ومن خلال هذا كله كان هناك ما يعرف بـ (النظام المالي) وعرضه كما يلي:
النظام المالي الإسلامي
راعت الدولة الإسلامية أن يكون لها نظام مالي تسير عليه؛ فأنشأت بيتا للمال يقوم على رعاية مصالحها، وهو يشبه وزارة المالية في وقتنا الحاضر، والقائم عليه يشبه وزير المالية. ولبيت المال حقوق وعليه واجبات، فكل ما يستحقه المسلمون ولم يتعين مالكه منهم فهو حق من حقوق بيت المال، وكل ما وَجَبَ صرفه في مصالح المسلمين فهو حق على بيت المال، ولبيت المال موارد هي الصدقة والغنيمة والفيء، وهذه الموارد قسمان: موارد دورية تجبى في أوقات معينة من كل عام كالزكاة والجزية، وموارد غير دورية كخمس الغنائم والركاز.
1- الصدقة:
الصدقة أو الزكاة هي ما يؤخذ من أغنياء المسلمين ليرد على فقرائهم،وقد بينا فيما سبق بعض مالها من آثار جليلة للمجتمع، وأنها من مظاهر التكافل الاجتماعي والأخوة الإنسانية، ومصادرها: السوائم (الإبل والبقر والغنم) والفضة والذهب، وعروض التجارة، والزروع والثمار، وقد بينت الشريعة لكل ذلك نصابا معينا لا تجب الزكاة فيما دونه، ومصرفها ما ذكر في قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم}.
ولعل في وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن جماع القول لخصائص الزكاة، فقد أخرج البخاري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: "إنك ستأتي قوما أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم..".
ويؤخذ من هذه الوصية أن الزكاة تؤخذ من الأغنياء لترد على الفقراء، وأنها تؤخذ في إنصاف؛ فلا تؤخذ كرائمُ الأموال وخيارها.
2- الغنيمة:
وهي ما يغنمه المسلمون ويأخذونه من أموال الكفار بالقتال والجهاد في سبيل الله، وهي أنواع: أسرى وسبي وأموال منقولة وأرضين على خلاف فيها، فالأسرى هم المقاتلون الذين يقعون في الأسر، والسبي هم النساء والأطفال الذين يقعون في أيدي المسلمين، ولا يجوز أن يقتلوا، ويكونون سبيا مسترقا يقسمون مع الغنائم، ويجوز قبول الفدية منهم، والأموال المنقولة هي ما يمكن نقله كالنقود والماشية.
والواجب في المغنم تخميسه وصرف الخمس إلى من ذكرهم الله تعالى بقوله: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل)، وقسمة الأربعة الأخماس الباقية بين الغانمين.
3- الفيء
وهو كل مال وصل من المشركين عفوا من غير قتال، ولا بإيجاف ولا خيل ولا ركاب، ويدخل فيه الجزية والخراج والأعشار وغيرها.
4- الجزية:
وهي ما كان يُوضَعُ على رءوس أهل الذمة، وتؤخذ من الرجال القادرين لا ممن يُتصدق عليهم، ولا ممن لا قدرة له على العمل، وكانوا يقدرونها حسب أحوال أهل الذمة غنى وفقرا، لكن لا تزيد على ثمانية وأربعين درهما، ولا تنقص عن اثني عشر درهما في السنة، وكانت تؤدى منجمة، وتسقط بالإسلام.
وتقبل من غير المسلمين أيا كانوا إلا إذا كانوا من العرب عبدة الأوثان أو من المرتدين، فهؤلاء لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، أما غيرهم من النصارى واليهود والمجوس وعباد الأوثان من العجم فيقبل منهم الإسلام أو الجزية أو السيف، والجزية بدل عن القتل أو القتال، فدافعها لا يقتل ولا يدعى إلى قتال، وهو آمن على نفسه وماله.
5- الخراج:
وهو ما كان يوضع على الأراضي التي فُتِحَتْ عنوة ثم تركت بأيدي أصحابها على أن يؤدوا عنها الخراج، ومما يدخل تحت الخراج ويعتبر من موارد بيت المال في الإسلام: أعشار التجارة، وأخماس المعادن، والمراعي والضياع، وأثمان المياه، وما يوضع على الملاحات والآجام وغيرها مما يعد من قبيل الخراج. (7)
المِلْكِية في النظام الاقتصادي الإسلامي
تتقسم الملكية في نظام الإسلام الاقتصادي إلى أربعة أقسام:
أ ـ الملكية الفردية (الخاصة) ب ـ الملكية العامة
ج ـ الملكية المزدوجة أو الاقتصاد المختلط د ـ ملكية الدولة.
