معجزات في الطعام والشراب
وذلك على نحو إشباع العدد الكثير من الطعام القليل، ونبوع الماء وإفاضته من غير ما جُعل لذلك، ومن غير الطُّرُقِ المعتادة، وذلك ببركته ودعائه .
وكان من ذلك ما رواه جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنهما قال: لَمَّا حُفِرَ الْخَنْدَقُ رَأَيْتُ بِالنَّبِيِّ خَمَصًا شَدِيدًا، فَانْكَفَأْتُ إِلَى امْرَأَتِي، فَقُلْتُ: هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ؟ فَإِنِّي رَأَيْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ خَمَصًا شَدِيدًا. فَأَخْرَجَتْ إِلَيَّ جِرَابًا فِيهِ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ، وَلَنَا بُهَيْمَةٌ دَاجِنٌ فَذَبَحْتُهَا، وَطَحَنَتِ الشَّعِيرَ، فَفَرَغَتْ إِلَى فَرَاغِي، وَقَطَّعْتُهَا فِي بُرْمَتِهَا، ثُمَّ وَلَّيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ، فَقَالَتْ: لا تَفْضَحْنِي بِرَسُولِ اللَّهِ وَبِمَنْ مَعَهُ. فَجِئْتُهُ فَسَارَرْتُهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا، وَطَحَنَّا صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ كَانَ عِنْدَنَا، فَتَعَالَ أَنْتَ وَنَفَرٌ مَعَكَ. فَصَاحَ النَّبِيُّ فَقَالَ: "يَا أَهْلَ الْخَنْدَقِ، إِنَّ جَابِرًا قَدْ صَنَعَ سُورًا فَحَيَّ هَلاَ بِكُمْ". فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : "لاَ تُنْزِلُنَّ بُرْمَتَكُمْ، وَلاَ تَخْبِزُنَّ عَجِينَكُمْ حَتَّى أَجِيءَ". فَجِئْتُ وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ يَقْدُمُ النَّاسَ، حَتَّى جِئْتُ امْرَأَتِي، فَقَالَتْ: بِكَ وَبِكَ. فَقُلْتُ: قَدْ فَعَلْتُ الَّذِي قُلْتِ. فَأَخْرَجَتْ لَهُ عَجِينًا، فَبَصَقَ فِيهِ وَبَارَكَ، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى بُرْمَتِنَا فَبَصَقَ وَبَارَكَ، ثُمَّ قَالَ: "ادْعُ خَابِزَةً فَلْتَخْبِزْ مَعِي، وَاقْدَحِي مِنْ بُرْمَتِكُمْ، وَلاَ تُنْزِلُوهَا". وَهُمْ أَلْفٌ، فَأُقْسِمُ بِاللَّهِ لَقَدْ أَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوهُ وَانْحَرَفُوا، وَإِنَّ بُرْمَتَنَا لَتَغِطُّ كَمَا هِيَ، وَإِنَّ عَجِينَنَا لَيُخْبَزُ كَمَا هُوَ[1].
وقد علَّق النووي، فقال: "حديث طعام جابر فيه أنواع من فوائد وجمل من القواعد؛ منها: الدليل الظاهر والعلم الباهر من أعلام نبوة رسول الله ، وقد تظاهرت أحاديث آحاد بمثل هذا حتى زاد مجموعها على التواتر، وحصل العلم القطعي بالمعنى الذي اشتركت فيه هذه الآحاد، وهو انخراق العادة بما أتى به من تكثير الطعام القليل الكثرة الظاهرة"[2].
وكان من هذا القبيل أيضًا نُبُوع الماء من بين أصابعه وتكثيره ببركته، فيروي أنس أيضًا أنَّ النَّبيَّ دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ، فَأُتِيَ بِقَدَحٍ رَحْرَاحٍ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ مَاءٍ، فَوَضَعَ أَصَابِعَهُ فِيهِ، قَالَ أَنَسٌ: فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى الْمَاءِ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ. قَالَ أَنَسٌ: فَحَزَرْتُ مَنْ تَوَضَّأَ مَا بَيْنَ السَّبْعِينَ إِلَى الثَّمَانِينَ[3].
يقول القاضي عياض: هذه القصة رواها الثقات من العدد الكثير عن الجمِّ الغفير عن الكافَّة متَّصلة بالصحابة، وكان ذلك في مواطن اجتماع الكثير منهم في المحافل ومجمع العساكر، ولم يَرِدْ عَنْ أحدٍ منهم إنكارٌ على راوي ذلك، فهذا النوع ملحق بالقطعي من معجزاته.
وقال القرطبي: ولم يُسمع بمثل هذه المعجزة عن غير نبيِّنَا ، حيث نبع الماء من بين عظمه وعصبه ولحمه ودمه، وقد نقل ابن عبد البرِّ عن المُزَنِيِّ أنه قال: "نَبْعُ الماءِ من بين أصابعه أبلغُ في المعجزة من نبع الماء من الحجر؛ حيث ضربه موسى بالعصا فتفجَّرت منه المياه؛ لأن خروج الماء من الحجارة معهود، بخلاف خروج الماء من بين اللحم والدم"[4].
[1] البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة الخندق وهي الأحزاب (3876)، ومسلم: كتاب الأشربة، باب جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه بذلك ويتحققه تحققًا تامًّا (2039).
[2] شرح النووي على مسلم 7/92.
[3] البخاري: كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام (3379)، ومسلم: كتاب الفضائل، باب في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم (2279).
[4] انظر فتح الباري 10/380.