البيئة في التاريخ والحضارة الإسلامية
ما أكثر مشكلات العالم! وما أكثر مصائبه المتنوعة والمتوزعة على كل المجالات! فليس على الأرض الفسيحة من مكان إلا وتتناوله المشكلات، إن لم نقل تتسابق إليه، ولم يعد الإنسان الذي يعيش في كهف بعيد أو فوق قمة جبل منعزل أو في قلب جزيرة تحاصرها المياه، لم يعد إنسان هذه المناطق بمنأى عن مشكلات العالم وآثارها.
ومن المثير للعجب أن الجميع يعترفون بوجود المشكلات والأزمات، ويعانون منها؛ لكن المشكلات باقية وموجودة كأنَّ أحدًا لا يعرف بوجودها إلا قليلاً.
ومن أخطر مشكلات العالم في عصرنا الحاضر مشكلة البيئة، وهي لم يكن ليتوَّقعها أحد ممن عاشوا قبل عصرنا هذا، فلم يخطر ببال أحد أن الإنسان الضئيل يستطيع إيذاء تلك الأرض المتسعة والغابات الفسيحة، ولا إيذاء تلك البحار بعيدة الغور والأعماق، ولا إفناء أنواع من الحيوانات وهي لا تكاد تُحصى، ومعظمها يعيش حياة تبدو -لأول وهلة- بعيدة عن حياة الإنسان ونشاطاته، كما لم يخطر ببال أوسع الناس خيالاً أن الهواء نفسه قد يفسد بما كسبت يد الإنسان.
لقد أصبحت المشكلة البيئية منذ زمن واقعًا خطيرًا أصاب الحياة الإنسانية بأضرار بالغة، فأنواع التلوث قد أصابت الموارد الأساسية الطبيعة على الأرض، فثمة تلوث الهواء وتلوث الماء وتلوث التربة وتلوث الغذاء، وكل هذه الأنواع من التلوث انعكست على حياة الإنسان بالضرر، فنتجت كوارث مروعة ذهب ضحيتها الآلاف من البشر والكائنات الحية؛ كما نتجت أنواع جديدة من الأمراض، وسلالات جديدة من الفيروسات، وكلها تهدد الحياة الإنسانية والحيوانية، وتصنع اختلالاً بالغًا في البيئة التي خلقها الله سبحانه وتعالى بقدر، كما في قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]. وجعلها مستقرًّا للإنسان ومتاعًا له، كما في قوله تعالى لأبي البشر آدم عليه السلام: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة: 36].
والمشكلة البيئية لا تتوقف عند حدود الجيل الحالي من البشر؛ بل إنها تهدد كذلك حياة الأجيال القادمة، التي ستعاني أيضًا من العديد من الأمراض والمشكلات الصحية والكوارث البيئية، وبعض هذه المشكلات يبدو لا مفر منه، ولم توجد له حتى اللحظة حلول مناسبة؛ فالنفايات النووية -مثلاً- تحتوي على عناصر يمكنها البقاء دون تحلل لمئات وآلاف السنين، فحتى إذا عزلت في أعماق المحيطات وتحت طبقات من الأسمنت والرصاص، فإن هذه الطبقات لن تصمد تحت الضغط وملوحة المياه لمئات وآلاف السنين، وفي لحظة ما ستتسرب هذه النفايات إلى البيئة، وتؤتي أثرها الفتاك.
والمشكلة البيئية لا تتوقف عند حدود تلوث الموارد البيئية والأضرار الناتجة عنه فقط؛ بل إنها تتعدى هذا إلى مشكلة في استثمار هذه الموارد؛ فالماء العذب يعاني من التلوث؛ ولكنه أيضًا في معظم مناطق العالم لا يُستفاد منه بالشكل الصحيح، فنجد أطنانًا هائلة من المياه العذبة تضيع في البحر، على الرغم من أن البشر في مناطقها يعيشون في فقر مائي ويحتاجون المياه العذبة.
والأرض الخصيبة تستهلك بشكل متسارع تحت وقع التوسع في البناء، وهي تعاني أيضًا في معظم مناطق العالم من عدم استثمارها بالشكل العلمي المناسب، فما زالت الزراعات تجري بالأساليب القديمة والبدائية، وتغفل عن تطور العلم في مجالات تحسين أساليب الري والزراعة، وتحسين أنواع البذور، وتنظيم الدورات الزراعية لتفادي إجهاد التربة، وتغذيتها بالعناصر المخصبة والمساعدة.