الملكية الفردية (الخاصة)
أباح الإسلام للمسلم حق التملك بحكم الاستخلاف في الأرض؛ فهو مستخلف في الأرض لاستعمارها واستغلال خيراتها لمصلحة نوعه، لكن أصل الاستخلاف في الإسلام ليس للفرد إنما للأمة والجماعة قال تعالى: {وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه} [الحديد: 7]، وقال تعالى: {للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن} [النساء: 32]، وهذا تقرير لحق الفرد في تملك ما كسبه بعرقه وجهده، وقال صلى الله عليه وسلم: "من قُتِل دون ماله فهو شهيد" أخرجه الشيخان.
والملكية الفردية تكافيء ما يبذله الإنسان في تعمير الأرض واستغلالها، وبقدر بذله وجهده يكون حظه من هذه الملكية، وهو وكيل في هذه الملكية يتصرف فيها بأمر موكله وهو الله سبحانه وتعالى، وحق هذه الوكالة هو القيام بواجبات الإنفاق الخاص على نفسه وأهله وخاصته ثم القيام بواجبات الإنفاق العام كالزكاة والصدقة والنذور والكفارات وما إلى ذلك، وكذلك ينفق على أنواع البر المختلفة، قال تعالى في حق الأنصار: {يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويُؤْثِرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يُوق شُحَّ نفسه فأولئك هم المفلحون} [الحشر: 9].
فصفة الإيثار هي التي تميز المسلم، وتجعله ينفق على أوجه الخير ليطهر نفسه بهذا الإحسان، وينفي عنها البخل والشح لقوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} [التوبة: 103] ويحق للملكية الفردية الإسهام الفعال في أنواع الاستثمار المختلفة، وجميع ألوان التجارة، وكذلك يحق للملكية الفردية المساهمة في العمل الحر المنتج الصناعي والزراعي، والاستثناء الوحيد من الملكية الفردية في الإسلام هو أن جزءًا من الملكية العامة لا يحق للفرد أن يمتلكه ولا حتى ملك وظيفة، ويتمثل ذلك في المرافق العامة الضرورية لحياة المجتمع التي ورد ذكرها في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "المسلمون شركاء في ثلاث: في الكلأ والماء والنار "، وما صارت هذه شركة للناس إلا لأنها من المرافق الحيوية التي لا تصلح للملكية الفردية، والحكمة من ذلك أن لا يُترَك موردٌ عامٌّ وضروري لحياة كل الناس، تحت تصرف فردي يخضع لرغبات أحد من الناس إن شاء أمسك وإن شاء أرسل.
وللملكية الفردية ضوابط أخرى تقع جُلُّها في دائرة ما أمر به الله وما نهى عنه أي أن لا يخرج المسلم عن هذه الدائرة، وضابط آخر بعد ذلك هو الالتزام بقاعدة: "لاَضَرر ولا ضِرار" أي ألا تسبب الملكية الفردية ضررًا للملكيات الأخرى، وإذا أصابها ضرر من الملكيات الأخرى ألا ترد الضرر بضرر مثله بل ترده إلى ولي الأمر، وتخضع الملكية الفردية لضوابط الإنفاق الإسلامية لكي لا يكون هناك ضرر أو ضِرار.
الملكية العامة
المالك فيها هو الأمة بصفتها الاستخلافية {وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه} [الحديد: 7] والأمة تملك الرقبة والعين، قال تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا وارزقوهم فيها واكسوهم} [النساء: 5] فجعل الضمير في المال يعود للجماعة (الأمة) وليس للسفهاء، والذي يتولى أمر هذه الملكية هو الحاكم بصفته الاعتبارية، أي باعتباره حاكمًا وليس بصفته الشخصية كفرد من أفراد المجتمع، وتتمثل الملكية العامة في المعادن والوقود، وهذه أيضًا تخضع للملكية العامة إلا إذا عجزت الدولة عن استخراج المعادن أو الوقود، فإنها حينئذ تكلف القطاع الخاص (الملكية الخاصة) باستخراج المعادن أو الوقود بالشروط التي يتفقان عليها.
وكذلك الغابات جزء أساسي من الملكية العامة، ويجوز للدولة أن تستقطع منها شيئًا للملكية الخاصة بنفس شروط انتقال الملكية في الأراضي الزراعية على أن تكون ملك وظيفة فقط؛ فالملكية العامة على هذا تشمل القطاعات الأساسية في الاقتصاد القومي، والقاعدة العامة: كل ما لا يستغني عنه المسلمون فهو عام، هذا بالإضافة إلى القطاع الحديث الذي يسمى القطاع الخدمي الذي يُعنى بالخدمات العامة التي تقدمها الدولة للمواطنين، وهذا القطاع يقع تحت الإشراف المباشر للدولة، وللملكية العامة -وهي ملك الأمة- أن تساعد في ترقية وتحسين أدائه.
