العناية الإسلامية بتربية الأطفال
أهمية مرحلة الطفولة
تحتل مرحلة الطفولة أهمية كبيرة في تقرير أساس حياة الفرد؛ فالسلوك الصالح والفاسد يعودان بالأساس إلى الأساليب التربوية المتخذة في هذه المرحلة؛ لأن الفرد يسير وفق خلقيات خاصة به تنشأ في هذه المرحلة [1].
بل هناك من قال إن العناية بالطفولة مقياس أساس لقياس مدى تقدم الأمم أو تخلفها، ويقول في ذلك أحد الكتَّاب موضحاً: "إذا أردنا أن نعلم حال الأمة ومدى رقيها فلننظر إلى الطفولة وما فيها؛ فحيث نراها سعيدة مهذبة وموجهة توجيهاً صالحاً، نرى في ذلك نهضة الأمة" [2].
كما أن الاهتمام بالطفولة أصبح استثماراً استراتيجياً للمستقبل، وبداية صحيحة لتقدم المجتمعات؛ لأن جعل الطفل في الصدارة والاهتمام بأوضاعه أضحى خياراً استراتيجياً يؤثر مباشرة في الخطط والبرامج الاقتصادية والاجتماعية [3].
المسلمون والاهتمام بمرحلة الطفولة
هل اهتم المسلمون بالتأليف حول قضايا الطفولة؟ أم أن هذا الجانب لم يحظَ بالاهتمام؟ وما هي هذه الكتابات؟
في البداية أود الإشارة إلى أن البعض قد يتساءل عن الفائدة والغاية من بعث هذا التراث التربوي، وقد مرت على بعضه قرون عدة، وأي استفادة يمكن أن تستشف منه؟ وخاصة أن البعض يرى في كل ما هو قديم عدم مسايرة الحياة العاصرة ولا التوافق مع الجيل الحاضر... أم أنه مجرد بكاء على أطلال الماضي؟
هذه التساؤلات وغيرها تجيب عنها مختلف الحقائق التربوية المتضمنة في كتابات التربويين الأولى، وخاصة أن بعضها تضمن بشكل جلي وواضح أفكاراً سباقة مسايرة للنظريات التربوية الحديثة رغم قدم هذه المؤلفات.
وفي هذا المقال نقف عند نماذج قليلة من هذه المؤلفات بعرض محتواها بشكل موجز، مع إبراز معالم مدى عناية علمائنا واهتمامهم بالطفولة وقضاياها التربوية والتعليمية؛ وذلك من خلال دعواتهم للحفاظ على حقوقهم ورعاية مصالحهم.
ونصبو من خلال المقال إلى دحض الشبهات القائلة بأن المسلمين لم يعتنوا لا بالجانب التربوي ولا التعليمي للطفل، بل إن المسـلمين ابتـكروا آراء جـديدة في التربية والتعليم؛ فلم يأخذوها عن غيرهم من الغرب المسيحي، أو ينقلوها عن التراجم اليونانية كما يحلو لآخرين أن يصوروا ذلك.
كتابات علماء الغرب الإسلامي في الطفولة
لا بد من الإشارة إلى أن سائر الأمم اهتمت بتربية الطفل على درجات متفاوتة، ولم يكن الدور الإسلامي في هذا المجال دوراً باهتاً، وقد تنافست أقطار الأمة الإسلامية في إيلاء العناية المتميزة بالطفولة اهتماماً شمل الجانب الروحي والعقلي والجسمي، وهو اهتمام كشفت عنه مختلف الكتابات، تساوى في ذلك أهل المشرق والمغرب.
ونخص هذا المقال بنماذج من عطاءات الغرب الإسلامي أذكر منها على سبيل المثال ما يلي:
1-من الكتابات الأولى التي عرفها الغرب الإسلامي في مجال التربية والتعليم، هي كتابات أبو مروان عبد الملك بن حبـيب السلمي [ت 238 هـ / 858 م]، فقد كتـب رسالة إلى معلم ولـده يقول فيها: "فلـيكن أول مـا تـؤدب نفـسـك؛ فإن عيـني متعـلقة بهم، وأعينهم متعلقة بك. فالحسن لهم ما استحسنت، والقبيح – عندهم- ما استقبحت، علمهم كتاب الله ولا تكرههم عليه فيملُّوه".
2- وقد جاء بعده أبو محمد بن سحنون [ت 256هـ / 870 م] فألف كتاب: "آداب المعلمين"، وهو رسالة صغيرة لها أهميتها العلمية والتربوية. وقد ذكر الأستاذ سعيد أعراب [4] بعضاً من فصول هذا الكتاب وأذكر منها:
ـ ما جاء في تعليم القرآن العزيز.