وما زال العالم يخطو بطيئًا في استثمار الطاقات الطبيعية النظيفة كطاقة الشمس وطاقة الرياح، ويعتمد على أنواع الطاقة التي ثبت تأثيرها الضار على البيئة؛ فهذه كذلك مشكلة استثمار تتعرض لها الموارد البيئية، وتسبب ضررًا مضاعفًا للحياة الإنسانية.
لا يقف الإسلام متفرجًا على هذه المشكلات؛ فهو الدين الرباني الذي ارتضاه الله تبارك وتعالى للعالمين، وهو الدين الذي امتاز بشموله وبقدرته على تنظيم حياة البشر على هذه الأرض، وهو دين يتناول كل الحياة البشرية في واقع المسلم، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162-163]. وهو الدين الكامل الذي ختم الله به الرسالات، وختم برسوله صلى الله عليه وسلم الرسل، وأنزل فيه قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. كما كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم تطبيقًا لهذا الشمول ولهذا الكمال، فلقد حفلت حياته صلى الله عليه وسلم بإسهامات ووصايا وتعاليم في السياسة والاقتصاد والاجتماع، وكذلك في مجال البيئة.
وعلى الرغم من امتياز الإسلام بهذا الشمول وبهذا الكمال فإنه يُهاجم الآن بأعنف ما يكون، فيتم وصفه بالعنف والإرهاب والظلم والقسوة والتخلُّف عن مواكبة العصر، وعلى الرغم من أن المسلمين لم يتسببوا في كوارث العالم البيئية، وعلى الرغم من أنهم لا حول لهم ولا قوة في التأثير العالمي فإن الهجوم على الإسلام قائم، بل ويزيد ويتصاعد وتشتدُّ ضراوته.
فأصبح المنهج الرباني الشامل الكامل القادر على حلِّ مشكلات الإنسانية محاصرًا وغير مسموح له بالعطاء، ولو استطاعوا لما سمحوا له بالبقاء، كما قال ربنا تبارك وتعالى: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217].
وفي ظل هذه الصورة القاتمة نتساءل: أين المسلمون الذين ينبغي أن يتكلموا عن ذلك المنهج الإلهي بألسنتهم، وأن يكتبوا عنه بأقلامهم؟
إن جهل المسلمين بدينهم وما فيه من روائع مشكلة أخرى وكبرى تُضاف على عاتق العلماء والدعاة والمصلحين، ولقد وصف الله أهل الكتاب ممن يحملون الحق ولا يفقهونه بوصف شنيع، فقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة: 5]. والخشية أن يكون هذا الوصف منطبقًا على أمة الإسلام.
ومشكلة البيئة مشكلة عالمية لا تقتصر على قوم دون قوم أو بلد دون بلد؛ حيث ثبت أن الإسلام يقدم لها الرؤية والحل المناسبين، فذلك دليل على عالمية الإسلام. كما أن سبق الإسلام في عنايته بأمر البيئة -قبل أن يبدو للبشر أن البيئة قد تكون ذات يوم مشكلة- بحيث لا يكاد توجيهٌ من التوجيهات في الشرع الإسلامي الحنيف إلا ويلامس موضوع البيئة بوجه أو بآخر، يثبت ربانية هذا الدين. كذلك فإن حالة الجهل بالعطاء الإسلامي في هذا المجال التي تشمل غير المسلمين، وعامة المسلمين، بل أكاد أقول أيضًا: تشمل كثيرًا من الدعاة، كانت دافعًا آخر للكتابة في هذا الموضوع.
والحقيقة أنني لا أستثني نفسي من هذا الأمر، فلقد بدأت الكتابة في هذا الموضوع وفي ذهني القواعد والأصول الشرعية وعدد من الوصايا القرآنية والنبوية وبعض أقوال العلماء؛ ولكن البحث والتنقيب في تراثنا الفقهي الهائل كان دائمًا ما يزيدني انبهارًا وإعجابًا وإيمانًا كذلك، إلى الحد الذي اضطرني إلى مقاومة الرغبة في التوسع والتفصيل، ساعيًا نحو الإيجاز ما استطعت، وبدا لي بوضوح كيف أن الشريعة التي نزلت لتنظيم حياة الناس على هذا العالم ضمت بين جنباتها ما يجعله أصلح وأنفع البيئات لحياتهم.