أما وظائف الملكية العامة فهي:
1- إيجاد مصدر عام لتمويل النفقات العامة، والدليل على ذلك أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، جعل الأراضي المفتوحة (أراضي السَّواد) ملكية عامة، وفرض على استغلالها الخراج الذي تُمَوَّل به الخزانة العامة وتُغطَّى به النفقات العامة.
2- التوازن الاجتماعي؛ وهو إجراء توزيعي يهدف إلى إشباع حاجات الفئات الفقيرة، وهذا له مصدر معروف وهو الزكاة التي تقوم الدولة بتوزيعها لإغناء الفقراء وتحقيق العدالة الاجتماعية.
وطبيعة الملكية العامة أنها ملك عام لكل فرد فيه حق كما قال عمر بن الخطاب: "ما من أحد إلا وله في هذا المال حق، أُعْطِيَهُ أو مُنِعَهُ" لكن المالك الحقيقي فيه هو الأمة مجتمعة، أي أنها تملك الرقبة والعين ويملك الفرد فيها الوظيفة والمنفعة دون الرقبة والعين، أما الدولة فهي التي تقوم بتنمية هذه الملكية وتثميرها بالوكالة عن الأمة.
الملكية المزدوجة، أوالاقتصاد المختلط
هي في الأصل مزيج من الملكية الخاصة والعامة، تعمل جنبًا إلى جنب في استثمار الأموال العامة بحيث تُقسَّم الأرباح بينهما بنسبة إسهام كلٍ منهما في الاستثمار، وتسمّى هذه بالشركات، وقد أجازها الإسلام وجعل لها شروطًا تتحقق بها المصلحة الخاصة والعامة وينتفع بها المجتمع وتحفظ حقوق الشركاء في ذات الوقت.
ويمكن أن تأخذ الملكية المختلطة شكلاً آخر هو اشتراك القطاع العام أو الدولة مع القطاع الخاص (الملكية الفردية) في نشاط اقتصادي بالمشاركة مع احتفاظ كل منهما بنسبة أرباحه حسب الاتفاق، ويعرف هذا في كثير من دول العالم اليوم بالاقتصاد المختلط، وهو الذي يميز الاقتصاد الحر عن الاقتصاد المركزي الذي يعتمد على التخطيط الحكومي أولاً وأخيرًا.
ملكية الدولة
المالك الفعلي فيها هو الدولة بشخصيتها الاعتبارية، وسلطة الدولة في هذه الملكية هي أن ترعى هذه الملكية وتُنميها وتطورها لمصلحة الأمة، باعتبار أن الدولة موظفة لدى الأمة وخادمة لها ووكيلة عنها في إدارة الاقتصاد القومي ورعاية الملكيات الخاصة، وتشجيعها على الاستثمار والاتجار والمشاركة الفعلية في النشاط الاقتصادي، وتسمّى هذه الوظيفة ملكية الدولة، والدولة تقوم بدور الإشراف الكلي على الاقتصاد نيابة عن الأمة، والفرق بين ملكية الدولة والملكية العامة هو أن المالك في ملكية الدولة هو الحاكم بصفته الاعتبارية، والملكية العامة المالك فيها هو الأمة، والأمة تملك الرقبة والعين لكن الحاكم هو الذي ينوب عنها في تصريف هذه الملكية حسب مقتضيات المصلحة العامة.
وهناك وظائف حددها الشارع الحكيم للحاكم كجمع الزكاة وتوزيعها حسب المصارف التي حددها الشارع، وهذه من أهم وظائف الدولة لأن القصد من الزكاة هو خلق توازن اجتماعي يضمن للمحتاجين حق العيش الكريم في ظل الدولة الإسلامية بأخذ شيء من فضول أموال الأغنياء ورده على الفقراء، فالمال في الإسلام مال الله والإنسان مستخلف على هذا المال بالوكالة؛ ولذلك فإن الغني عندما يخرج شيئًا من ماله للفقير فهو يعطيه من مال الله وليس من ماله الخاص لقوله تعالى: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} [النور: 33] وإنما آلت إليه الخصوصية بحق العمل والملكية التي هي أيضًا ملك مؤقت ومحدود بحدود العمل والجهد الذي يبذله في المال.
والروح التي يبثها الإسلام في أصحاب الأموال هي روح الإنسانية المؤمنة التي تجاوزت حدود النفس الضيقة إلى حدود الإيثار والتعاون على البر والتقوى، والتآخي في الإسلام الذي يرتفع فوق التآخي في الأرحام والأنساب، وفوق الأنانية الضيقة التي لا ترعى إلا المصلحة الشخصية، تجاوزت حدود كل ذلك إلى رحاب الإنسانية العريضة التي تقدم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، والحكمة في ذلك هي تحقيق الضمان الاجتماعي لأفراد المجتمع العاجزين عن الكسب والمعوزين الذين لا يكسبون ما يضمن حياة كريمة لهم ولمن يعولون، ومسؤولية الدولة المباشرة هي أن تكفل لهولاء حياة حرة كريمة.
