الوقف العثماني.. حضارة واقتصاد
الأوقاف والخدمة العامة
أُسِّست الأوقاف في التاريخ الإسلامي، من أجل تقديم الخدمات المختلفة إلى الإنسان والأحياء الأخرى من الحيوانات، وكانت مؤسسات الأوقاف -بلا شك- واحدةً من العناصر المؤثرة التي استطاعت الارتقاء بأنماط العيش وتأمين الحاجات الاجتماعية للناس الذين يعيشون في ظلِّ الدولة العثمانية حتّى في مناطقها النائية.
وإذا ما تأملنا في مفهوم الوَقْفِ لدى الدولة العثمانية، نجد أنّه مزيج من الشرقيِّ الممتد من حضارة الإيغور إلى السلاجقة، والغربيِّ الممتد من الإمبراطورية الرومانية إلى الإمبراطورية البيزنطية، فقد ورثت الدولة العثمانية هذا الميراث الممتزج الديناميكي، وطورته وصبغته بقيمها وثقافتها الدينية.
لقد لعبت هذه المؤسسات القانونية، دورًا هامًّا في تطوير الحياة الاقتصادية والاجتماعية لدى الدولة العثمانية والبلدان الإسلامية كافة.
يقوم النظام الوَقْفي على فعالياتٍ مؤسساتيّة قانونية، للرعاية الاجتماعية التي تضمن استمرارية المجتمع، وبهذا المعنى، فإنّ فعاليات الأوقاف التي نشطت في الدولة السلجوقية والعثمانية، نمت نموًّا كبيرًا بتأثير الحقوق والأحكام الإسلامية.
ويعتبر "أورخان غازي" ثاني سلاطين الدولة العثمانية، هو أول مَن أسس نظام الأوقاف التي نمت بشكل منسجم بالنمو الاقتصادي والسياسي للدولة، وعندما أمر أورخان غازي ببناء أول مدرسة عثمانية في إزنيك، أوقف لها من الأموال غير المنقولة (العقارات) لتسدّ حاجاتها من المصاريف والنفقات، واقتدت بها أوقافٌ أخرى قامت لأغراض مختلفة، كتقديم الأموال لليتامى، وللأرامل، وللغارمين المدينين، وكتوزيع الخضار والفاكهة للمواطنين، وكرعاية الكبار العاجزين كقوّاد القوارب والحمّالين، وكتأمين إرضاع الأطفال، وتجهيز البنات للزواج، وتأمين بَدَلَ الأواني والصحاف التي يكسرها الخدَم لكي لا يتعرضوا للعقاب من أسيادهم، وكإطعام الطيور، وشراء الألعاب للأطفال، وتأمين حاجيات المسافرين، والإنفاق على طلبة العلم وتأمين الإقامة لهم، وتأمين العمل للعاطلين، وكذلك التدريب المهني، ومؤازرة المفلسين والمدينين، وتزويج الشباب، وحماية الحيوانات، وتأمين نظافة الطرقات، بالإضافة إلى تأسيس أوقاف تمويلية لشق قنوات المياه، وإنشاء القناطر، وبناء سبُل المياه، وحفر الآبار، وبناء المدارس، والخانات، والحمامات، والجوامع، والطرق، والأرصفة، والجسور، وبتمويلٍ من الأوقاف قامت المشافي بتقديم خدماتها للمحتاجين، وتقاضى الأطباء أجورهم منها، ويجري في هذه المشافي علاج المرضى من غير تمييزٍ في لون أو عرق أو دين، ويجري كذلك تأمين الأطباء، كما يتم تقديم الدواء مجانًا إن لزم الأمر، وتقديم وجبة أو وجبتين من الطعام يوميًّا في العمارات لأبناء السبيل والمسافرين والفقراء والمساكين.
مؤسسة الأوقاف والاقتصاد العثماني
النظام الاقتصادي في الدولة العثمانية -إلى جانب الإقطاع الذي ورثته من الدول الإسلامية المتلاحقة- كان يقوم على مؤسسات الفتوة والأخوية التي تعتمد على العدالة في أساسها، وكان الاقتصاد العثماني يعتمد بنسبة كبيرة على الزراعة، الأمر الذي أكسب أنظمة الأراضي مكانة متميزة ضمن البُنى الاقتصادية العثمانية، ونظام الأراضي هذا، كان يتمثل بنظام التيمار؛ وهو نظام يتم من خلاله استخدام الأراضي من قبل الرعايا مقابل الوفاء ببعض الالتزامات كتوريد عُشْر المحصول لصاحب التيمار، ودفع الضرائب المقررة، كما كان أصحاب التيمار بالمقابل، ملزمين بتقديم الجنود إلى الجيش أثناء الحرب، وذلك بما يتناسب مع حجم محصول تيمارهم، وظلَّ التيمار قائمًا كوسيلة اقتصادية للقوة العسكرية العثمانية، إذ لم تقم الدولة بجمع الموارد الزراعية في مركز واحد، إنما أعطتها لسباهية التيمار (الفرسان) لتتمكن من تأمين جنودها أثناء الحرب من جانب، ومن تأمين مواردها الزراعية أثناء السِّلم من جانب آخر، وهذا وفّر لها نظامًا ديناميكيًّا حركيًّا بلا شك.
