جابر بن حيان صاحب المنهج التجريبي
يمكن التأريخ للفترة الثانية من تاريخ قصة العلم، وهي النصف الثاني من القرن الثاني الهجري، والنصف الثاني من القرن الثامن الميلادي، بالعالم الكيميائي "جابر بن حيان" (ت200هـ/815م)؛ فقد كان علامة بارزة وفارقة ظهرت في هذه الفترة، وعلى يديه كان بَدْء ظهور المنهج العلمي التجريبي، والذي يعتمد على التجرِبة والملاحظة، اللَّتان اعْتُبِرَتا حجر الزاوية لدراسة العلوم الطبيعية، كما أنه يُعَدُّ شيخ علماء الكيمياء المسلمين، والذين كانت لهم إسهاماتهم البارزة في ذلك العلم.
فترى جابر بن حيان يدعو إلى الاهتمام بالتجربة، ودقَّة الملاحظة، تلك التي يقوم عليها المنهج التجريبي، فيقول: "ومِلاكُ كمال هذه الصنعة العملُ والتجرِبة؛ فمَن لم يعمل ولم يُجَرِّب لم يظفر بشيء أبدًا"[1].
وقد كانت الكيمياء قبل جابر خرافية تستند على الأساطير البالية، حيث سيطرت فكرة تحويل المعادن الرخيصة إلى معادن نفيسة؛ وذلك لأن العلماء في الحضارات ما قبل الحضارة الإسلامية كانوا يعتقدون أن المعادن المنطرقة مثل: الذهب، والفضة، والنُّحاس، والحديد، والرصاص، والقصدير من نوعٍ واحد، وأن تباينها نابع من الحرارة والبرودة، والجفاف والرطوبة الكامنة فيها، وهي أعراض متغيِّرة، (نسبة إلى نظرية العناصر الأربعة: النار، والهواء، والماء، والتراب)، لذا يمكن تحويل هذه المعادن من بعضها البعض بواسطة مادة ثالثة وهي الإكسير، ومن هذا المنطلق تخيَّل بعض علماء الحضارات السابقة للحضارة الإسلامية أنه بالإمكان ابتكار إكسير الحياة أو حجر الحكمة الذي يُزيل عِلَل الحياة ويُطيل العمر[2].
وقد تأثَّر بعض العلماء العرب والمسلمين الأوائل، كجابر بن حيان وأبي بكر الرازي، بنظرية العناصر الأربعة التي ورثها علماء العرب والمسلمين من اليونان، لكنهما قاما بدراسة علمية دقيقة لها؛ أدَّت هذه الدراسة إلى وضعِ وتطبيق المنهج العلمي التجريبي في حقل العلوم التجريبية.
وعليه يكون جابر قد قطع خطوة أبعد مما قطع اليونان في وضع التجرِبة أساس العمل، ولذلك يُعَدُّ أوَّل من أدخل التجرِبة العلمية المخبرية في منهج البحث العلمي الذي أرسى قواعده؛ يقول هولميارد Holmyard، وهو الذي اهتم بأعمال جابر ومؤلَّفاته ومنهجه العلمي، حتى عكف على إبراز القيمة العلمية لعمله: "إن الصنعة الخاصَّة عند جابر هي أنه على الرغم من توجُّهِهِ نحو التصوُّف والوهم، فقد عَرَف وأكَّد على أهمية التجريب بشكل أوضح من كل مَن سبقه من الكيميائيين"[3].
صنعة جابر بن حيان
وقد سُمِّيَ علم الكيمياء باسم جابر بن حيان؛ فقيل: "صنعة جابر"، ومن أبرز إسهامات جابر فيه أنه يُعَدُّ أوَّل من استخرج حامض الكبريتيك، وسمَّاه زيت الزاج، وأول من اكتشف الصود الكاوي، وأوَّل مَن استحضر ماء الذهب، ودرس خصائص مركبات الزئبق واستحضرها، وقد بلغت تصانيفه 232 كتابًا[4].
يقول غوستاف لوبون: "تتألَّف من كتب جابر موسوعة علمية تحتوي على خلاصة ما وصل إليه علم الكيمياء عند العرب في عصره، وتشتمل هذه الكتب على وصف كثير من المركَّبات الكيميائية التي لم تُذْكَر قبله، كماء الفضة (الحامض النتري) الذي لا نتصور علم الكيمياء بغيره"[5].
ولقد تُرجمت كتب جابر إلى اللاتينية، وظلَّت المرجع الأوفى للكيمياء زُهاء ألف عام، وكانت مؤلَّفاته موضع دراسة مشاهير علماء الغرب، أمثال: كوب، وبرثولية، وكراوس، وهولميارد الذي أنصفه ووضعه في القمَّة، وبدَّد الشكوك التي أثارها حوله العلماء المغرضون. وسارتون الذي أرَّخ به هذه الحِقبة من الزمن في تاريخ الحضارة الإسلامية، فيقول عنه مندهشًا: "ما قدر جابر أن الكتب التي ألَّفها لا يمكن أن تكون من وضع رجل عاش في القرن الثاني للهجرة؛ لكثرتها ووفرة ما بها من معلومات"[6].