والملكية العامة هي التي تحفظ حق الجماعة كلها في الثروة لقوله تعالى: {كي لا يكون دُولة بين الأغنياء منكم} [الحشر: 7] وهذا تأكيد على وجوب رعاية القطاع العام لمصلحة المساكين والمحتاجين وحمايتهم ليظفر كل أفراد الجماعة بحقهم في الانتفاع بمال الله الذي جعله للأغنياء ولغيرهم أيضًا وليس لهم وحدهم، ولا يكتفي الإسلام بضمان الدولة للمسلمين بل يتجاوز ذلك إلى غير المسلمين، فالذميِّ الذي يعيش في كنف الدولة الإسلامية إذا كبر وعجز عن الكسب، كفلته الدولة الإسلامية وأصبحت نفقته من بيت المال.
وللدولة مهمات أخرى في نظام الاقتصاد الإسلامي فهي التي تشرف إشرافآً مباشرًا على قطاع الخدمات، وإشرافها يضمن للفقراء والمساكين العلاج والتعليم وما يتصل بذلك، والدولة هي التي تقوم بالإشراف على نظام الحسبة، وهي مراقبة الأسواق لكي لا يلجأ التجار إلى الغش والاحتكار والتغرير والتطفيف في المكاييل والموازين، ويقوم بهذه الوظيفة المحتسب الذي تُعيِّنه الدولة.
وموجز ما تقدم أن نظام الاقتصاد الإسلامي يقبل آلية جهاز الأثمان وقوانين العرض والطلب ما دامت الأسواق تلتزم الأحكام الشرعية في التبادل، لكن الشريعة مع ذلك أقامت مؤسسات أخرى لمعونة من لايوفر لهم نشاط السوق حدًا مناسبًا من المعيشة؛ لأن الحياة ليست مادة فقط ولا روحًا فقط بل هي مزيج من المادة والروح، فالآلية تصلح لحياة مادية ليس فيها شيء غير المادة، أما الحياة الإنسانية فهي حياة تتصل فيها المادة بالروح ولا تنفصل عنها، فالناس يُشبِعون حاجاتهم المادية لكنهم لا يتجاهلون نداءات الأرواح الأخرى التي لا تجد ما يشبع حاجاتها المادية، ولا تجد ما تنفق ولا ما تستهلك، فالنظام الإسلامي يسعى لسد الاحتياجات الدنيا للفقراء من الطعام والكساء والتعليم والإسكان والنقل والتسهيلات الطبية ليؤمِّن كفايتهم ويحقق كرامتهم باعتبارهم خلفاء الله في الأرض، ولا يترك الغالبية العظمى من المجتمع تنفق ساعات طويلة في العمل لاستيفاء ضرورياتها، فلا يبقى لديها فسحة من الوقت ولا قليل من الفائض من الموارد يمكنها من الاستجمام، أي الارتقاء الفكري والأخلاقي، بينما يثري البعض دون جهد يذكر. (
الحرية الاقتصادية
الحرية الاقتصادية في الإسلام تقوم على أساس من الحرية الإنسانية؛ لأن الإنسان إذا لم يملك حريته ـ حرية القول والفعل ـ فهو لا يستطيع أن يملك حرية التصرف الاقتصادي، والحرية بهذه الصفة حق يكتسبه الإنسان بدخوله في الإسلام ونطقه بالشهادة، فشهادة أن لا إله إلا الله فيها تحرير للإنسان من العبودية لغير الله، وهي أعلى درجات الحرية؛ إذ أن الإنسان قد تحرر من الاستعباد وعبَّد نفسه للعلي الكبير الذي له الأسماء الحسنى والصفات العُلَى، ولا إله غيره، ولا معبود بحق سواه، فالحرية الحقة المطلقة له وحده، وقد ورد شاهد في القرآن على الحرية الاقتصادية يدل على أنها فرع من الحرية الإنسانية، قال تعالى: {ضرب الله مثلاً عبدًا مملوكًا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقًا حسنًا فهو ينفق منه سرًا وجهرًا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون} [النحل: 75].
إن الحرية الاقتصادية لا تتبلور في التطبيق والممارسة ما لم توافق الحرية الإنسانية؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، فالذي لا يملك حرية التصرف أي الحرية الإنسانية لا يستطيع أن يمارس النشاط الاقتصادي الحر، لكن الحرية الإنسانية ليست مطلقة لأنها إنسانية محدودة بوجود الإنسان الجسمي المادي وتركيبه العقلي النفسي وبيئته المادية، وهذا ببساطة يعني أن الإنسان لا يستطيع أن يمارس وجوده وحريته إلا في هذا الإطار المحدود لوجوده الإنساني، وداخل هذه الحدود يقوم النشاط الاقتصادي الإسلامي بالوفاء بحاجات الإنسان المختلفة من الطيبات المباحة والمتاحة، الضرورية منها والكمالية.
