ترجمة الكتب الهندية إلى اللغة العربية
منذ فجر الإسلام بدأت حركة الترجمة عن اللغات الأخرى إلى العربية، وشملت الفارسية والهندية واليونانية في ميادين الآداب والعلوم كافة.
ولئن كان المسلمون قد أخذوا عن الحضارات السابقة، فإن هذا لا يقلّل من شأنهم، لأن الترجمة كانت مرحلة من مراحل الابتكار العلمي الإسلامي، وهذه المراحل هي: النقل والترجمة، أولاً، ثم الشرح والتفسير، ثانياً، فالنقد والتصحيح، ثالثاً، وأخيراً مرحلة الإضافة والابتكار. فماذا أفادت الحضارة العربية من المعارف الهندية؟
العلاقة بين الهند والعالم العربي
كانت الهند معروفة لدى العرب منذ أمد بعيد، ولا شك في أن التواصل التجاري بينهما قديم قدم التاريخ نفسه. وقد حافظ على ذلك كلتا الأمتين، فحظيت العلاقات الثقافية بين الهند والعالم العربي بالاهتمام نفسه. وعندما بدأ تدوين العلوم، شهدت المنطقتان تطوراً مهمّاً في علاقات التواصل التي ربطت بينهما.
ويفيد التاريخ بأن العلماء والحكماء والأطباء الهنود قد اجتمعوا بعدد كبير في عاصمة الخلافة الإسلامية، في عهد الخلفاء العباسيين، وبشكل خاص في عهدي هارون الرشيد وولده المأمون، وكان فيهم مَن أفادوا فائدة كبرى من مدرسة جندي سابور في اللغتين العربية والفارسية، وبذلك أسدوا خدمات جُلّى في نقل العلوم الهندية إلى اللغة العربية. ومن أبرز هؤلاء العلماء كنكا هندي، وصالح بن بهلة، وابن دهن، وصنجهل الهندي، وبازيكر، وقلرقل، وسندباذ، وغيرهم كثيرون. وكتب ابن النديم أن مِن علماء الهند مَن وصل إلينا كتبه في النجوم والطب، أمثال: باكهر، راحه، صكه، داهر، آنكو، زنكل، أريكل، جبهر، اندى، وجبارى.
ومنذ فجر الإسلام بدأت حركة الترجمة عن اللغات الأخرى إلى العربية، وامتدت إلى الهند في أواخر القرن الأول الهجري، واستؤنفت في منتصف القرن الثاني الهجري، ثم نشطت مرة أخرى في القرن الخامس الهجري. وذكر الجاحظ أن الهند: "اشتهر بالحساب وعلم النجوم وأسرار الطب"، وقال الأصفهاني إن: "الهند لهم معرفة بالحساب والخط الهندي وأسرار الطب وعلاج فاحش الداء".
ويُقال إن كسرى أنوشروان أرسل طبيبه برزويه إلى الهند لاستحضار كتب ومؤلفات في الطب فعاد بالكثير منها، وإن قصة كليلة ودمنة انتقلت من الهند من ضمن ما نقله برزويه من كتب، بالإضافة إلى لعبة الشطرنج.
لقد وقف العرب القدماء على جانب من حضارة الهند وأخبارها، ومظاهرها الثقافية، من طريق المدارس العلمية في أرض الرافدين مهد الحضارات القديمة، التي كانت على اتصال وثيق بالهند، فتبادل معها السلع، ويأتي إليها علماؤها، وقد تخرّج على أيدي الهنود بمدرسة جنديسابور الساسانية فريق من العرب، منهم: الحارث بن كلدة الثقفي طبيب العرب قبل الإسلام.
الترجمة عن الهند
عندما عكف المسلمون على ترجمة كتب الفرس إلى العربية، نقلوا بين ثناياها أجزاء من ثقافة الهنود وعلومهم، وقام بعض المترجمين، أمثال منكة الهندي، وابن دهن الهندي، بنقل السنسكريتية (وهي في الأصل لغة هندية) إلى العربية مباشرة. ومن العلوم التي أخذ فيها المسلمون عن الهنود: الفلك والطب والرياضيات. فالأرقام الحسابية المستخدمة في العالم حالياً أخذها المسلمون عن الهنود وانتقلت من المسلمين إلى الغرب.