في القرن السادس عشر، كانت نسبة 20% من الأراضي تدخل ضمن نظام الأوقاف لدى الدولة العثمانية، وكان حوالي 15% من موارد الدخل للأوقاف تتكون من الأسهم المقبوضة من واردات الدولة، ففي هذه الحقبة، كانت واردات الأوقاف تشكل 12% من بين الواردات العامة، وقد ازدادت هذه النسبة فيما بعد لتبلغ 20%، مع الأخذ بعين الاعتبار، أنّ واردات أراضي الأوقاف فقط هي الداخلة في حسابات النسب السابقة، هذا وقد وصلت نسبة رجال الدولة الذين قاموا بتأسيس الأوقاف في القرن التاسع عشر إلى 42%، ونسبة 16% من العلماء، و9% من أصحاب الطرق الصوفية، و2% من أصحاب الحرف والصناعات، و11% من أصحاب مختلفي المهن، و18% من النساء.
ونظام التمويل الذي تقوم عليه الأوقاف آنذاك، يملك دورًا مهمًّا في خدمات الثقافة والتعليم والصحة والبنية التحتية وأشغال المرافق العامة والخدمات الدينية والاجتماعية، علاوةً على المساهمة في تأمين التمويل والبنية التحتية اللازمة للضمان الاجتماعي، والعمل الخيري في مختلف الميادين، ففي تركيا اليوم -مثلاً- يبلغ الإنفاق الإجمالي على الصحة، والتعليم، والضمان الاجتماعي، والفعاليات الدينية، والخدمات العامة، (100) مليار ليرة تركية! وهذا الرقم الذي يعدّ عبئًا ثقيلاً على ميزانية الدولة في عصرنا، كانت الأوقاف تقوم بحمله لوحدها في العهد العثماني.
الأوقاف والخدمات العامة
كانت الأوقاف تلعب دورًا مهمًّا في الإعمار والإسكان إبّان العهد العثماني، فالخدمات العامة التي تتلقاها المدن، ومؤسسات الرعاية الاجتماعية، والخدمات التعليمية، والدينية، وكل الحاجات الاجتماعية، كانت تلبّي من قبل مؤسسات الأوقاف.
لقد تم دعم الأوقاف عن طريق مصدرين أساسيين: الأول هو المؤسسات الوَقْفِيّة القائمة على مصادر الدولة، وهي على الأغلب أوقاف يقوم بتأسيسها رجال الدولة وعلى رأسهم السلطان وأبناء آل عثمان، والميزة الأساسية لهذه الأوقاف، تكمن في تحويل جزء من الأموال المخصصة للبيروقراطيين من قبل الدولة، واستخدامها في الأنشطة الوَقْفيَّة الخاصة، ونرى أنّ تشكيل المؤسسات الوقفية التي تستمر في عطاءاتها حول سد الاحتياجات الدينية والعلمية والصحية والثقافية للمدن، أصبحت تقليدًا متّبعًا بين رجالات الدولة.
والمصدر الثاني لنظام الأوقاف، يشمل أوقاف المواطنين العثمانيين الأخيار، الذين يبتغون مرضاة الله، ويسعون وراء الأعمال الصالحة التي تفيد الشعب والمجتمع، وهذه الأوقاف وإن كانت صغيرة الحجم من حيث التمويل، فإنّها لعبت دورًا كبيرًا لصالح الحياة الاجتماعية والاقتصادية.
وعليه فإنّ هذا النوع من نظام الأوقاف الخيرية، الذي أبدى تطورًا مستمرًّا في العهد العثماني، شكّل عنصرًا مهمًّا في تمويل الخدمات، وساهم في نمو المدن العثمانية وازدهارها، ومن ثَمَّ أدت هذه الأوقاف مهمّة كبيرة في ارتفاع مستوى المعيشة ومن ثَمَّ الحياة الاقتصادية والاجتماعية في كل أرجاء الأراضي العثمانية.
إذن، تمتعت الأوقاف بمكانة رفيعة مرموقة لدى الدولة العثمانية، وأصبحت جزءًا أساسيًّا من حضارتها، إذ أقامت الخانات التجارية الوقفية، والأسواق لكل الأمتعة والسلع؛ من أقمشة ومجوهرات وأسلحة، وشيدت القصور الوقفية العديدة على الطرق بين المدن والمناطق لتحط القوافل التجارية وقوافل المسافرين رحالها، وتستريح وتأمن شرَّ الأشقياء وقطاع الطرق، علاوةً على أنّ هذه الأوقاف، ساهمت في تطور الفنون الجميلة كالخط والتذهيب والزخرفة والأبرو (فن الرسم على الماء) وتجليد الكتب؛ حيث كانت سببًا لآثار فنية عالية المستوى، كما أنّ للأوقاف أهمية كبيرة أيضًا، في مجال اللغة والثقافة والتاريخ والقانون وحتى في الفولوكلور.
باختصار، لم تترك الأوقاف لدى الدولة العثمانية، ميدانًا من الميادين الاجتماعية، ولا أرضًا من الأراضي العثمانية، إلا ودخلتها وقدمت الخدمات لأهلها، وبفضل هذه الأوقاف، استمرّت خدمات التعليم، والصحة، والخدمات الدينية، والثقافية، من غير خلل أو تقصير، حتى في فترات المِحَن والأزمات الداخلية والخارجية للدولة.
ومما يجدر ذكره، أنّ الأوقاف التي تقدم الخدمات الثقافية والاجتماعية للمجتمع اليوم، والتي تتبناها الدول وتقوم هي بإدارتها وتمويلها، كانت تؤسَّس وتُدار وتموَّل من قِبَل أشخاص عاديين في العهد العثماني! ومن الصعب جدًّا، أن نجد اليوم دولة من الدول، يقوم أفرادها باستقلال ذاتي بتمويل الخدمات العامة، كما كانت الحال في الدولة العثمانية.