وبالنسبة للنظام الاقتصادي الإسلامي يقع هذا الإطار في دائرة ما أباح الله وأحَلَّ من الطيبات، ولا يقوم النشاط الاقتصادي في غيرها من الخبائث والمحرمات، وهذا هو أحد ضوابط الحرية الاقتصادية في النظام الإسلامي، وهناك ضوابط للحرية الاقتصادية كثيرة تتمثل في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضِرار" فهذا الحديث يضع شرطًا لحماية التملك والاتجار هو عدم إلحاق الضرر بالآخرين، وألا يُردَّ الضرر بضرر مثله، وهذا هو الضِّرار، ومن ضوابط الحرية تدخُّل الدولة في النشاط الاقتصادي.
فالحرية الاقتصادية هي أساس النظام الإسلامي، وهي التي تميز نظام الإسلام الاقتصادي عن النظام الرأسمالي الذي يتقيد فقط بقوانين العرض والطلب والقوانين الوضعية التي تمنع السرقة والنهب المُسلَّح والقتل وما إلى ذلك، وكذلك تميز الحرية النشاط الاقتصادي الإسلامي عن النظام الشيوعي الذي يمنع الحرية أولاً وأخيرًا، ولذلك يعتمد النظام على تخطيط الحكومة المركزية؛ إذ أنه اقتصاد أوامر وليس اقتصادًا حرًا، فالنظام الاقتصادي الإسلامي على هذا نسيج وحده لأنه يحمل مقومات الاقتصاد الإنساني التكافلي التعاوني الذي تفتقر إليها النظم الاقتصادية المعاصرة. (9).
الإنتاج والتنمية الاقتصادية في الإسلام
تعني التنمية الاقتصادية عند كثير من الاقتصاديين تحقيق معدلات عالية من الدخل القومي لزيادة دخل الفرد من الناتج القومي بحيث يهدف ذلك إلى تحقيق الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية للجميع، وفي نظام الاقتصاد الإسلامي، لابد أن يتقيد ذلك بشريعة الحرام والحلال وبضوابط الحرية الاقتصادية التي يخضع لها نظام الإسلام الاقتصادي، والوصول إلى هذا الهدف الاقتصادي لا يمكن تحقيقه دون العمل على زيادة الإنتاج القومي.
لم يترك النظام الاقتصادي في الإسلام الإنتاج لجهاز الأثمان فحسب، بل أخضعه للقيم العقائدية الأخلاقية التي يقوم عليها النظام الإسلامي نفسه، فلابد أولاً أن تقوم المؤسسات الإنتاجية على أساس أخلاقي، فتبتغي الكسب الحلال نوعًا وكمًا، فلا يكون الإنتاج في المحرمات من المطعم والملبس والمركوب، ويتقيد أيضًا بكيفية مباحة مشروعة كأن يكون مرابحة أو مضاربة أي مشاركة أو أية صيغة من صيغ الشركات الإسلامية المباحة، وأن لا يمارس المنتجون أنواع الربا المختلفة وأن يتوخوا الربح الحلال والتنافس الشريف، خلافًا لما يقوم به المرابون الرأسماليون الذي يسعون إلى الربح فقط والمزيد من الربح للمؤسسة الخاصة، ولا يضعون اعتبارًا لأية مواضعات أخرى اجتماعية كانت أو اقتصادية.
وعناصر الإنتاج هي الطبيعة والعمل ورأس المال والتنظيم، ويرى بعض علماء الاقتصاد الإسلامي أن عائد الإنتاج يعود على العمل بالأجور وعلى رأس المال بالربح؛ لأن الطبيعة عندهم تقع ملكيتها في توزيع ما قبل الإنتاج وللمنتج منهما المنفعة غير العين والرقبة، فهو يملك منها الوظيفة فقط، أمّا التنظيم فهو عمل وعائده هو الأجر إلا إذا كان المنظِّم مسهمًا في رأس المال فإن له نصيبًا من الربح، ولا يخضع الإنتاج في الإسلام للمعدلات المادية كما هو الحال في النظام الرأسمالي بل يراعي المصلحة الاجتماعية، وقد يقدم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة إذا دعت الظروف لذلك.
التوزيع والتبادل
التوزيع العادل يقوم على أساس احترام الجهد البشري، فيشحذ الهمم ويؤدي إلى إنتاج أفضل كمًا ونوعًا، والإنتاج الأكبر يؤدي إلى نصيب أكبر من الرفاهية، أما التوزيع غير العادل فيؤدي إلى تراكم الفروق بين الطلب الكلي الاستهلاكي والاستثماري، وبين إنتاج السلع والخدمات المختلفة الاستهلاكية والاستثمارية؛ ممّا يؤدي إلى تقلبات النشاط الاقتصادي والأمراض الاجتماعية التي تنجم عن ذلك، وهذا النمط من التوزيع يثبط همم المشتغلين بالإنتاج ويجعلهم لا يُقبلون على أعمالهم بالقدر الضروري الذي يزيد في الناتج القومي ويؤدي إلى استغلال الموارد المتاحة الاستغلال الأمثل.
