مواقف للرسول بعد فتح مكة
الرسول يدين موقف خزاعة
محمد رسول اللهفي غزوة الفتح حدث حادث آخر يثبت به الرسول المعنى نفسه في قلوب المسلمين بعد مرور يوم واحد من الفتح، أن تطبيق الحدود فوق أي إنسان؛ فقد بلغ النبي أن خزاعة -وهم حلفاؤه- قد عَدَت على رجل من هذيل فقتلوه، وهذا الرجل الذي قُتل كان مشركًا، وقتلوه برجل قُتل من خزاعة في الجاهلية، فغضب غضبًا شديدًا، وقام بين الناس خطيبًا، وخزاعة الآن تأخذ بالثأر لقتيل لها في الجاهلية، وهذا لا يريده الإسلام؛ لأن الشخص الذي قُتل لا ذنب له، وخزاعة تدخل مكة الآن، وهي رافعة رأسها؛ لأن الرسول قام بفتح مكة بسبب خزاعة، ومع ذلك لا يغفر لها هذا الذنب، فقام وخطب في الناس وقال:
"يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، فَهِيَ حَرَامٌ مِنْ حَرَامِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لاَ يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ فِيهَا دَمًا، وَلاَ يَعْضِدَ بِهَا شَجَرًا، لَمْ تَحْلِلْ لِأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي، وَلاَ تَحِلُّ لِأَحَدٍ يَكُونُ بَعْدِي، وَلَمْ تَحْلِلْ لِي إِلاَّ هَذِهِ السَّاعَةَ؛ غَضَبًا عَلَى أَهْلِهَا، أَلاَ ثُمَّ قَدْ رَجَعَتْ كَحُرْمَتِهَا بِالأَمْسِ. أَلاَ فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ مِنْكُمْ الْغَائِبَ، فَمَنْ قَالَ لَكُمْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَدْ قَاتَلَ بِهَا، فَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَحَلَّهَا لِرَسُولِهِ وَلَمْ يُحْلِلْهَا لَكُمْ يَا مَعْشَرَ خُزَاعَةَ، وَارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ عَنِ الْقَتْلِ، فَقَدْ كَثُرَ إِنْ يَقَعْ، لَئِنْ قَتَلْتُمْ قَتِيلاً لَأَدِيَنَّهُ، فَمَنْ قُتِلَ بَعْدَ مَقَامِي هَذَا، فَأَهْلُهُ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ: إِنْ شَاءُوا فَدَمُ قَاتِلِهِ، وَإِنْ شَاءُوا فَعَقْلُهُ"[1].
وبذلك وضع القاعدة الشرعية السليمة في قضايا القتل والسرقة والحدود، كانت مطبقة قبل ذلك، ولكنها نفِّذت على هذا الملأ الواسع، وفي هذه الظروف لتقول: إنه لا تفريط أبدًا في حدود الله .
عتاب بن أسيد أول وال على مكة
كان من عادة الرسول أنه إذا فتح بلدًا، ودخل الإسلام إليها أن يولَّي عليها أحدًا من رجالها، ولكن المشكلة أن أبا سفيان -وهو زعيم مكة بعد مقتل أبي جهل- لم يطمئن الرسول بعدُ لإسلامه، ولا يستطيع أن يعطيه إمارة مكة، وخاصةً أن مكة من أعظم مدن العرب، بل هي أعظمها على الإطلاق، ولا يستطيع الرسول أن يعطيها لرجل لا يثق بعدُ في إسلامه؛ لأن الحوار الذي دار بينه وبين الرسول لم يكن أبو سفيان حتى اللحظات الأخيرة مقتنعًا تمام الاقتناع بقضية النبوة، والرسول إذا أعطى الإمارة لغيره، قد يحزن أبو سفيان وينقلب على المسلمين، وقد تثور بنو أمية قبيلة أبي سفيان، والرسول لا يريد أن تحدث قلاقل أو اضطرابات في هذه المدينة، وقد أسلمت بكاملها منذ أيام قليلة، فأعطى الرسول إمارة مكة في لفتة بارعة لعتاب بن أسيد .
