تعدد زوجات الرسول
رغم تبجيل وتوقير الإسلام ونبيِّه لكل الأنبياء إلاَّ أن بعض الذين طُُمِس على قلوبهم -فلم يعودوا يُبصرون النور- ما زالوا يُثِيرون بعض الشبهات حول رسول الله ، فقلبوا الحقائق أباطيل، وبدَّلوا المحامد مثالب؛ يُريدون بذلك الوصول إلى مأربهم في تشويه صورة الإسلام وتزييف حقائقه، والنيل من النبي ، فتناولوا سيرة رسول الله بالثَّلْب والتجريح تارة، وبالكذب والتدليس تارة أخرى!
وفي هذه السطور لم نُورد كلَّ ما أثاره هؤلاء المغرضون؛ ولكننا اكتفينا ببعض الشبهات المشهورة، والتي إن أثبتنا عدم صحَّتها فإن باقي الشبهات ستتهاوى هي الأخرى.
شبهة تعدد زوجات الرسول وشهوانيته:
من الشبهات التي أثارها بعض المغرضين أن رسول الله كان شهوانيًّا محبًّا للنساء، ساعٍ في قضاء شهوته ونيل رغباته منهن؛ وذلك استنادًا إلى تعدُّد زوجاته، كما أن رسول الله تزوَّج من عائشة -رضي الله عنها- وهي فتاة في التاسعة من عمرها.
ولكن الحقيقة التي لا مراء فيها أن الرسول لم يكن رجلاً شهوانيًّا، وإنما كان بشرًا نبيًّا، تزوَّج كما يتزوَّج بنو الإنسان، وعدَّد كما عدَّد غيرُه من الأنبياء، ولم يكن رسول الله بِدْعًا من الرسل حتى يُخَالِفَ سُنَّتهم أو ينقض طريقتهم، وليس أوضح في ذلك ممَّا جاء في التوراة من أن سليمان -على سبيل المثال- تزوَّج مئات من النساء.
الرد على شبهة تعدد الزوجات:
ويمكننا الرد على شبهة تعدد الزوجات في عدة نقاط:
أولاً: كانت وظيفة رسول الله الأولى في حياته هي دعوة الناس إلى الإسلام والإيمان وتركيز دعائم الدين الجديد قبل أن يموت ، ومن ثَمَّ فالوقت أمامه محدود؛ ولذلك سلك أسرع الطرق إلى دعوة الناس إلى الخير، وكان من هذه الطرق الزواج السياسي الذي يكسر هذه العداوة بينه وبين أعدائه، وكان هذا عرفًا في جزيرة العرب، بل وفي العالم أجمع، وما أكثر ما تمت الزيجات والمصاهرات بين الأمراء والملوك المتصارعين لكي يتمَّ إنهاء حرب أو عقد معاهدة سلام، ويصبح الزواج كنوع من التوثيق لهذه المعاهدات.
ودليل أن هذا الزواج كان عرفًًا عامًّا أن أحدًا من معاصريه الذين حاربوه لم يعترض على هذا الزواج الكثير، ولم يطعن به في شرف الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن هذا النوع من الزواج: زواجه صلى الله عليه وسلم من أم حبيبة بنت أبي سفيان -رضي الله عنها- المهاجرة إلى الحبشة؛ إنه لم يرها منذ هاجرت مع زوجها إلى الحبشة، بَيْد أنه يعرف إسلامها برغم أنف أبيها زعيم المشركين يومئِذٍ، ويعرف بقاءها على الإسلام برغم أنف زوجها الذي ارتدَّ عن الإسلام إلى النصرانيَّة، وتأليفًا لوالدها أبي سفيان سيِّد قريش وزعيمها، وترغيبًا له في الدخول في الإسلام.
وكذلك فإن زواج رسول الله من صفية بنت حيي بن أخطب زعيم اليهود، وجويرية بنت الحارث سيِّد بني المصطلق، والتي أعتق المسلمون بزواجها من رسول الله جميع الأسرى والسبايا من بني المصطلق، كما أسلم أبوها وأسلم معه قومه.