وأساس التوزيع العادل في الإسلام يقوم على التوفيق بين المصالح الفردية والمصالح العامة الاجتماعية، ويقوم على الدعامة الأخلاقية للنظام الإسلامي وهي الدعوة إلى التعاون والتكافل.
إن الزكاة هي أداة الإسلام التي ترمي إلى إعادة توزيع الثروة، ولا يتم التوزيع التلقائي حسب أولويات السوق كما هو الحال في النظام الرأسمالي، أو حسب العمل فقط، كما هو الحال في النظام الاشتراكي، والملاحظ أن آلية نظام السوق لا تعتد بالفروق الاجتماعية ولا تهتم بإعادة التوازن الاقتصادي والاجتماعي، كذلك جعلت مادية علاقات الإنتاج في النظام الاشتراكي الفرد الحر كمًّا مهملاً وسط إيقاع علاقات الإنتاج المادية، أما التبادل في نظام الاقتصاد الإسلامي فقد اهتم به الإسلام ووضع له الرقباء في نظام الحسبة، وهو نظام مراقبة الأسواق، وقنَّن قواعد التبادل، وجعله منفعة متبادلة بين البائع والمشتري يحقق كل منهما أقصى منفعة بقيمة مجزية للطرفين، وجعل الإسلام للتبادل قواعد يراعيها البائع والمشتري، ومن هذه القواعد:
1- أن الإسلام منع تداول السلع الضارة أو التي لا منفعة فيها، وقد ورد في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الله حرم الخمر وثمنها، وحرم الميتة وثمنها، وحرم الخنزير وثمنه".
2- منع الإسلام الغش، فقد ورد في صحيح مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: "من حمل علينا السلاح فليس من، ومن غشنا فليس منا".
3- منع الإسلام الغَرَر وما شابهه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر، (صحيح مسلم)، وبيع الغرر هو كما يقول الفقهاء: "التردد بين أمرين ليس أحدهما أظهر" مثال ذلك:
أ- أن يُجَهِّل البائع الثمن والمُثمَّن؛ لأن جهلهما غرر.
ب- أن يحدد زمن البيع كبعتك إذا جاء رأس السنة.
ج- أن يعلق البيع على رضا شخص، كبعتك إذا رضي زيد.
د- وبيع المجهول غرر كبيع السمك في الماء والطير في الهواء وهكذا.
4- ألغى الإسلام التدخل غير المشروع بين البائع والمشتري، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يسم المسلم على سوم أخيه" (صحيح مسلم)، وقال: "لايتلقى الركبان لبيع، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، ولا تناجشوا، ولا يبع حاضر لباد، ولا تُصَرُّوا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها فإن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعًا من تمر". (رواه مسلم).
ومعنى لا يتلقى الركبان لبيع هو استقبال البضاعة خارج السوق؛ لأن هذا فيه تضييع لمصلحة البائع والمشتري الذي ينتظر البضاعة في مكان البيع، أما النجش فهو المزايدة في السعر بدون نية الشراء لرفع سعر السلعة، أما النهي عن البيع للبادي أي القادم من البادية من الحاضر أي الحضري لجهل الأول بالسوق، وتصرية الإبل والغنم أي يمسك عن الحلب فلا يحلبها حتى يكبر ضرعها، فمن اشتراها وهي مُصَرَّاة جاز له أن يحلبها، وهو بالخيار بعد ذلك، فإن رضي بها أمسكها وإن لم يرضَ ردها إلى صاحبها ومعها صاعٌ من تمر عوضًا عما أتلفه من لبنه، وهذا فيه إغلاق لباب الظلم وإظهار لعدل الإسلام.
5- وأوصى الإسلام بتيسير سبل التبادل، وذلك بضبط المقاييس والمكاييل قال تعالى: {ويل للمطففين * الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون} [المطففين: 1-3].
6- ضمان حقوق أطراف التعامل، قال تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود﴾ (المائدة: 1)، وفي الحديث: "المسلمون عند شروطهم إلا شرطًا حرَّم حلالاً أو أحل حرامًا". رواه الدارقطني والحاكم.
7- والقاعدة الكبرى هي أن الدولة تقوم بمراقبة التبادل وتقيم نظام الحسبة وتُعيّن المحتسب بحيث لا يختل التبادل في الأسواق ولا يظلم أحدٌ أحدًا؛ فتحفظ بذلك توازن السوق وتحفظ أخلاق الإسلام. (9)
وإضافة إلى هذا كله فقد أتى الإسلام بمباديء اقتصادية عامة لها أثرها في الاقتصاد كقوله تعالى: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا)، وقوله: (ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين)، وفي الحديث: "القصد القصد تبلغوا" أي عليكم بالقصد من الأمور، إلى أمثال ذلك من الآثار التي تحث على التوسط والاعتدال كما هو شأن الإسلام في تشريعاته.