وكان عتاب بن أسيد من شباب مكة، وعمره عشرون عامًا تقريبًا، ومن قبيلة بني أمية، أي من قبيلة أبي سفيان نفسها، فإذا أعطاه الرسول إمارة مكة، فهذا سيزيد من تأليف قلوب بني أمية، ولن تقف بنو أمية عند تنحية أبي سفيان عن إمارة مكة؛ لأن الأمير الجديد منها أيضًا. وعتاب بن أسيد هذا الشاب لم يتلوث كثيرًا بعقائد المشركين، وليس هناك تاريخ عداء بينه وبين المسلمين، فسيسهُل قيادُه. وبالفعل فقد حسن إسلام عتاب بن أسيد، وكان كثير الصلاة والصيام والصدقة، وكان من المقربين من الرسول ، واستطاع بحكمته أن يحفظ الأمن والأمان داخل مكة، فلم نسمع عن قلاقل حدثت في حياته في فترة حكمه لمكة المكرمة.
ومن حكمة الرسول أنه ترك مع عتاب بن أسيد معاذَ بن جبل الأنصاري؛ ليعلِّم الناس أمور دينهم. وكان عتاب بن أسيد حديث عهد بالإسلام، ومعلوماته عن الإسلام قليلة، فترك الرسول معهم بحرًا من بحور العلم، إمام العلماء يوم القيامة، وأعلم أمته بالحلال والحرام؛ ليرجعون إليه فيما يختلفون فيه. ولا ننسى أن لهم تاريخًا طويلاً مع الرسول ، وهناك شبهات كثيرة قالوها قبل ذلك، وخير من يردُّ عليهم في ذلك الوقت معاذ بن جبل ، وبذلك استقر الوضع في داخل مكة المكرمة، ودخل الناس جميعًا في الإسلام بفضل الله .
موقف الأنصار يوم الفتح
رأى الأنصار الأحداث التي تجري في داخل مكة المكرمة، ودخول أهل مكة في دين الله، وهؤلاء جميعًا هم أهل وعشيرة ورحم الرسول ، ولا شك أنهم يشاهدون فرحة وسعادة الرسول بهذا الإسلام، ولا شك أنهم أيضًا يشاهدون استقرار الأوضاع داخل مكة المكرمة؛ فقد أسلم عكرمة بن أبي جهل، وأسلم سهيل بن عمرو، وأسلم قادة مكة بصفة عامة، فبدأ الوضع يستقر في داخل مكة المكرمة، ووقف الرسول فوق الصفا يدعو الله والأنصار يقفون تحته، ويفكرون في وضعهم بعد هذا الفتح، فقال بعض الأنصار لبعضهم: أما الرجل -ويقصدون الرسول - فأدركته رغبة في قريته، ورأفة بعشيرته.
لأنهم يرون تفاعله مع الأحداث داخل مكة، ويقول أبو هريرة -راوي الحديث كما في صحيح مسلم-: وَجَاءَ الْوَحْيُ، وَكَانَ إِذَا جَاءَ الْوَحْيُ لاَ يَخْفَى عَلَيْنَا، فَإِذَا جَاءَ فَلَيْسَ أَحَدٌ يَرْفَعُ طَرْفَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْقَضِيَ الْوَحْيُ، فَلَمَّا انْقَضَى الْوَحْيُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : "يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ".
قَالُوا: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَ: "قُلْتُمْ: أَمَّا الرَّجُلُ فَأَدْرَكَتْهُ رَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ".
قَالُوا: قَدْ كَانَ ذَاكَ.
قَالَ: "كَلاَّ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، هَاجَرْتُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَيْكُمْ، وَالْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ، وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ".