وقد ازددت إدراكًا لهذا المعنى الجديد للعبادة في قوله تعالى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61]؛ فالله عز وجل خلق آدم عليه السلام وجعله خليفة في الأرض، وأمر الملائكة أن تسجد له، وكرَّمه وعظَّمه ورفعه، وعلَّمه الأسماء كلها، فأصبح مؤهلاً -بهذا العلم- أن يعمر الأرض.
لم يتفوق آدم عليه السلام على الملائكة بطول قيام، ولا بكثرة ذكرٍ أو تسبيحٍ، ولا بقوةٍ خارقة، ولا بطاعةٍ مطلقة.. فهذه الأمور كلُّها مما تتفوق فيها الملائكة بلا منازع، وإنما تفوق عليهم فقط في هذا العلم الذي جعله مستطيعًا لصورة جديدة من صور العبادة، وهي التعمير والبناء والإنماء؛ ومن أجل ذلك رفعه الله عز وجل فوق مصافِّ هؤلاء الملائكة العِظام، وفضَّله عليهم، بل وأسجدهم له، فاستحقَّ بهذا أن يكون خليفة الله في الأرض.
يقول تعالى في تقرير ذلك: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 30 - 34].
لقد تعامل الإسلام مع قضية البيئة على مستويين، فوضع قواعد عامة وأصولاً كبيرة تنتظم تحتها كل ما يستجد في حياة البشر من أحداث وما يعتريهم من مشكلات، ثم وضع -أيضًا- كثيرًا من التفاصيل -وهذه حفلت بها السُّنَّة على وجه الخصوص- التي لا يلحقها التغير على طول الزمان؛ كإماطة الأذى، والنهي عن التبول في الماء الراكد، والأمر بتغطية الآنية.. وأمثال هذا.
ولقد كان من أثبت أدلة خلود المنهج الإسلامي وصلاحيته لكل العصور ما تحقق في عصور الحضارة الإسلامية المختلفة من حسن استعمال المسلمين لمصادر البيئة؛ سواء بالاستثمار أو بالحماية، وعلى قدر ما كانت قضية البيئة في التشريع الإسلامي ثورة وقفزة على ما قبلها من الأفكار، كانت أيضًا سابقة على ما حدث بعدها حين ضعف المسلمون وتركوا منهجهم الرباني، فاستعلى عليهم غيرهم وساد على هذه الأرض، فكان أن {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الروم: 41].
حقوق البيئة
خَلَقَ اللهُ تعالى البيئة نقيَّة، سليمة، نافعة، وسخَّرها للإنسان، وأوجب عليه ضرورة المحافظة عليها؛ كما دعاه إلى ضرورة التفكُّر في آيات الله الكونيَّة، التي خُلِقَتْ في أحسن صورة، فقال الله تعالى:
{أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُل زَوْجٍ بَهِيجٍ[1]} [ق:6-7].
وعلى هذا نشأتْ عَلاقة حُبٍّ ووُدٍّ بين الإنسان المسلم والبيئة المحيطة به من جماد وأحياء، وأدرك أن المحافظةَ على البيئة نفعٌ له في دنياه؛ لأنه سيَحْيَا حياة هانئة، وفي آخرته حيث ثواب الله الجزيل.
وقد جاءت رؤية النبي صلى الله عليه وسلم للبيئة تأكيدًا لتلك النظرة القرآنيَّة الشاملة للكون، التي تقوم على أن هناك صلةً أساسيَّة وارتباطًا متبادَلاً بين الإنسان وعناصر الطبيعة، ونقطة انطلاقها هي الإيمان بأنه إذا أساء الإنسان استخدام عنصر من عناصر الطبيعة أو استنزفه استنزافًا فإن العالم برُمَّته سوف يُضَارُّ أضرارًا مباشرة.
من أَجْلِ ذلك جاء التشريع الإسلامي بقاعدة عامَّة لكل البشر الذين يحْيَوْنَ على ظهر الأرض؛ وهي عدم إحداث ضرر من أي نوع لهذا الكون، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ... » [2].
ثم تتابعت التشريعات الإسلامية التي تُحذِّر من تلويث البيئة أو إفسادها، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم في مثل ذلك: «اتَّقُوا الْـمَلاَعِنَ الثَّلاَثَةَ: الْبَرَازَ فِي الْـمَوَارِدِ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ[3]، وَالظِّلِّ»[4].
وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم إماطة الأذى من حقوق الطريق، فروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِيَّاكُمْ وَالْـجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ! » فَقَالُوا: مَا لَنَا بُدٌّ؛ إِنَّما هي مجالسنا نَتَحَدَّثُ فيهَا. فقال صلى الله عليه وسلم: «فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلاَّ الْـمَجَالِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا». قالوا: وما حقُّ الطريق يا رسول الله؟ قال: «... وَكَفُّ الأَذَى... » [5]. و«كفُّ الأذى» هذه كلمة جامعة لكل ما فيه إيذاء الناس الذين يستعملون الشوارع والطرقات.
وأكثر من ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم ربط بين الأجر والمحافظة على البيئة فقال: «عُرِضَتْ عَلَيَّ أَعْمَالُ أُمَّتِي؛ حَسَنُهَا وَسَيِّئُهَا، فَوَجَدْتُ فِي مَحَاسِنِ أَعْمَالِهَا الأَذَى يُمَاطُ عَنِ الطَّرِيقِ، وَوَجَدْتُ فِي مَسَاوِي أَعْمَالِهَا النُّخَاعَةَ تَكُونُ فِي الْـمَسْجِدِ لاَ تُدْفَنُ»[6].
ثم هو صلى الله عليه وسلم يأمر صراحة بنظافة المساكن فيقول: «إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ يُحِبُّ الطَّيِّبَ، نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ... فَنَظِّفُوا أَفْنِيَتَكُمْ، وَلا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ»[7].
فما أروع تلك التعاليم والتشريعات التي تحثُّ على الحياة الطيِّبة الخالية من أي نوع من أنواع الملوِّثات؛ فتحافظ بذلك على راحة الإنسان النفسيَّة والصحِّيَّة.
وفي صورة أكثر تصريحًا وتعبيرًا في الحثِّ على المحافظة على البيئة وجمالها، ما ظهر في قول الرسول صلى الله عليه وسلم حين سأله أحدُ الصحابة: أَمِنَ الكِبْرِ أن يكون ثوبي حَسَنًا ونعلي حَسَنة؟ فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْـجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْـحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ»[8]. ولا شكَّ أن من الجمال الحرصَ على مظاهر البيئة التي خلقها الله تعالى زاهية بهيجة.
كما نجد في إرشاده صلى الله عليه وسلم إلى حُبِّ الروائح الطيِّبة وإشاعتها بين الناس، وتهاديها، وتجميل البيئة بها؛ محاربةً للبيئة الملوَّثة؛ وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ رَيْحَانٌ، فَلاَ يَرُدُّهُ؛ فَإِنَّهُ خَفِيفُ الْـمَحْمِلِ طَيِّبُ الرِّيحِ»[9].
ومن عظمة الإسلام فيما سَنَّهُ من تشريعات تخصُّ البيئة أيضًا، ما جاء في الحثِّ على استنبات الأرض وزراعتها، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا إِلاَّ كَانَ مَا أُكِلَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا سُرِقَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ مِنْهُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا أَكَلَتِ الطَّيْرُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَلاَ يَرْزَؤُهُ أَحَدٌ[10] إِلاَّ كَانَ لَهُ صَدَقَةٌ»[11]. وفي رواية: «إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».
فمِن عظمة الإسلام أن ثواب ذلك الغرس -المفيد للبيئة بمن فيها- موصول ما دام الزرع قد استُفيد منه، حتى ولو انتقل إلى مِلْكِ غيره، أو مات الغارس أو الزارع!
وقد نوَّه التشريع الإسلامي إلى المكاسب التي يجنيها الإنسان من إحياء الأرض البور؛ إذ جعل زرع شجرة، أو غرس بذرة، أو سَقْي أرض عطشى من أعمال البرِّ والإحسان، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَلَهُ مِنْهَا - يَعْنِي أَجْرًا - وَمَا أَكَلَتِ الْعَوَافِي [12] مِنْهَا فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ»[13].
ولقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قطع الشجر عبثًا، فعن عبد الله بن حُبْشِيٍّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَطَعَ سِدْرَةً [14] صَوَّبَ اللهُ رَأْسَهُ فِي النَّارِ»[15]. قال أبو داود[16] معلِّقًا على الحديث: «يعني من قطع سدرة في فلاة يستظلُّ بها ابن السبيل والبهائم عبثًا وظلمًا بغير حقٍّ يكون له فيها صوَّب الله رأسه في النار»[17].