ثانيًا: كان رسول الله يريد أيضًا تثبيت دعائم دولته سياسيًّا، فوثَّق علاقته كذلك بكبار رجال دولته، والذين كان يعلم بالوحي أنهم سيخلفونه في حكمه للمسلمين بدليل أنه جمعهم في أحاديث كثيرة، وحضَّ الناس على اتِّباع سنتهم: "عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ"[1]. فكان يرى رسول الله أن الزواج سيضيف بُعْدًا جديدًا لتوثيق العلاقة، ومن ثم يقرب هؤلاء الذين صاهروه من المسلمين أكثر؛ فتزوَّج من عائشة بنت أبي بكر الذي قال فيه رسول الله: "مَا لأَحَدٍ عِنْدَنَا يَدٌ إِلاَّ وَقَدْ كَافَيْنَاهُ، مَا خَلا أَبَا بَكْرٍ؛ فَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا يَدًا يُكَافِيهِ اللَّهُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ"[2].
كما تزوَّج من حفصة بنت عمر بن الخطاب ، فكان ذلك قرَّة عين لأبيها عمر على صدقه وإخلاصه، وتفانيه في سبيل هذا الدين.
وكذلك زوَّج بناته من عثمان وعلي رضي الله عنهما، وهكذا وثَّق رسول الله صلاته الاجتماعية عن طريق المصاهرة بأكرم طبقة من الصحابة، وأعظمهم دورًا في خدمة الدعوة.
ثالثًا: كان لزواج رسول الله دور كبير في نقل السُّنَّة؛ حيث كان لهُنَّ الفضل في نقل سُنَّة رسول اللهِ في كل صغيرة وكبيرة من أمر حياته ، فهو القدوة والأسوة لكل المسلمين، كما أن السُّنَّة النبويَّة هي المصدر الثاني من مصادر التشريع، وأُمَّهات المؤمنين مِنْ ألصق الناس وأقربهن لرسول الله ، فكُنَّ نَقَلَةً لكل قول أو فعل سمعْنَهُ أو رأيْنَهُ من رسول الله ؛ فوصل بذلك كثير من السُّنَّة لكافَّة المسلمين.
وقد ذكر الرواة أن عدد الأحاديث التي روتها نساء النبي جاوزت ثلاثة آلاف حديث، وأن صاحبة السهم الأكبر في رواية الحديث هي السيدة عائشة -رضي الله عنها- فقد روت ألفًا ومائتين وعشرة أحاديث، ثم تأتي بعدها أم سلمة -رضي الله عنها- التي روت ثلاثمائة وسبعين وثمانية أحاديث، وباقي زوجات النبي تتراوح أحاديثهن ما بين حديث إلى ستة وسبعين حديثًا، وقد امتدَّ عمرهن فترة طويلة بعد وفاة رسول الله [3].
رابعًا: ولم يأخذ الزواج وقتًا كبيرًا من حياة رسول الله ، ولم ينشغل به عن أمور دولته، ولكم رأينا من ينشغل بزوج واحدة أو عشيقة عن أمور الدنيا والدين! ولكنه لم يتأخَّر عن صلاة، ولم يتخلَّف عن جهاد، ولم يمتنع عن قضاء بين الناس، ولم يترك دعوة، ولا خطبة، ولا جنازة، ولا عيادة مريض.
خامسًا: نهاه الله عن الزواج بعد نسائه الأُوَل، فقال تعالى: {لاَ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلاَ أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} [الأحزاب:52]. وعن ابن عباس أنه قال: نُهِيَ رسول الله أن يتزوَّج بعد نسائه الأُوَل شيئًا[4].
سادسًا: أن رسول الله لم يكن يتزوَّج باختياره، بل كان يُزوِّجه ربه I لحكمة قد يبدو لنا منها طرف، وقد لا يبدو منها أطراف أخرى، والقضية عند المسلمين قضية إيمان بأنه رسول لا ينبغي له أن يعارض ربه.
سابعًا: طبيعة حياة رسول الله معهن، والتي كانت تتَّسم بالبساطة والفقر؛ فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً} [الأحزاب:28]. وقد نزلت هذه الآية على رسول الله من أجل أن عائشة سألت رسول الله شيئًا من عرض الدنيا؛ إمَّا زيادة في النفقة، أو غير ذلك، فاعتزل رسول الله نساءه شهرًا -فيما ذُكر- ثم أمره الله أن يخيرهنَّ بين الصبر عليه، والرضا بما قسم لهنَّ، والعمل بطاعة الله، وبين أن يمتِّعهنَّ ويفارقهنَّ إن لم يرضين بالذي يقسم لهن، وقيل: كان سبب ذلك غيرة كانت عائشة غارتها[5].