وبعد هذا العرض نستطيع أن نقول: إن الإسلام حقق هدف الاقتصاد من العمل على رفاهية بني الإنسان جميعا، وحقق نظريته التي تتألف من الإنتاج والتوزيع والنقود على نحو عادل لا اضطراب فيه، ولا غبن على أحد.
وعلم الاقتصاد - كما يقول أهله - قد تقدم كثيرا في وضع نظرية الإنتاج، ولكنه اضطرب واشتد اضطرابه في وضع نظرية عادلة للتوزيع.
أما الإسلام فإنه - كما يقول المنصفون من علماء الاقتصاد - قد وضع أسسا وتشريعات ثابتة حكيمة عادلة كل العدل في التوزيع، وبذلك يكون قد انفرد بنظرية فريدة من نوعها في عنصر مهم من عناصر الاقتصاد. (10)
علم الاقتصاد الإسلامي في العصر الحديث
بالرغم من الأسس الشرعية والفكرية القديمة للاقتصاد في الفكر الإسلامي إلا أن مصطلح الاقتصاد الإسلامي في حد ذاته لم يظهر إلا في أواخر القرن الرابع عشر الهجري أو في النصف الثاني من القرن العشرين، ولا بد من القول أن ظهور المصطلح لم يكن مجرد عثور على اسم لشيء موجود، بل كان يعني أكثر من هذا على سبيل التأكيد، لقد كان المصطلح مرتبطاً بعدة أمور، بالرغبة في إقامة نظام اقتصادي عصري في إطار الشريعة الإسلامية، وصياغة نظريات وسياسات اقتصادية تلائم الاحتياجات الواقعية للأقطار الإسلامية وتساعدها على تحقيق التقدم.
لقد ظهرت الرغبة في إقامة نظام اقتصادي عصري يحفظ هوية الأقطار الإسلامية ويحقق مصالحها وقوتها إثر انهيار الدولة العثمانية (التي اعتبرت آخر حلقات الخلافة في الدولة الإسلامية الكبرى) وظهور النزعات الاستقلالية في الأقطار الإسلامية التي وقعت تحت سيطرة الدول الغربية الاستعمارية، ولم تكن السلطات الاستعمارية تُخفي نزعتها الفكرية المسيحية في التأثير على الثقافة والتعليم وتوجهاتها في إعادة صياغة التشريعات ووضع القوانين التي تتفق مع توجهاتها العلمانية، وذلك على المستويين المدني والتجاري، وكل هذا مما أثار حفيظة الصفوة من المثقفين الوطنيين وجعلهم أكثر رغبة واستعداداً لخوض معركة الاستقلال الفكري للحفاظ على الهوية الإسلامية.
وكان من الشائع في خضم هذه المعركة الفكرية أن الاستقلال السياسي ضرورة لتصفية التبعية الفكرية، وأن الاستقلال الاقتصادي في الإطار الإسلامي هو القاعدة الأساسية للاستقلال السياسي، ومما قوّى حافز الصفوة من المثقفين والوطنيين الإسلاميين ورغبتهم في تحقيق الهوية الاقتصادية الإسلامية ظهور حركات ومذاهب اقتصادية جديدة مضادة للنظام الرأسمالي مثل الاشتراكية التعاونية والماركسية؛ فقد كان ثمة اعتقاد شائع بأن الرأسمالية هي سر سيطرة الغرب وأنها الطريق الوحيد إلى القوة.
وفي إطار مناخ التحدي للرأسمالية العالمية تزايدت الدعوة لإحياء الشريعة والقيم والنظم الإسلامية بآليات مناسبة حتى تتم مواجهة الرأسمالية وتحدياتها الاستعمارية، ويمكن للأقطار الإسلامية التخلص من سيطرة الحركات والأفكار الجديدة التي لا تتفق أيضاً مع الشريعة الإسلامية وتحقق التقدم في المجال الاقتصادي، وقد صار من الجلي ما للقوة الاقتصادية من أهمية عظمى في البناء السياسي والاجتماعي، وهكذا ظهر الاهتمام بإقامة الاقتصاد الإسلامي فكراً وتطبيقاً منذ أوائل القرن العشرين في غمرة أحداث وتطورات عديدة داخل الأقطار الإسلامية وخارجها.
