كيف يمكن استعادة دور الأزهر ؟
الحديث عن إحياء دور الأزهر, يعني بداية أن ندرك أن للأزهر دورًا مهمًّا جدًّا في القضايا الداخلية والخارجية علي حد سواء, ويعني أيضًا أن هذا الدور أصبح مفقودًا, ومن ثَمَّ البحث عن السبب في فقدان هذا الدور, وكيف تم ذلك, وما هي الآثار أو الأضرار والسلبيات التي ترتبت على ذلك.
بداية، فإن من الحقائق الكبرى في حياتنا السياسية والاجتماعية, والتي تبرز لأي باحث في التاريخ القديم والمتوسط والحديث, أن هذه الأمة الإسلامية وكل مجتمعاتها الصغيرة والكبيرة لا تحقق التفاعل والانسجام إلا من خلال الإسلام -وهذا أمر بديهي- فما دام الإنسان مسلمًا، وما دام المجتمع مسلمًا؛ فإن التفاعل والإيجابية الاجتماعية والفردية لا تأتي إلا من خلال الإسلام, وهذه بديهية في علم الاجتماع, وحتى بصرف النظر عن الموقف من الإسلام فإن تجاهل هذا المكون الأساسي في حياتنا -أردنا أم لم نرد- يؤدي إلى نوع من السلبية وانفصام الشخصية الفردية والاجتماعية، ومن ثَمَّ التخلف والتقهقر.
وبديهي أن الإنسان ليس مادة مصمتة تصلح لها قوانين الفيزياء والكيمياء فقط, بل هو كيان اجتماعي مفعم بالتاريخ والجغرافيا والتراث والعقيدة، وأيضًا أيًّا كان موقفنا من هذا التاريخ وتلك الجغرافيا، هذا التراث وتلك العقيدة؛ فإنه لا يمكن علميًّا ولا موضوعيًّا تجاهل هذه العوامل التي شكل ويشكل الإسلام العامل الأهم وربما الوحيد فيها, ومن ثَمَّ فإن الانطلاق من الإسلام هو ضرورة علمية لتفعيل هذا الكائن الإنساني فرديًّا واجتماعيًّا.
ومرة أخرى فمهما كان موقف الناس من الإسلام, فإن تجاهله يعني انفصام حتمي في الشخصية الفردية والجماعية لهذه الأمة, ولأي مجتمع من مجتمعاتها, ليس هذا فحسب بل إن الأمر يمتد إلى غير المسلمين في المجتمعات الإسلامية؛ لأن هؤلاء تأثروا بالضرورة بالسياق والصيرورة الاجتماعية والحضارية التي يشكل الإسلام الجزء الأساسي منها، ليس كدين فقط -بالمعنى المألوف غربيًّا- بل كثقافة وحضارة.
الأمر الثاني أن الخبرة التاريخية تقول: إن مجتمعاتنا تقدمت وحققت إنجازًا حضاريًّا مهمًّا عندما كان علماء الإسلام يقودون التوجُّه الاجتماعي لهذه الأمة ومجتمعاتها, وعندما يغيب هذا الدور تنتكس الأمة حضاريًّا ونفسيًّا واجتماعيًّا، وتصبح نهبًا للعدوان والغزو والاحتلال والتخلف.
وهكذا، فإنه من ضرورات التقدم والنهضة والانعتاق والإقلاع، إعادة الاعتبار لهؤلاء (العلماء) شكلاً وموضوعًا.
الأمر بهذه المنزلة لا ينطبق على الأزهر وحده، ولا علماء الأزهر وحدهم، بل ينطبق على كل الجامعات الإسلامية في كل مكان بالعالم الإسلامي، وإن كان للأزهر بالطبع خصوصيته التاريخية والجغرافية.
كيف يمكن استعادة دور الأزهر على أي حال، فإن كل حركات التحرر الوطني في الوطن العربي والإسلامي من المغرب وحتى إندونيسيا "من طنجة إلى جاكرتا"، ومن جنوب إفريقيا حتى تركيا خرجت بالضرورة من عباءة الإسلام، وكان لعلماء الإسلام دور مهم فيها.
في حالة الأزهر مثلاً، فإن المقاومة الشعبية المصرية ضد الحملة الفرنسية خرجت من الأزهر، وكذا شارك الأزهر وعلماء الأزهر في الجهاد ضد الاحتلال الإنجليزي، وكان الأزهر دائمًا في قلب الحدث السياسي والاجتماعي، الأمر نفسه بالنسبة لكل الجامعات الإسلامية وكل علماء الإسلام في كل بلاد الوطن الإسلامي.