ويشير صاعد الأندلس إلى أنه "ولبعد الهند من بلادنا، واعتراض الممالك بينهم وبيننا، قلّت عندنا تواليفهم، ولم يصل إلينا إلاّ طرف من علومهم، ولا ورد علينا إلاَّ نبذ من مذاهبهم، ولا سمعنا إلاَّ بالقليل من علمائهم، فمن مذاهب الهند في علوم النجوم المذاهب الثلاثة المشهورة عنهم، وهي مذهب السند هند، ومعناه الدهر الداهر، ومذهب الأرجبهد، ومذهب الأركند، ولم يصل إلينا منها على التحقق إلاَّ مذهب السند هند، وهو المذهب الذي تقلدّه جماعة من علماء الإسلام، وألفوا فيه الزيجة لمحمد بن إبراهيم الفزاري، وجيش بن عبد الله البغدادي، ومحمد بن موسى الخوارزمي، وغيرهم، كما يذكر أن مما وصل إلى العرب المسلمين من علوم الهند في الموسيقى الكتاب المسمى بالهندية "يافر"، ومما وصل إليهم أيضاً من علوم الهنود في (إصلاح الأخلاق وتهذيب النفوس) كتاب "دمنة وكليلة" الذي جلبه برزويه الحكيم الفارسي من الهند إلى أنوشروان، وترجمه له من الهندية إلى الفارسية، ثم ترجمه في الإسلام عبد الله بن المقفع من اللغة الفارسية إلى اللغة العربية. ووصل من علومهم في العدد حساب الغيار الذي بسّطه أبو جعفر محمد بن موسى الخوارزمي، يشهد هذا للهند "بذكاء الخواطر وحسن التوليد وبراعة الاختراع"، ووصل من "نتائج فكرهم الصحيحة، ومولدات عقولهم السليمة وغرائب صنائعهم الفاضلة: الشطرنج".
كتاب "السند هند"
يذهب هارل Harell إلى أن المسلمين مدينون للهنادكة قبل اليونان بالتأثر بشتى ألوان المعرفة والثقافة الجديدة سواء في الفلسفة أو الرياضيات، واشتد شغفهم بها.
ويؤكد رأيه هذا في أن أول كتب الفلك والرياضيات التي حُملت إلى بلاط الخلافة أيام المنصور العباسي هو كتاب "ابراهما سدهانتا" لمؤلفه العالم برهمكيت وتذكره الكتب العربية باسم "السند هند"، الذي يرجع تأليفه إلى 425 ق.م، وكتاب "كهاديكا" المعروف باسم "أركند"، ثم كتاب "أريه بُهت" المعروف باسم "أرجهند" أعظم الفلكيين والرياضيين الهنود. وهو من أول الكتب التي يظن أن العرب تعلموا منها الأرقام الحسابية والنظام العشري.
فقد شغف المنصور بالفلك، ناهيك عن تشجيعه للترجمة، إلى درجة أنه اصطحب نوبخت الفارسي، وابنه أبا سهل بن نوبخت، وكان في حاشيته أيضاً ابراهيم الفزاري وابنه محمد، وعلي بن عيسى الأسطرلابي وغيرهم، وقد كلف المنصور العالم الجغرافي محمد إبراهيم الفزاري، بترجمة الكتاب الذي قدمته البعثة الهندية، المنوه عنها سابقاً، وصلت بغداد (156ﻫ ـ 773م) من الهند، وأطلق العرب على هذا الكتاب اسم "كتاب السند هند الكبير".
ولقد أجمع البيروني والقفطي على إن كتاب الفزاري هذا، لم يكن إلا ترجمة كتاب "سند هانت" لإبراهيم كيث، وأصبح، في ما بعد، نواة لأول مدرسة لعلم الهيئة العربي، حتى جاء عصر المأمون، وترجم كتاب المجسطي لبطليموس، فصار العلماء العرب يروجون لعلم الهيئة اليوناني على حساب التأثيرات الهندية.
ويلخص كراتشكوفسكي الرواية العربية حول الصلة بالعالم الهندي، فيذكر أنه كان من بين أعضاء السفارة الهندية -المومأ إليها- إلى بلاط المنصور في عام (154ﻫ - 771م) أو (156ﻫ - 773م)، عالم هندي هو مانكا Manka أو كانكا Kanka أحضر من الهند رسالة في الفلك أُطلق عليها في الترجمة العربية التي عملها الفزاري، ويعقوب طارق اسم "كتاب السندهند" وكثير من جوانب هذه القصة غير واضح، غير أنه يمكن القول إن الرسالة التي حملتها البعثة هي لـ "براهما سقوطا سيدانتا" Brahama squata sdiehanta ، التي وضعها براهما غيتا Brahma gupta، وحوّل العرب لفظ سيدانتا إلى "السند هند"، التي تنعكس فيها التسمية العربية لشطري الهند أي السند والهند، وبقي نظام السند والهند مؤثراً في الفلك العربي حوالي خمسين عاماً إلى عصر المأمون حين بدأت ترجمة مذهب اليونان، فصار منافساً قوياً للنظام الهندي، قبل أن يحل محله تقريباً.