وفي الفترة التالية للحرب العالمية الثانية نالت الأقطار الإسلامية الواحدة تلو الأخرى استقلالها السياسي من الدول الاستعمارية الغربية وبدأت مسيرتها لتحقيق التنمية الاقتصادية، وفي ذلك الإطار الجديد ظهرت عدة توجهات فكرية وسياسية تستهدف العمل على إقامة أو إعادة تشكيل النظام الاقتصادي والتأثير في السياسات الاقتصادية الكلية، ومن أبرز هذه التوجهات:
1- التوجه إلى إقامة نظام اقتصادي وطني مستقل ينخفض فيه الاعتماد على الخارج، وتُعطى فيه أولوية للسياسات التي تهتم بتلبية احتياجات السكان الأساسية، وتعمل على تحقيق التنمية اعتماداً على الموارد الذاتية بصفة أساسية.
2- الحفاظ على النظام الاقتصادي السابق للاستقلال من حيث هويته الرأسمالية، واستمرار اعتماد السياسات التي تؤكد الصلة بالعالم الخارجي وبالدول الاستعمارية السابقة، ولكن على أسس جديدة تسعى لتحقيق المصلحة الوطنية.
3- العمل على إقامة نظام اقتصادي ذي نزعة اشتراكية (أو اجتماعية) يتعاظم فيه دور القطاع العام، والارتباط مع الكتلة الشرقية على المستوى العالمي بدلاً من الكتلة الغربية الرأسمالية.
4- المناداة بإقامة نظام اقتصادي إسلامي يسعى لتحقيق المصالح الاقتصادية في إطار وطني مستقل، والحفاظ على علاقات متوازنة مع العالم الخارجي مع السعي إلى تحقيق التكامل مع بقية الأقطار الإسلامية.
ولقد لقي التوجه الأول تأييداً عريضاً، وكان أكثر التوجهات بروزاً من الناحية الواقعية خلال الخمسينات والستينات، خاصة على مستوى الكثير من الأقطار الإسلامية، وبقي التوجه الثاني محدوداً إلا أنه كان قوياً من حيث التأكيد على العلاقات الاقتصادية بالعالم الخارجي، وقد عملت الدول الاستعمارية السابقة من جهتها على دعم هذا التوجه من خلال تنظيمات، مثل الكومنولث البريطانيBritish Commonwealth والكتلة الفرانكفونية (فرنسا)، وذلك لأجل استمرار مصالحها الاقتصادية.
أما التوجه الاشتراكي فقد لقي رواجاً في عدد من الأقطار الإسلامية خلال الستينات والسبعينات والثمانينات، وقد لقي هذا التوجه تأييداً ودعماً من الاتحاد السوفيتي السابق إلى أن انـهار هذا في بداية التسعينات، وانـهارت معه التجربة الاشتراكية على المستوى العالمي.
وبالنسبة للتوجه الإسلامي فقد وجد طريقه إلى الواقع في حالات معدودات وهي باكستان والمملكة العربية السعودية والسودان وإيران، ولكنه ما يزال في طور التجريب إلى الآن، أما في بقية الأقطار الإسلامية فإنه بالرغم من أن التوجه الإسلامي لقي تأييداً شعبياً كبيراً منذ حصولها على الاستقلال السياسي إلا أنه لقي أيضاً تحديات ومعارضات سياسية هائلة من الداخل ومن الخارج على حدٍّ سواء، وقد استهدفت المعارضة أحياناً القضاء على التوجه الإسلامي، وأحياناً أخرى دمجه، أو مزجه مع التوجه الوطني الرأسمالي أو مع التوجه الاشتراكي.
وخلال نصف قرن مضى الآن على حصول معظم الأقطار الإسلامية على استقلالها السياسي لم تنجح الأنظمة الاقتصادية البديلة للنظام الإسلامي في تحقيق الاستقلال السياسي لهذه الأقطار، أو دفع عجلة التنمية فيها على نحو يقلل من الفجوة الاقتصادية بينها وبين الدول المتقدمة، على العكس من ذلك فقد عانى العديد من الأقطار الإسلامية من ازدياد حدّة المشكلات الاقتصادية في شكل عجز مستمر في موازين المدفوعات وارتفاع غير عادي في الدين العام الخارجي وكذلك الدين العام الداخلي واشتداد حدّة التضخم وزيادة حالة الفقراء سوءًا.
ولقد تسببت هذه التطورات في نقد الأنظمة الاقتصادية القائمة وإثارة التساؤلات عن ملائمتها وجدوى استمرارها، وقد أتاح هذا لأصحاب التوجهات الإسلامية سواء من المفكرين أو من العاملين في المجالات السياسية والاجتماعية أن يطرحوا بقوة قضية الاقتصاد الإسلامي، والذي من خلاله يمكن تقديم علاج شامل ويتلاءم مع البيئة العقدية والاجتماعية لعامة الناس، وفي هذا المناخ لم تنقطع اجتهادات المفكرين الإسلاميين في تحليل مشكلات مجتمعاتهم وعرض أنواع العلاج الملائمة لها في إطار إسلامي.