وفي عصر جابر زاد الاهتمام بحركة الترجمة بصورة ملحوظة، ويَرْجِع السبب الرئيسي في ذلك إلى تشجيع الخلفاء -وهم العباسيُّون- ورعايتِهم للعلماء والمترجِمِين، وإجزالِ العطاء لهم، بصرف النظر عن مِلَلِهم وعقائدهم، لتَخْرُج تلك الحركة من حيِّز المحاولات الفردية إلى أن تكون لها سياسة منهجية متَّبَعَة، تُشرف عليها الدولة نفسها، وهو ما أدَّى إلى أن يتَّسع نطاق العلوم المترجَمة، ليشمل الفلسفة والمنطق والكتب الأدبية، بجانب الطب وسائر العلوم التجريبية كلها[7].
الاهتمام بالعلوم في عهد الخلافة العباسية
فهذا أبو جعفر المنصور ثاني الخلفاء العباسيين (135 - 158هـ) قد كان مولعًا بالطبِّ والفلك والهندسة، يُكاتِب ملوك الروم فيطلب منهم ما لديهم في هذا الشأن، فبعثوا إليه كليات إقليدس في الهندسة، وفي الطبيعيات[8]. وهذا هارون الرشيد (170-194ﻫ) حين افْتَتَح عَمُّورِية وأنقرة انتخب من أبنائها فريقًا من العلماء والتراجمة وجعلهم في حاشيته، وطلب إليهم أن يختاروا عيون الكتب التي وُجدت في مكتبات هاتين البلدتين، فاختاروا الكتب النادرة التي لا توجد عند غيرهم، في ميدان الطبِّ والفلك وغيرهما، ونقلوها إلى بغداد، وأمر الرشيد آنذاك أبا زكريا يوحنا بن ماسويه (ت 244هـ) - أكبر أطباء عصره - أن يرعى هذه النُّقُولات[9].
بيت الحكمة
وقد وصل الاهتمام بالعلم والترجمة الذُّروة في عصر الخليفة المأمون (198 - 218ﻫ)، الذي يُعَدُّ من أزهى العصور في تاريخ الحركات العلمية والثقافية؛ فقد عمَّر بيت الحكمة، ووسَّع من نشاطه، وأمدَّه بمكتبة ضمَّت آلاف المخطوطات في شتى العلوم والفنون؛ ليكون بمثابة أكاديمية علمية عالمية يجتمع في رحابها المعلِّمون والمتعلِّمون، وقد قام بإرسال البعوث إلى القسطنطينية لاستحضار ما يمكن الحصول عليه من مؤلَّفات يونانية في شتى ألوان المعرفة[10]، وقد ذكر ابن النديم أنه كان بين المأمون وإمبراطور القسطنطينية مراسلات بهذا الشأن[11].
بل إن المأمون لم يكتفِ بإرسال العلماء إلى بلاد الروم والأعاجم كي يبحثوا له عن أمهات الكتب الأجنبية وجلبها، وإنما كان إذا عقد معاهدة أو أبرم حلفًا مع ملوك الروم أو غيرهم، فإنه يجعل من بين شروط المعاهدة شرطًا؛ بأن يُتْحِفَه الطرف الآخر بما لديه من نفائس كتب الحكمة، وذخائر الفلسفة والعلوم في بلادهم، ومن ذلك أنه جعل أحد شروط معاهدة الصلح بينه وبين إمبراطور الروم ميخائيل الثالث أن يتنازل الثاني للأوَّل عن إحدى المكتبات الشهيرة في القسطنطينية، وكان من بين ذخائرها الثمينة كتاب بطليموس في الفلك، فأمر بنقله إلى العربية وسمَّاه: (المجسطي)[12].
قياس الكرة الأرضيَّة
وليس أعجب بعد ذلك من أن يُنسَب إلى المأمون أنه أوَّل مَن قام بمحاولة قياس أبعاد الكرة الأرضية، وذلك بمساعدة فريقين من علماء الفلك والجغرافيا، والذي قال عنه المستشرق نللينو في كتابه (علم الفلك وتاريخه عند العرب في القرون الوسطى): إن قياس العرب للكُرة الأرضيَّة هو أوَّل قياس حقيقي، أُجْرِيَ كله مباشرة مع كل ما تقتضيه تلك المسافة الطويلة وهذا الفريق الكبير من العلماء والمساحين العرب؛ فهو يُعَدُّ من أعمال العرب المأثورة وأمجادهم العلمية. وقال عنه الأستاذ كراتشوكوفسكي في كتابه (تاريخ الأدب الجغرافي العربي): إن الخطأ في مقاس العرب يقلُّ عن كيلو متر واحد[13]!