فالإسلام أنشأ علاقة من الانتفاع والتمتُّع بين الإنسان وبين البيئة، ثم أمره بالحفاظ على النبات من خلال النهي عن قطع الأشجار، ثم حثّه على الزرع والغرس، حتى ولو كانت الساعة تقوم، فمن كانت بيده –حينها- فسيلة فليغرسها.
فتتحقق فوائد جمة منها:
1- تخليص الطبيعة من كميات كبيرة من ثاني أكسيد الكربون الضارّ بالصحة.
2- إنتاج كمية كبيرة من الأكسجين اللازم لحياة الإنسان والحيوان.
3- لها فوائد مهمة في حماية النباتات والزراعات في الأرض الصحراوية؛ حيث تعمل كمصدَّات للرياح.
4- تُضفي على الجوِّ نسمة من الرطوبة؛ نظرًا لأن النباتات تقوم بعملية النتح، الذي يخرج في صورة جزئيات صغيرة من المياه التي تتوزع في الجو وتحيط المناطق المزروعة.
5- تقوم الأشجار في المناطق الصناعية وكذا في المدن التي تحيط بها الجبال أو الصحاري بتقليل كمية الأتربة والمواد الملوثة الموجودة بالهواء؛ حيث تعمل كمصفاة، لذلك لجأت كثير من المدن في العالم إلى عمل ما يُسَمَّى بالحزام الأخضر حول المدن.
6- تعمل الأشجار كمصدات للرياح، وتُعتبر مسئولة عن تثبيت الرمال؛ وبالتالي فهي تمنع ظاهرة التصحُّر، التي تُهَدِّد كثيرًا من الدول.
ولأن الماء أحدُ أهمِّ الثروات البيئيَّة الطبيعيَّة، فكان الاقتصاد فيه والمحافظة على طهارته قَضِيَّتَيْنِ مهمَّتين في الإسلام، وها هو ذا الرسول صلى الله عليه وسلم ينصح بالاقتصاد في استعمال الماء حتى عندما يكون الماء متوافِرًا، يروي في ذلك عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم مَرَّ بسعد [18] وهو يتوضَّأ فقال: «مَا هَذَا السَّرَفُ يَا سَعْدُ؟ » قَالَ: أَفِي الْوُضُوءِ سَرَفٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهْرٍ جَارٍ»[19].
فعن أبي نعامة أن عبد الله بن مغفَّل سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها. فقال: أي بني، سل الله الجنة، وتعوذ به من النار؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّهُ سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الطَّهُورِ وَالدُّعَاءِ»[20].
وعن عمرو بن شعيب [21]، عن أبيه، عن جده، قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الوضوء. فأراه ثلاثًا ثلاثًا، ثم قال: «هَذَا الْوُضُوءُ، فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَقَدْ أَسَاءَ، أَوْ تَعَدَّى، أَوْ ظَلَمَ»[22]. فتلك ثلاثة نصوص تنهى عن الإسراف في التطهر للعبادة، بل يُوصف الإسراف بالاعتداء في حديثين منها.
كما نهى صلى الله عليه وسلم عن تلويث المياه؛ وذلك بمنع التبوُّل في الماء الراكد[23]. وقال ابن حجر العسقلاني تعليقًا على حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «لاَ يَغْتَسِلُ أَحَدُكُمْ فِي المَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ». فَقَالَ: كَيْفَ يَفْعَلُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: يَتَنَاوَلُهُ تَنَاوُلاً[24].. قال: «فدل على أن المنع من الانغماس فيه لئلاَّ يصير مستعملاً؛ فيمتنع على الغير الانتفاع به»[25].
فلقد بلغ الحرص على الماء أن نُهي عن الانغماس فيه لئلاَّ يُحرم المسلمون من الانتفاع به؛ فبمثل هذا وبغيره من مسائل الفقه حافظت الشريعة الإسلامية على الموارد المائية التي خلقها الله سبحانه وتعالى وأباحها لمنفعة البشر.
فهذه هي نظرة الإسلام والحضارة الإسلامية للبيئة، تلك النظرة التي تُؤْمِنُ بأن البيئة بجوانبها المختلفة يتفاعل ويتكامل ويتعاون بعضها مع بعض وَفْق سُنَنِ الله في الكون الذي خلقه سبحانه وتعالى في أحسن صورة، ووجب على كل مسلم أن يحافظ على هذا الجمال.
وأسأل الله أن يُعِزَّ الإسلام والمسلمين