ترجمة كتاب "سشرت سنهتا"
تُرجِمت كتب هندية كثيرة إلى العربية، ومنها على سبيل المثال، كتاب "سشرت سنهتا"، الذي كان أول كتاب للطب الهندي تمَّت ترجمته إلى العربية. وكان مؤلفه قد درس الطب على يد "ديوداس"، هذا الكتاب يُضارع في العربية كتاب القانون لابن سينا.
وقد ذكره المؤرخون العرب باسم "سسرد"، كما ذكره بعض المؤرخين العرب باسم كتاب "شرك" و"سيرك" (ورد ذكره في الفهرست وعيون الأنباء وفي تاريخ اليعقوبي). وكان هذا الكتاب قد تُرجم من السنسكريتية إلى الفارسية، ثم قام بترجمته من الفارسية إلى العربية عبد الله بن علي. ويقول بعض المؤرخين إن المترجم هو "كنكا هندي".
ترجمة كتاب "تشرك سنهتا"
وهناك أيضاً كتاب "تشرك سنهتا" تأليف الطبيب المشهور "تشرك"، وكان في حاشية الملك المعروف بـ"كنشك" في الهند. وكان من معاصريه العالِمان "ناغا رنجن" الماهر في علم الكيمياء، و"آشوك هوش".
ترجمة كتاب السموم "شاناق"
وكتاب السموم لمؤلفه الحقيقي "تشانكيه" الذي سمّاه العرب "شاناق"، وكان وزيراً لـ"تشندر غبت موريه" الذي كتب عنه ابن أبي أصيبعة في عيون الأنباء: "ومن المشهورين أيضاً من أطباء الهند شاناق، وكانت له معالجات وتجارب كثيرة في صناعة الطب، وتفنَّن في العلوم، وفي الحكمة، وكان بارعاً في علم النجوم، حسن الكلام، متقدماً عند ملوك الهند".
الأرقام الهندية
من أهمّ مآثر العرب في العلوم المختلفة في العهد الإسلامي أنهم نقلوا الأرقام الهندية (من 1 إلى 9) إلى اللغة العربية التي امتدت إلى جميع البلاد الأخرى بواسطتهم، وكانت الأعداد تكتب في بلاد العرب وغيرها من البلاد الأخرى بالأحرف. ويسميها العرب الأرقام الهندية، لأنهم وجدوها من أهل الهند. أما أهل أوروبا فيسمّونها أرقاماً عربية لأن الرياضيات وصلت إليهم من العرب. وكان أول من تلقّى العلم على هذه الأرقام الهندية من العرب هو أبو جعفر محمد بن موسى الخوارزمي، ولذلك هناك فرع خاص بالحساب يقال في الإنجليزية Algorism لأنهم نقلوه عن الخوارزمي.
وقد انتشر استعمال الأرقام الهندية في بلاد الغرب والأندلس ومن طريق الأندلس دخلت هذه الأرقام إلى أوروبا، كما أوجد العرب طريقة جديدة، هي طريقة الإحصاء العشري، واستعمال الصفر.
في علم الفلك
وقد نجح العرب في استخراج قواعد مفيدة في الرياضيات تتعلق بالمسائل الفلكية لم يتمكن منها اليونانيون، كالمثلثات الكروية (راجع: "علم الفلك وتاريخه عند العرب" لكرلو نلينو). وهذا العلم جاء من طريق الهند، ومصدره الأول كتاب سنسكريتي معروف باسم "برهم سداند"، الذي ألفه "برهم غبت"، مؤلف من الهند بارع في العلوم المتعددة، وكان له من العمر ثلاثين سنة فقط، وأهداه في العام 824م إلى الملك "دياكر موكا". وكتب القفطي عن وصول هذا الكتاب إلى بغداد.