ثامنًا: أننا لو أمعنَّا النظر في سيرة رسول الله وخاصة في مرحلة ما قبل زواجه لوجدنا أنه كان مثالاً في العفَّة والطهارة في شبابه، وأمَّا بعد زواجه فنجد أن رسول الله لم يُعَدِّد زوجاته إلاَّ بعد أن تجاوز خمسين عامًا من عمره، فقد تزوَّج في الخامسة والعشرين من عمره بخديجة بنت خويلد رضي الله عنها، وهي امرأة في الأربعين من عمرها، وظلَّ معها وحدها قريبًا من خمس وعشرين سنة، لم يتزوَّج غيرها حتى ماتت.
وبعد موت زوجته الأولى تزوَّج من امرأة تقاربها في السنِّ هي سَوْدَة بنت زمعة رضي الله عنها، وهي التي هاجرت معه إلى المدينة، وصحيح أنه في السنوات العشر الأخيرة من حياته اجتمعت لديه نسوة أخريات! لكن علينا أن ننظر لماذا تزوجهنَّ ؟
15077_image002.jpg
محمد رسول الله
محمد رسول الله
الرد على شبهة زواجه صلى الله عليه وسلم من عائشة:
وفي الجواب عن الشقِّ الثاني من الشبهة؛ وهو أن رسول الله r تزوَّج من عائشة -رضي الله عنها- وهي فتاة في التاسعة من عمرها، فنردُّ بالنقاط التالية:
أوَّلاً: أنَّ أمَّ المؤمنين عائشة عندما خطبها رسول الله لم يكن هو أوَّل المتقدِّمين لخطبتها، بل سبقه لخطبتها جبير بن المطعِم بن عدي، وعلى هذا فالسيدة عائشة كانت في عمر الزواج وكانت تطيقه، ولا غرو إذن أن يخطبها النبي .
ثانيًا: أنَّ هذا الزواج كان أصلاً باقتراح من السيدة خولة بنت حكيم على الرسول ؛ وذلك لتوكيد الصلة مع أحبِّ الناس إليه، وهو أبوها أبو بكر الصدِّيق، وهو دليل ثانٍ على أن السيدة عائشة كانت في سنِّ الزواج.
ثالثًا: أنَّ قريشًا -التي كانت تتربَّص برسول الله الدوائر لتأليب الناس عليه، والتي لم تترك مجالاً للطعن فيه إلاَّ سلكوه ولو كان زُورًا وافتراء-لم تُدْهَشْ حين أُعْلِنَ نبأ المصاهرة بين أعزِّ صاحبين وأوفى صديقين، بل استقبلته كما تستقبل أيَّ أمر طبيعي.
رابعًا: أثبت التاريخ بعد ذلك أن السيدة عائشة -رضي الله عنها- كانت ناضجة تمام النضج؛ حيث استوعبت سيرة الرسول بذكاء، وكانت سريعة التعلم جدًّا، بل صارت من أكثر المسلمين والمسلمات علمًا، وكانت ردودها على رسول الله واستفساراتها تدلُّ على كمال عقلها، وسعة إطلاعها، وقوة ذكائها، ولا يكون ذلك لطفلة ليس لها في أمور الزواج.
على أنه يجب الانتباه إلى فروق العصر وظروف الإقليم، وكيف أنَّ نضوج الفتاة في المناطق الحارَّة يكون مبكِّرًا جدًّا عنه في المناطق الباردة.
[1] أبو داود عن العرباض بن سارية: كتاب السنة، باب في لزوم السنة (4607)، والترمذي (2676) وقال: هذا حديث صحيح. وابن ماجه (42)، وأحمد (17184)، والدارمي (95)، والحاكم (329) وقال: هذا حديث صحيح ليس له علة... ووافقه الذهبي.
[2] الترمذي: كتاب المناقب، باب مناقب أبي بكر الصديق (3661) وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. وقال الألباني: صحيح. انظر: صحيح وضعيف سنن الترمذي (3661).
[3] انظر في أسماء الصحابة الرواة وما لكل واحد من العدد، ابن حزم: جوامع السيرة 1/275 وما بعدها.
[4] الطبري: جامع البيان في تأويل القرآن 20/297.
[5] الطبري: جامع البيان في تأويل القرآن 20/251.