صلى الله عليه وسلم
لم يكتب لأحدٍ من البشر من الأثر والخلود والعظمة ما كتب لصاحب النسب الشريف r. ولقد دونت في سيرته الكتب، ودبجت في مديحه القصائد، وعمرت بذكره المجالس، وبقيت عظمته قمة سامقة لا تنالها الظنون.
تقلبت به صروف الحياة من قوة وضعف، وغنى وفقر، وكثرة وقلة، ونصر وهزيمة، وظعن وإقامة، وجوع وشبع، وحزن وسرور، فكان قدوة في ذلك كله، وحقق عبودية الموقف لربه كما ينبغي له.
ظل في مكة ثلاث عشرة سنة، وما آمن معه إلا قليل، فما تذمّر ولا ضجر، وجاءه أصحابه يشتكون إليه، ويسألونه الدعاء والاستنصار، فحلف على نصر الدين، وتمام الأمر، وأنكر عليهم أنهم يستعجلون، فكان الأمر كما وعد علمًا من أعلام نبوته، ونصرًا لأمر الله، لا للأشخاص.
وكان من نصره أن تأتيه وفود العرب من كل ناحية مبايعة على الإسلام والطاعة، فما تغير ولا تكبّر، ولا انتصر لنفسه من قوم حاربوه وآذوه وعاندوا دينه.
كما كان يقول أبو سفيان بن الحارث:
لعمرك إني يوم أحمـل راية *** لتغلب خيلَ اللات خيلُ محمدِ
لك المدلج الحيران أظلم ليلـه *** فهذا أواني حين أهدي وأهتدي
هداني هادٍ غير نفسي ودلني *** على الله من طردته كل مطـرد
وما حملت من ناقة فوق ظهرها *** أبـر وأوفى ذمـة من محمـد
فاستلَّ العداوات، ومحا السخائم، وألّف القلوب، وأعاد اللُّحمة، وعرف عدوُّه قبل صديقه أنها النبوة، وأنه لم يكن صاحب طموح شخصي، ولا باني مجد ذاتي.
تعجب من عفويته وقلة تكلفه في سائر أمره، واحتفاظ شخصيته بهدوئها وطبيعتها وتوازنها، مهما تقلبت عليها الأحوال، واختلفت عليها الطرائق.
جوانب العظمة في شخصية النبي
قلَّ إنسان إلا وله طبعه الخاص الذي يبين في بعض الحال، ويستتر في بعض، ويترتب عليه استرواح لقوم دون آخرين، ويحكم العديد من مواقفه وتصرفاته.. حاشاه r؛ فهو يُقْبِل بوجهه على كل جليس، ويخاطب كل قوم بلغتهم، ويحدثهم بما يعرفون، ويعاملهم بغاية اللطف والرحمة والإشفاق، إلا أن يكونوا محاربين حملوا السلاح في وجه الحق، وأجلبوا لإطفاء نوره وحجب ضيائه.
كل طعام تيسر من الحلال فهو طعامه، وكل فراش أتيح فهو وطاؤه، وكل فرد أقبل فهو جليسه.
ما تكلف مفقودًا، ولا رد موجودًا، ولا عاب طعامًا، ولا تجنب شيئًا قط لطيبه، لا طعامًا ولا شرابًا ولا فراشًا ولا كساء، بل كان يحب الطيب ولكن لا يتكلفه.
سيرته صفحة مكشوفة يعرفها محبوه وشانئوه، ولقد نقل لنا الرواة دقيق وصف بدنه، وقسمات وجهه، وصفة شعره، وكم شيبة في رأسه ولحيته، وطريقة حديثه، وحركة يده، كما نقلوا تفصيل شأنه في مأكله، ومشربه، ومركبه، وسفره، وإقامته، وعبادته، ورضاه، وغضبه، حتى دخلوا في ذكر حاله مع أزواجهأمهات المؤمنين في المعاشرة، والغسل، والقسم، والنفقة، والمداعبة، والمغاضبة، والجد، والمزاح، وفصلوا في خصوصيات الحياة وضروراتها.
ولعمر الله، إن القارئ لسيرته اليوم ليعرف من تفصيل أمره ما لا يعرفه الناس عن متبوعيهم من الأحياء، وما لا يعرفه الصديق عن صديقه، ولا الزوج عن زوجه، ولا كان أهل الكتاب يعرفون شيئًا يقاربه أو يدانيه عن أنبيائهم وهم أحياء؛ وذلك لتكون سيرته موضع القدوة والأسوة في كل الأحوال، ولكل الناس.
فالرئيس، والمدير، والعالم، والتاجر، والزوج، والأب، والمعلم، والغني، والفقير.. كلهم يجدون في سيرته الهداية التامة على تنوع أحوالهم وتفاوت طرائقهم، والفرد الواحد لا يخرج عن محل القدوة به r مهما تقلبت به الحال، ومهما ركب من الأطوار؛ فهو القدوة والأسوة في ذلك كله.