وسوف أعيش معكم حياتي كاملة، فليس تعاطفي مع هذه الأحداث التي تجري في مكة المكرمة، وليست فرحتي بإسلام هؤلاء العشيرة والأهل والرحم أنني سأبقى في مكة، وأخلف ما وعدتكم به قبل ذلك؛ لأن الأنصار في بيعة العقبة الثانية قالوا لرسول الله : "إن بيننا وبين القوم حبالاً، وإننا لقاطعوها".
وأكثر من مرة يبايعون على حرب الأحمر والأسود من الناس. فهل إذا استقرت الأوضاع في مكة سيعود ويتركهم مع اليهود أو غيرهم من الناس؟ وهنا قال : "بَلِ الْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ، وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ، أَنَا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مِنِّي".
وأعلن الرسول أنه من المستحيل أن يخالف ما تعاهد مع الأنصار عليه قبل ذلك، وقال الرسول: إني عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم، فالمحيا محياكم، والممات مماتكم. قال أبو هريرة: فأقبلوا إليه يبكون ويقولون: "والله ما قلنا الذي قلنا إلاَّ الضَّنَّ باللَّه وبرسوله". فقد قلنا هذه الكلمات؛ لأننا نريد الله ورسوله، ونريدك معنا يا رسول الله.
فقال رسول الله : "إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُصَدِّقَانِكُمْ وَيَعْذِرَانِكُمْ"[2].
وقَبِل منهم هذا الأمر، وقبل منهم هذا الظن الذي ظنوه برسول الله ؛ لأنه يعذر الأنصار . والأنصار لهم قيمة عالية في ميزان الإسلام ، وكل ما بذلوه دون مقابل، لم يأخذوا شيئًا في حياتهم، لا في فترة مكة المكرمة بعد البيعة، ولا في فترة الهجرة من أوَّلها حتى هذه اللحظة، وإلى آخر حياته ؛ ولذلك شرفهم الرسول بكلمته العظيمة عندما قال في حقهم: "آيَةُ الإِيمَانِ حُبُّ الأَنْصَارِ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الأَنْصَارِ"[3].
فنحن نعذر الأنصار في هذا الأمر الذي وقعوا فيه، وعذرهم ربهم ورسوله الكريم ، وبذل الأنصار كان قبل الفتح وبعد الفتح، ولكن بذلهم قبل الفتح له قيمة عالية؛ لأن من أنفق في وقت الشدة ووقت العناء ووقت المشقة لا يمكن أن نساويه بمن بذل وأنفق بعد الفتح، ولو كان في أي صورة من الصور. ويؤكد على هذا المعنى الأخير هذا الموقف، فقد أتى مجاشع بن مسعود بأخيه مجالد بن مسعود، ليعلن الإسلام بين يديه بعد الفتح؛ لأن مجاشع من الذين أسلموا قبل الفتح، ومجالد من الذين أسلموا بعد الفتح، فجاء ليبايع بعد الفتح وقال: جئتك بأخي لتبايعه على الهجرة.
فقال : "ذَهَبَ أَهْلُ الْهِجْرَةِ بِمَا فِيهَا".
فقال مجاشع: فعلى أي شيءٍ تبايعه يا رسول الله؟
فقال : "أُبَايِعُهُ عَلَى الإِسْلاَمِ وَالإِيمَانِ وَالْجِهَادِ"[4].
فالمهاجرون الأولون لهم مكانة عظيمة في الإسلام، كما قال الله : {لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد: 1].
[1] رواه أحمد في مسنده (16424) ترقيم النسخة الميمنية، وصححه شعيب الأرناءوط.
[2] رواه مسلم (1780)، وأحمد (10961).
[3] البخاري: كتاب الإيمان، باب علامة الإيمان حب الأنصار (17). مسلم: كتاب الإيمان، باب الدليل على أن حب الأنصار وعليٍّ من الإيمان وعلاماته وبغضهم من علامات النفاق (74).
[4] البخاري: كتاب المغازي، باب من شهد الفتح (4054).