دروس من تحويل القبلة
من بين الأحداث المهمة في السيرة النبوية حادثة تحويل القبلة من بيت المقدس قبلة الأنبياء السابقين إلى بيت الله الحرام أول بيتٍ وُضع للناس في الأرض، وقد اختبر الله المسلمين واليهود في هذه الحادثة، في السمع والطاعة، والتصديق، والتجرد والعمل.
ونحاول أن نستخلص بعض الدروس من الحادثة، والآيات القرآنية التي نزلت فيها، ومن هذه الدروس ما يأتي:
1- تحويل القبلة إعجاز وتميز للأمة المسلمة:
أمر الله نبيه في مكةَ بالتوجه في الصلاة نحو بيت المقدس، قبلة الأنبياء السابقين؛ وذلك لوحدة الرسالات السابقة، في مصدرها وهدفها وغايتها، واستمر الحال هكذا ستة عشر شهرًا، إلى ما بعد الهجرة، ثم تكلم اليهود في ذلك فقالوا: "ما بال محمد يتبع قبلتنا ولا يتبع ديننا". فنزلت الآيات القرآنية؛ لتبين حقيقة الموضوع، ويتعلم الناس منها دروسًا تربوية مهمة، قال تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا} [البقرة: 142].
هذه الآية القرآنية من إعجاز القرآن الكريم، حيث تحدثت عن المقولة قبل وقوعها، ولم يستطع اليهود أن يكذبوا القرآن، فقالوا ما قالوا.. إنها كانت اختبارًا لليهود فرسبوا، وكانت اختبارًا للصحابة فنجحوا، قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كنت عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة: 143].
ونتعلم عدم المبالاة بالخصوم، ما دام الإنسان على صواب وعلى الحق المبين، فلم يلتفت النبي والصحابة لما قاله اليهود؛ لأن الذي أمر بالتوجه إلى كلتا القبلتين إنما هو الله سبحانه وتعالى، وهذا يزيد المسلم ثقةً في هذا الدين وتعاليمه؛ فالهداية من الله وحده، قال تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142].
ونتعلم الخصوصية والتميز، وهو ما كان يسعى إليه النبي ويدعو الله تعالى لأجل الحصول عليه؛ فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كان أول ما نُسِخ من القرآن القبلة؛ وذلك أن رسول الله لما هاجر إلى المدينة، وكان أكثر أهلها اليهود، أمره الله عز وجل أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول الله بضعة عشر شهرًا، فكان رسول الله يحب قبلة إبراهيم عليه السلام، فكان يدعو وينظر إلى السماء، فأنزل الله تبارك وتعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا}[1].
فالخصوصية والتميز ضروريان للأمة المسلمة، في التصور والاعتقاد، وفي القبلة والعبادة، وفي شخصية المسلم، وفي كل شيء في حياة المسلمين.
2- التجرد الكامل في السمع والطاعة:
المسلم الصادق يتبع تعاليم دينه، دون جدلٍ أو اعتراض، وأما المنافق يحاول اختلاق المشكلات، ويكثر من السؤال، لا بقصد الفهم، وإنما بقصد التشكيك والجدل.
لقد اعترض اليهود على تحويل القبلة، وشككوا في صلاة المسلمين السابقة، خاصةً مَن مات قبل تحويل القبلة، فأنزل الله قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143].
إن التجرد يجعل المسلم مستسلمًا لله في كل شئون حياته، يقبل أحكامه بالسمع والطاعة والحب والاستسلام.
كذلك أيضًا يتجرد المسلم في الطواف حول بيت الله الحرام، فهو لا يُقدِّس البناء لذاته، ولا يقدس حجرًا، لا يسمع ولا يعقل، وإنما يعبد ويعظِّم صاحب البناء ورب البيت، قال تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 3، 4].
3- مكانة النبي عند ربه سبحانه وتعالى:
كانت الرغبة في تحويل القبلة تشغل عقل النبي وتفكيره، لكنه لم يُصرِّح بها في دعائه، ولم يُحرِّك بها لسانه، وقد استجاب الله له، وحقق له أمنيته، وهذا يدل على مكانة النبي ومنزلته عند لله، فمن منزلة العبد عند ربه أن يحقق الله له مقصده، دون أن يتلفظ به، قال تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144].
4- أفضلية الأمة المحمدية:
لقد شهد الله للأمة بالوسطية في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].
والوسطية تعني الأفضلية والخيرية والرفعة؛ فالأمة وسط في كل شيء، في العقيدة والشريعة والأخلاق والمعاملات، وهذا واضح جدًّا لكل مَن درس تعاليم الدين الإسلامي بالتفصيل.
ومن وسطيتها أنها جمعت بين القبلتين، فلم يتحقق ذالك لأمةٍ من الأمم السابقة، بل إن النبي وهو في مكة كان يجعل الكعبة وبيت المقدس معًا في اتجاه وجهه، فجمع بين القبلتين معًا، ومنفردين.
وتتبلور الخيرية أيضًا في الشهادة على الأمم السابقة، قال تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]. فخيرية الأمة أنها في مقام الشهادة والتعليم والتربية للآخرين، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].
5- أهمية الوحدة والاتحاد في الإسلام:
المسلمون في الشرق والغرب يتجهون في الصلوات الخمس اليومية، وفي فريضة الحج إلى بيت الله الحرام، رغم اختلاف الألسنة والجنسيات والألوان، يجمعهم الدين الإسلامي الحنيف، وهذا ليعلم المسلم أنه لبنة في بناء كبير واحد مرصوص، وفي الحديث: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا"[2].
وفي الحديث أيضًا: "مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى"[3].
فالمسلمون يتعلمون من وحدة القبلة، وحدة الأمة في الهدف والغاية، وأن الوحدة والاتحاد ضرورة في كل شئون حياتهم الدينية والدنيوية.
نسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا.
[1] (البقرة: 144). والحديث في شرح البخاري لابن بطال 2/59 عن ابن عباس رضي الله عنه.
[2] الحديث أخرجه الإمام البخاري (6026) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
[3] الحديث أخرجه الإمام البخاري (6011) عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.
[4] أستاذ الدعوة والثقافة الإسلامية بجامعة الأزهر.