثهم الفلكيَّة. وإلى جانب هذه المراصد كانت توجد مراصد أخرى، مثل: مرصد ابن الشاطر[6] بالشام، ومرصد الدِّينَوَرِيِّ بأصبهان، ومرصد ألغ بك[7] بسمرقند، وغيرها كثير[8].
وقد استعان العلماء المسلمون في هذه المراصد بآلات وأجهزة ومعدات غاية في الدقَّة وجمال الصنعة يعرفون بها الظواهر الفلكيَّة، وكثير من هذه الآلات كان من اختراع علماء المسلمين ولم تُعرف من قبلهم، وذلك مثل: ذات الأوتار، وذات الحلق، وآلة الربع المجيب، والربع المقنطر، وذات الشعبتين، وذات السمت والارتفاع والحلقة الاعتداليَّة، وأنواع مختلفة من المزاول والمشخصات لقياس الوقت[9]. كما استعان المسلمون أيضًا بآلات من اختراع الحضارات السابقة، وذلك مثل الأَسْطُرْلاَب، الذي احتفظ باسمه اليوناني، وقد طوَّره المسلمون وصنعوا منه نماذج عديدة تتَّفق مع اكتشافاتهم الفلكيَّة، فاخترعوا الأسطرلاب الكرويّ، وأيضًا الزورقيّ، وما زالت كثير من متاحف العلماء تحتفظ بنماذج من هذه الأسطرلابات، وهي تستخدم في قياس ارتفاعات الكواكب عن الأفق، وتعيين الزمن[10].
صناعة الأزياج
وقد نبغ المسلمون في عمل الأزياج لحساب الأجرام السماويَّة، وهي من أهمِّ مستلزمات الرصد الفلكي، والزِّيج عبارة عن جداول رياضية عددية، تحدِّد مواضع الكواكب السيَّارة في أفلاكها، وقواعد معرفة الشهور والأيَّام والتواريخ الماضيَّة، والوقوف على أوضاع الكواكب من حيث الارتفاع، والانخفاض، والميول، والحركات، وتعتمد هذه الجداول على قواعد حسابيَّة وقوانين عدديَّة في منتهى الدقَّة، ومن أشهر الأزياج زِيجُ ابن يونس[11] لعلي بن عبد الرحمن بن يونس[12].