وإنك لتقرأ سيرة علم من الأعلام فتندهش من جوانب العظمة في شخصيته، فإذا تأملت صلاحيتها للأسوة، علمت أنها تصلح لهذا العلم في صفته وطبعه وتكوينه، ولكنها قد لا تصلح لغيره.
ولقد يرى الإنسان في أحوال السالفين من الجلد على العبادة، أو على العلم، أو على الزهد ما يشعر أنه أبعد ما يكون عن تحقيقه حتى يقول لنفسه:
لا تعرضن لذكرنا مع ذكرهم *** ليس الصحيح إذا مشى كالمقعدِ
فإذا قرأ سيرة رسول الله r أحس بقرب التناول، وسهولة المأخذ، وواقعية الاتباع، حتى لقد وقع من بعض أصحابه ما وقع، فقال لهم: "أنا أخشاكم لله، وأتقاكم له، وأعلمكم بما أتقي". وقال: "اكلفوا من العمل ما تطيقون". وقال: "إن هذا الدين يسر، ولن يشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبه، فسددوا، وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة، والقصدَ القصدَ تبلغو".
ولهذا كان خير ما يربى عليه السالكون مدارسة سيرته وهديه وتقليب النظر فيها، وإدمان مطالعتها، واستحضار معناها وسرها، وأخذها بكليتها دون اجتزاء أو اعتساف.
إن الله -عز وتعالى- لم يجعل لأحد وراء رسول الله r هذا المنصب الشريف؛ منصب القدوة والأسوة؛ لأنه جمع هدى السابقين الذين أمر أن يقتدي بهم {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، إلى ما خصه الله تعالى وخيَّره به من صفات الكمال ونعوت الجمال؛ ولهذا قال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرً} [الأحزاب: 21].
إن حياته r وحياة خلفائه الراشدين هي المذكرة التفسيرية والترجمة العلمية لنصوص الشريعة.
واقعية سيرة النبي
ومن الخير أن تظل هذه السيرة بواقعيتها وصدقها محفوظة من تزايد الرواة، ومبالغات النقلة التي ربما حولتها إلى ملحمة أسطورية تعتمد على الخوارق والمعجزات، وبهذا يتخفف الناس من مقاربتها واتباعها ليكتفوا بقراءتها مع هزِّ الرءوس، وسكب الدموع، وقشعريرة البدن.
إن الآيات التي تأتي مع الأنبياء حق، لكنها الاستثناء الذي يؤكد القاعدة، والقاعدة هي الجريان مع السنن الكونية كما هي.
وكثيرون من المسلمين، وربما من خاصتهم يستهويهم التأسي بالأحوال العملية الظاهرة في السلوك والعبادة وغيرها، فيقتدون به r في صلاته "صلوا كما رأيتموني أصلي"، وحجّه "خذوا عني مناسككم"، وسنن اللباس، والدخول والخروج.
وهذا جزء من الاتباع المشروع، بيد أنه ليس كله، ولا أهم ما فيه؛ فإن اتباع الهدي النبوي في المعاملة مع الله تعالى، والتجرد والإخلاص، ومراقبة النفس، وتحقيق المعاني المشروعة من الحب والخوف والرجاء أولى بالعناية، وأحق بالرعاية، وإن كان ميدان التنافس في هذا ضعيفًا؛ لأن الناس يتنافسون -عادةً- فيما يكون مكسبة للحمد والثناء من الأمور الظاهرة التي يراها الناس، ولا يجدون الشيء ذاته في الأمور الخفية التي لا يطلع عليها إلا الله. وربما تحرى امرؤ صفة نبوية في عبادة أو عمل واعتنى بها وتكلف تمثلها فوق المشروع، دون أن يكلف نفسه عناء التأمل في سر هذه الصفة، وحكمتها، وأثرها في النفس.
وهذه المسائل -حتى التعبدية منها- ما شرعت إلا لمنافع الناس، ومصالحهم العاجلة والآجلة، وليست قيمتها في ذاتها فحسب، بل في الأثر الذي ينتج عنها فيراه صاحبه ويراه الآخرون.
وإنه لخليق بكل مسلم أن يجعل له وردًا من سيرة المصطفى u، إن كان ناشئًا فمثل (بطل الأبطال) لعزام، وإن كان شابًّا فمثل (الشمائل المحمدية) لابن كثير أو الترمذي، و( الفصول) لابن كثير، أو (مختصر السيرة)، أو (الرحيق المختوم)، أو (تهذيب سيرة ابن هشام)، وإن كان شيخًا فمثل (سيرة ابن هشام) أو (ابن كثير)، وإن كان متضلعًا بالمطولات فمثل (سبل الهدى والرشاد)، وكتاب (نضرة النعيم).
رزقنا الله حب نبيه، وحسن اتباعه ظاهرًا وباطنًا، وحشرنا في زمرته مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.