الحلم والصفح
مِن الناس مَن تستخفُّه التوافه فيستحمق سريعًا، ومنهم مَنْ تستفزِّه الشدائد فيبقى -رغم وقعها الأليم- محتفِظًا برجاحة فكره، ولين خُلُقه, ومِن ثَمَّ كانت درجات الناس متفاوتةً في الثبات أمام المثيرات، وأنبياء الله -عليهم السلام- في القمة العالية من هذا الخُلُق الكريم الحلم والصفح؛ فهذا هود رغم شتائم قومه واتهامهم له بالسفاهة يجيب في بساطة: {يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 67].
أما محمد فالمحفوظ من سيرته أنه ما انتقم لنفسه قطُّ إلاَّ أن تُنْتَهَكَ حُرْمة الله؛ فالغضبُ يذهب بصاحبه مذاهب حمقاء.
ومن هنا كان نهي رسول الله عن الغضب حين قال له رجل: علِّمني شيئًا، ولا تُكْثِر عليَّ؛ لعَلِّي أَعِيه. قال: "لا تَغْضَبْ"[1]. لقد كان العرب الأوَّلون يفخرون بأنهم يُلاقون الجهل بجهل أشدَّ:
أَلاَ لا يَجْهَلَنْ أَحَـدٌ عَلَيْنَـا *** فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْـلِ الْجَاهِلِينَـا[2]
ولكنَّ الإسلام جاء ليُكَفْكِف من هذا النزوان[3]، ويُقِيم أركان المجتمع على الفضل، فإن تعذَّر فالعدل، ولن تتحقَّق هذه الغاية إلاَّ إذا هَيْمَنَ العقل الراشد على غريزة الغضب.
ومِنَ الناس مَنْ لا يسكتُ عند الغضب، فهو في ثورة دائمة، وتَغَيُّظ يطبعُ على وجهه العبوسَ، إذا مسَّه أحدٌ ارتعش كالمحموم، وأنشأ يُرغي ويُزبد[4]، ويلعن ويطعن، والإسلام بريء من هذه الخلال الكدرة، قال : "لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ، وَلا اللَّعَّانِ، وَلا الْفَاحِشِ، وَلا الْبَذِيءِ"[5].
على أن الإيمان كُلَّما رَبَا في القلب رَبَتْ معه السماحة، وازداد الحِلْم، ونفر المرء من طلب الهلاك والغضب للمخطئين في حقِّه، فعندما قِيَل لرسول الله: ادعُ على المشركين والعنهم. قال: "إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً"[6].
وقد حرَّم الإسلام المهاترات السفيهة، وتبادل السباب بين المتخاصمين؛ لئلاَّ يؤَدِّيَ ذلك إلى الغضب الذي هو موقد الفساد، على أنَّ مِلاكَ النجاة من هذه المنازعات الحادَّة تغليبُ الحِلْم على الغضب، وتغليبُ العفو على العقاب.
وحياة رسول الله مليئة بنماذج الحلم والصفح عن أشدِّ المسيئين إليه، وأعتى المجرمين في حقِّه، لقد كان نموذجًا عمليًّا لما يدعو إليه {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]، فهو القائل في حديثه الشريف: "مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ U عَلَى رُءُوسِ الْخَلائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ مَا شَاءَ"[7].