وقد تعرضت هذه الحالة وتلك الصيغة لعدد من الضربات بهدف إقصاء الأزهر عن دوره، ومن ثَمَّ الانفراد بتلك الأمة وإلحاق الهزيمة بها، وحدث التراجع الوطني والاجتماعي لهذا السبب، ووجدنا أنه في حالات المد "الاستعماري" أو صعود القوى الاجتماعية الموالية للاحتلال، كان يتم تهميش متعمد للأزهر ولرجاله، بل والسخرية من علماء الإسلام وإلصاق كل النقائض الأخلاقية والسلوكية بهم؛ وذلك لإدراك العَلاقة بين العلماء والجماهير، ومن ثَمَّ لا تجد الجماهير "قيادة" لها تثق فيها وتتحرك من خلال وجدانها، ومن ثَم يستريح الاحتلال وتحقق القوى الأجنبية مطامعها فينا.
استعادة دور الأزهر -إذن- هو ضرورة للتقدم، وضرورة للنهضة وضرورة لـ"الكفاح الوطني"، ومن ثَم فإن إعادة تفعيل دور الأزهر، يمكن أن يلغي الكثير من حالات السلبية الاجتماعية في الداخل، والسلبية السياسية في الخارج، ويمكن أن يحقق تلاحمًا بين المسلمين في مختلف بلاد العالم الإسلامي؛ لأن للأزهر تأثيرًا كبيرًا في كل البلاد الإسلامية والعربية، ويمكن أن يقرِّب بين مختلف الفرقاء المسلمين؛ لأنه عامل تجميع على الإسلام، الذي هو الرباط الأساسي في بلادنا بين الناس بمختلف طوائفهم وطبقاتهم وتوجهاتهم.
وهكذا فإن البحث عن طريق لاستعادة دور الأزهر، أصبح ضرورة إن لم يكن فريضة، من باب أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والواجب هنا هو مكافحة الاحتلال الأجنبي، ومواجهة السلبية والتخلف والتشرذم والتفرق.
وأعتقد أن تفعيل دور الأزهر يقتضي وضع خطة شاملة لتحقيق ذلك، وهذا عمل كبير بالطبع ينبغي أن يشارك في التفكير فيه هيئات وأفراد، علماء ومفكرون سياسيون وإداريون، وعلى سبيل اتخاذ خطوة في هذا الاتجاه؛ فإنه ينبغي بداية عدم ربط شيخ الأزهر ومشيخة الأزهر عمومًا، وجامعة الأزهر بالقيادة السياسية في مصر، فتصبح بوقًا لها، وهذا لا يعني تأييد أو معارضة تلك القيادة، فهذا موضوع آخر.
وأيًّا كان نوع النظام السياسي في مصر مثلاً، فإن الأزهر ينبغي أن يظل مستقلاًّ عنه، ومن ثَمَّ يصبح ضميرًا لكل الأمة وليس للمصريين فقط، وينبغي أن تصبح مواقف الأزهر وعلماء الأزهر وشيخ الأزهر بعيدة عن التأثير المباشر للسلطة في مصر، كما ينبغي أن يتم اختيار هيئة كبار العلماء وكذا شيخ الأزهر من خلال نوع من الاختيار يراعى فيه الجانب الإسلامي وليس المصري. وهكذا يصبح الأزهر وشيخ الأزهر قيادة فكرية للأمة تعمل على القضايا ذات الاتفاق بين كل الأمة، مثل مقاومة الغزو والاحتلال الأجنبي، وتحقيق الوحدة بين المسلمين وليس تبرير تصرفات هذا الحاكم أو ذاك، فيصبح ما كان خطأ بالأمس صحيحًا اليوم والعكس صحيح؛ فتهتز صورة الأزهر وشيخ الأزهر وعلماء الأزهر.
وهذا في حقيقة الأمر لصالح أي نظام سياسي في مصر؛ لأنه كلما زادت قوة الأزهر ونفوذه زادت قوة مصر بالضرورة، وزادت هيبة الآخرين للمسلمين والإسلام، فلا نجد من يتطاول على رموز الإسلام هنا وهناك قبل أن يفكر ألف مرة؛ لأن هناك هيئة مثل الأزهر قادرة على تحريك (الجماهير) باتجاه معاقبة اقتصادية أو سياسية لهؤلاء المتطاولين.
وفي كل الأحوال، فإن استعادة دور الأزهر هو واجب الوقت بامتياز.
الدكتور محمد مورو