ـ ما جاء في العدل بين الصبيان.
ـ ما جاء في الأدب، ما يجوز وما لا يجوز.
ـ ما يجب على المعلم من لزوم الصبيان.
3- ومن الكتابات الشهيرة في هذا المجال نذكر رسالة لابن أبي زيد القيرواني المشهورة، فيما على أطفال المسلمين أن يتعلموا من أمور دينهم، وهي أول كتاب للطفل في تاريخ التربية الإسلامية [5].
4- ومن النماذج البارزة أيضاً رسالة أبي الحسن بن محمد بن خلف القابسي [ت 403 هـ / 1012م]، وهي رسالة معنونة بـ "الرسالة المفصلة لأحوال المتعلمين وأحكام المعلمين"، وهي من أوسع ما أُلف في موضوع التربية في المغرب، ومن آرائه الجريئة إلزامية التعليم. يقول في ذلك: "إن معرفة العبادات واجبة بنص القرآن، ومعرفة القرآن واجبة أيضاً لضرورتها في الصلاة، وإن الوالد مكلف بتعليم ابنه القرآن والصلاة؛ لأن حكم الولد في الدين حكم أبيه؛ فإذا لم يتيسر للوالد أن يعلِّم أبناءه بنفسه، فعليه أن يرسلهم إلى الكُتَّاب لتلقي العلم بالأجر؛ فإذا لم يكن الوالد قادراً على نفقة التعليم فأقرباؤه مكلفون بذلك؛ فإذا عجز أهله عن نفقة التعليم، فالمحسنون مُرَغَّبون في ذلك، أو معلم الكُتَّاب يعلم احتساباً، أو بيت مال المسلمين..." [6].
5- وجدير بالذكر أن هناك كتابات انتهجت منهجاً خاصاً في الكتابة حول قضايا الطفولة وحقوقها؛ فمن هذه الكتابات أذكر مؤلَّف أبي جعفر أحمد بن إبراهيم الجزار القيرواني، الذي عاش أواخر القرن الثالث، والنصف الأول من القرن الرابع الهجري [369هـ / 980م]. وقد عنون كتابه بـ: "سياسة الصبيان وتدبيرهم". يعد هذا الكتاب من الكتب التي عُنيت بتربية الطفل جسمياً، وهو يحوي اثنين وعشرين باباً. تحدث في الأبواب الستة الأولى عن حفظ صحة الطفل من الولادة، ومن الباب السابع إلى الباب الواحد والعشرين فقد تحدث فيه عن الأمراض التي تعترض الأطفال وطرق مداواتها، وقد رتبها ترتيب أعضاء الجسم من الرأس إلى الأسفل [7]. أما بالنسبة للباب الأخير فقد تحدث فيه عن طباع الأطفال وتربيتهم [8].
6- ومـن الكتـابات المتمـيزة التي أُلفت خصيصاً للأطـفال أذكـر كـتاب: "الإعلام بحـدود قواعد الإسلام" لأبي الفضــل عـيـاض بـن مـوسـى اليحصـبي السـبـتي [ت 544 هـ ـ 1149م] [9].
وقد جاء في مقدمة هذا الكتاب قول المؤلف: "وبعد: أيها الراغب في الخير، الحريص على تدريب المتعلمين لوجوه البر؛ فإنك سألتني في جمع فصول سهلة المأخذ، قريبة المرام، مفسرة حدود قواعد الإسلام" [10].
من خلال هذه الفقرة تتضح لنا الغاية من تأليف هذا الكتاب؛ إذ ألفه للمتعلمين من أطفال المغرب، وقصد فيه إلى تفسير قواعد الإسلام الخمس؛ وذلك في لغة واضحة سهلة. ابتعد فيها عن كثير من التعابير والجمل الاصطلاحية، بحيث أصبحت غير بعيدة عن مدركات الأطفال الذين ألف لهم [11].
7 ـ أما بالنسبة للمؤرخ ابن خلدون [ت 808 هـ / 1405م] فيعد من المربين الكبار الذين أبدعوا إبداعاً متميزاً في تربية الأطفال وتعليمهم، ويذكر سعيد أعراب أن ابن خلدون لم يسلك طريق الفقهاء أو المحدثين، بل اختار مذهباً خاصاً به [12].
وفي هذا يقول ابن خلدون: "فالمقدمة في الفكر الإنساني الذي تميز به البشر عن الحيوانات، واهتدى به لتحصيل معاشه والتعاون عليه بأبناء جنسه والنظر في معبوده، وما جاءت به الرسل من عنده فصار جميع الحيوانات في طاعته وملكة قدرته وفضله على كثير من خلقه" [13].
ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد أن ابن خلدون خصص فصلاً للحديث عن اختلاف الأمصار في تعليم الولدان، وقد حددها في أربعة مذاهب وهي:
1 ـ مذهب أهل المغرب.
2 ـ مذهب أهل الأندلس [14].
3 ـ مذهب أهل إفريقية.
4 ـ مذهب أهل المشرق [15].
ولم يكتف ابن خلدون بذكر هذه المذاهب الأربعة فقط، وإنما فاضل بينها، فذكر لكل مذهب محاسنه ومساوئه. ثم ختم هذا الفصل باستحسان ما ذهب إليه القاضي أبو بكر العربي من وجوب تقديم اللغة العربية والشعر والحساب على تعليم القرآن الكريم والعلوم الدينية الأخرى، وقد أقر ابن خلدون بهذا الرأي من الناحية التربوية والنظرية، لكنه أشار في الوقت ذاته إلى أن العوائد لا تساعد عليه.
وفي هذا يقول ابن خلدون: "هذا ما أشار إليه القاضي أبو بكر رحمه الله، وهو لعمري مذهب حسن؛ إلا أن العوائد لا تساعد عليه، وهي أملك بالأحوال. ووجه ما اختصت به العوائد من تقدُّم دراسة القرآن إيثاراً للتبرك والثواب، وخشية ما يعرض للولد من جنون الصبا من الآفات والقواطع عن العلم، وقبوله التعليم (ولولا ذاك) لكان هذا المذهب الذي ذكره القاضي أوْلى مما أخذ به أهل المغرب والمشرق" [16].
8- أما بالنسبة لأبي العباس أحمد بن عرضون الزجلي [ت 922هـ ـ 1584م]، ففد ألف كتاباً بعنوان: "مقنع المحتاج في آداب الأزواج"، وهو كتاب ضخم يشتمل على مقدمة، وقسمين، ويشمل كل قسم على أربعة أبواب وخاتمة خاصة بالطفل قسَّمها المؤلف إلى فصلين [17].
وقد أشار ابن عرضون في هذا الصدد إلى الدور الذي تلعبه مدرسة البيت في تربية الطفل خصوصاً من الناحية الدينية التي أهملها الناس كثيراً في عصره. ومما هو جدير بالذكر أن لابن عرضون موقفاً صارماً يرى من خلاله أن على الآباء وأولياء الأمر أن يهتموا بشؤون البنت، كما يعتنون بتربية الولد، فيعلموها ويهذبوها حتى لا تبقى جاهلة؛ فالبنت يجب أن لا تكون مستثناة [18].
ثم تحدث عن كيفية التعليم في الكُتَّاب والطريقة المتبعة في ذلك، وانتقد إهمال المعلمين لنطق الطفل (التهجي) [19].
9- وفي النهاية أود الإشارة إلى أن الاهتمام بقضايا الطفولة: تربيةً، وتعليماً، وتهذيباً... لم يقتصر فقط على العلماء؛ فقد كان من الساسة والحكام من أوْلى بدوره الرعاية والاهتمام بذلك، وسأتوقف على نموذج واحد وهو السلطان المولى محمد بن عبد الله العلوي [ت 1204هـ ـ 1789م]، وهو في الحقيقة يشكل نموذجاً من نماذج عناية الساسة بالطفولة المغربية. وقد اختط منهجاً خاصاً للدراسة والتعليم، فكان أول تنظيم رسمي للمعاهد والجامعات الإسلامية بالمغرب. وقد كان هذا السلطان محباً للعلماء وأهل الخير مقرباً لهم، كما كان يتحسر على ما فاته من قراءة العلم أيام الشباب، ويقول: "واللهِ قد ضيعنا عمرنا في البطالة". وذلك لما فاته من الاشتغال بفنون العلم في حال الصغر، واعتكف أولاً على سرد كتب التاريخ، وأخبار الناس وأيام العرب إلى أن تملَّى من ذلك وبلغ الغاية القصوى" [20].
ومن كتب السلطان العلوي كتاب بعنوان: "مواهب المنـان بمـا يـتـأكد على المعلـمـين تعليـمه للصبـيان" [21]. وهو كتاب صغير الحجم عظيم القيمة ضمنه آراء حول التعليم ومناهجه ومواده مقترحاً برنامجه الإصلاحي التربـوي، والمسـطرة التـربويـة التي حـددها للسير عليها مـن قِـبَـل الهيـئـة التـدريسـية بالجـامعـات والمـدارس العتيقة والمساجد [22].