في علم الطب
كذلك كان في بغداد أطباء هنود يمسكون الطب الهندي إلى جانب الطب اليوناني، اشتهر منهم في عهد الرشيد "صالح بن بهلة الهندي" - وقد ذكر الجاحظ أن يحيى بن خالد جلب أطباء من الهند مثل "منكه" و "يازبكر" و "قلبرقل" و "سندباد"، وفي كتاب طبقات الأطباء لأبن أبي أصيبعة أسماء الأطباء.
ومن الكتب التي تُرجمت إلى العربية عن الهندية في مجال الطب: كتاب "السيرك"، و قد ترجم أولاً إلى الفارسية ثم من الفارسية إلى العربية من طريق عبد الله بن علي. وكتاب "سسرد"، نقله منكة عن الفارسية ليحيى بن خالد البرمكي. وكتاب "أسماء عقاقير الهند"، نقله منكة عن اسحق بن سليمان.
وكتاب "استنكر الجامع" نقله ابن دهن الهندي، فمن المعروف أن أطباء الهند نبغوا في استخدام الأعشاب الطبّية في مداواة الكثير من العلل وقد نقل المسلمون الكثير عن فوائد الأعشاب عن الهنود، وبعض هذه الأعشاب لم يعرفها اليونان لأنها لا تنبت إلا في أقاليم الهند وشرق آسيا، ويقال إن خالد بن يحيى البرمكي جلب بعض أطباء الهند مثل: منكة، وقلبرقل، وسندباد. وكان الاتصال بالحضارة الهندية مصحوباً بتعريب كثير من المصطلحات والأسماء، مثل: زنجبيل، وكافور، وخيرزان، وفلفل.
في فن الحروب والسياسات
وفي السياسات وفن الحرب لم يُنقل من الهندية إلى العربية إلا ثلاثة كتب، أولها: كتاب شاناق الهندي في أمر تدبير الحرب وما ينبغي للملك أن يتخذ من الرجال. وثانيهما: كتاب في أمر الأساورة والطعام والسم. وثالثها: كتاب باجهر الهندي في فراسات السيوف ونعتها وصفاتها ورسومها وعلاماتها.
في علم النحو
وفي الهند توجد أثار علم النحو، كباقي العلوم الأخرى، منذ الزمن القديم؛ ولم يظهر علم النحو إلى حيز الوجود في العربية واللغات الأخرى إلا بعد فترة طويلة. وقد روى البيروني عن بداية علم النحو ومنطلقه رواية عجيبة توافق كل الموافقة الرواية التي رويت عن أبي الأسود الدولي في النحو ونشأته. وعلاوة على علم النحو، كانت لدى العرب رغبة أكيدة في علم العروض الهندي. وقد سلَّط البيروني على هذه القضية أضواء مفصلة كتب في آخرها: "ومن الممكن أن يكون الخليل بن أحمد قد سمع أن للهند موازين في الأشعار كما ظنّ به بعض الناس".
وممّا يجدر ذكره إن الخليل بن أحمد قد يكون استفاد من الهنود، لكن لا شك في أنه استفاد كثيراً من العلوم اللسانية السنسكريتية. وعلى كل حال كانت الفائدة التي حصلت عليها اللغة العربية من اللسانيات والآداب الهندية كبيرة جداً.
في علم المواليد
ومن الكتب التي ترجمت إلى العربية في علم المواليد كتاب "أسرار المواليد" لمؤلفه كنكه الهندي الذي ورد ذكره في كتابَيْ "الفهرست" و"عيون الأنباء"، وكتاب "المواليد" الذي ألفه كودر الهندي، وكتاب "المواليد الكبير" الذي ألَّفه سنكل هندي، و"كتاب المواليد" لمؤلّفه براهمر.
كتب أخرى
وثمة عدد لا يستهان به من الكتب الهندية التي تُرجِمت إلى العربية، ككتاب "علاجات الحبالى"، وكتاب "أسماء عقاقير الهند" لكنكه الهندي، ومن الكتب الهندية المترجَمة إلى العربية، هناك أيضاً كتاب في علاجات النساء، وهو من تأليف طبيبة الهند "روسا" التي ورد ذكرها في كتاب "الفهرست". واستفاد الرازي من هذا الكتاب فذكره في مصنفاته. وكتاب توقشنل نوكشنل الذي وضعه طبيب هندي يُدعى "توقشنل".
كما أن العرب أولعوا بالسيوف الهندية، وسمُّوا السيف المصنوع من حديد الهند بالمهند، وسمُّوا كثيراً من نسائهم هنداً.