وقد تحدث السلطان العلوي عن أسباب تأليف هذا الكتاب بقوله: "حملني ذلك لما انطوى عليه الفؤاد من حب النصح للمسلمين أن أجمع لهم مسائل مهمات عن علم أمور الدين قريبة المقاصد شهيرة الموارد، مقتصراً فيه على الضروري ليسهل حفظه على الصبيان. وهي نافعة لمن اقتصر عليها في دينه من الشيوخ والكهول والشبان... وسميته مواهب المنان بما يتأكد على المعلمين تعليمه للصبيان" [23].
ويحتوي الكتاب على مقدمة فيما يتوجب على الصبيان تعلمه من التوحيد وأحكام الطهارة، والصلاة وشروطها، وتتوفر على باب حول الزكاة والصيام والحج، وعلى خاتمة في التصوف [24].
ومن عجيب سيرته أنه كان رحمه الله تعالى يرى اشتغالَ طلبة العلم بقراءة المختصرات في فن الفقه وغيره، وإعراضَهم عن الأمهات المبسوطة الواضحة تضييعاً للأعمار في غير طائل، وكان ينهى عن ذلك ولا يترك من يقرأ مختصر خليل ومختصر ابن عرفة وأمثالهما، ويبالغ في التشنيع على من اشتغل بشيء من ذلك حتى كاد الناس يتركون قراءة مختصر خليل. وإنما كان يحض على كتاب الرسالة والتهذيب وأمثالهما حتى وضع في ذلك كتاباً [25] يحوي مساند الأئمة الأربعة، وهو كتاب نفيس في مجلد ضخم وعنوانه: "الفتوحات الإلهية في أحاديث خير البرية" [26].
وجدير بالذكر أن الناصري جنح إلى رأي السلطان العلوي، ووجه بدوره مجموعة من الانتقادات لأساليب ومناهج التعليم المتبعة في عصره. ولم يكتف بذلك فقط وإنما بسط آراءه في الأسباب والعلل التي كانت السبب في جمود تلك الأساليب، وتحجر عقول أولئك في مقدمة مهمة توج بها كتابه المعنون: "الفلك المشحون بنفائس تبصرة ابن فرحون".
وقد أشار إلى مجموعة من العوامل التي كانت سبباً في جمود أساليب التعليم المفضية إلى التخلف الفكري، وذكر منها جملة من بينها:
ـ انعدام منهجية التلقين، المبنية على البحث والاجتهاد والاستنباط والتحصيل.
ـ الاعتناء بالمختصرات واتخاذها عمدة وسنداً في التدريس والإعراض عن الأمهات التي هي أصل العلوم وعمدتها.
ـ سلوك سبيل الاختصار والحرص عليه في صناعة التأليف، وعدم مزج الفروع بأصولها ومقارنتها ببعضها [27].
ولا بد من الإشارة في هذا الصدد، أن للسلطان العلوي مجموعة من المؤلفات أذكر منها على سبيل المثال:
ـ الفتوحات الصغرى أو الفتوحات الإلهية فيما اجتمع من الأحاديث النبوية الشافية للقلوب الصدية. والكتاب خاص بالعبادات وما في حكمها.
ـ الجامع الصحيح الأسانيد المستخرج من أربعة منافذ، ويتناول الموضوع العبادات والمعاملات.
ـ بغية الطلاب المعينة قارئها على عبادة العزيز الوهاب وهو كتاب خاص بمبادئ الدراسة والتعليم وشرح عقيـدة ابن أبي زيد القيرواني وفقه العبادات.
ـ ترويح القلوب وهو ديوان شعري [28].
خاتمة
عـنايـة الإسلام بتربية الأطفال لم تنطلق من فراغ، بل هي عناية مستمدة من قيم ومبادئ الدين الإسلامي الهادفة لتكوين أمة قوية المادة والروح، وهي عناية تقدم لنا البديل الإسلامي لما يتلقاه الطفل من مؤثرات وافدة من خلال المؤسسات الثقافية والتربوية الغربية، تقود في الغالب إلى انفصام في وجدان الطفل فتضطرب داخله الرموز والرؤى، وتنشأ لديه ألوان من الصراع في سلوكه الاجتماعي والثقافي، فتقتحم الرؤى والرموز الغربية وجدانه وذهنه شيئاً فشيئاً إلى أن تغدو الرموز والرؤى الإسلامية غريبة عن الطفل.
وعليه فإن أي مشروع ثقافي يكون الطفل هدفه، يجب أن يقوم على أسس من الرؤى والرموز الإسلامية التي تشكل حضارتنا وثقافتنا؛ باستنباط المنهج القرآني في التربية، والاسترشاد بالسنة المطهرة والتراث الإسلامي في التوجيه والتعليم.