ما سبق معركة مؤتة
الجيش الإسلامي يصل (معان)
معركة مؤتةما إن وصل الجيش الإسلامي إلى منطقة (مَعَان) بالأردن في جمادى الأولى لسنة ثمانٍ من الهجرة في رحلة طويلة وشاقة، حتى وجد في انتظاره مفاجأة غير متوقعة بالمرة، فقد وجد أن الدولة الرومانية قد ألقت بثقلها في هذا الصراع، وأعدت جيشًا هائلاً يبلغ قوامه نحو مائة ألف مقاتل، ليس هذا فحسب، بل إن العرب النصارى الموالين للرومان كانوا أيضًا قد أعدوا نحو مائة ألف أخرى، ليصل مجموع جيوش العدو إلى مائتي ألف مقاتل، وهو رقم مهول ولا يمكن تخيله، وخاصةً إذا علمنا أن الجيش الإسلامي قوامه ثلاثة آلاف مقاتل فقط.
وإن تجمع الرومان بهذه الأعداد كان أمرًا عجيبًا حقًّا، وليس العجب في كثرة عددهم، إنما العجب في كيف يُجمع هذا العدد المهول لحرب ثلاثة آلاف مقاتل فقط؟!
ويمكن تفسير هذا بأكثر من وجه؛ فمن الممكن أنهم لم يدركوا عدد المسلمين فأعدُّوا عددًا كبيرًا لجميع الاحتمالات، أو أنهم أدركوا بالفعل عدد المسلمين، وأرادوا من وراء ذلك استئصالهم تمامًا حتى لا تقوم لهم قائمة بعدُ، أو أن هرقل لكونه يدرك أنه يحارب نبيًّا أو أتباع نبي أراد أن يُعِدَّ قوة خارقة لعله يهزم هذا الجيش المؤمن، أو لعل السبب كان كل الأوجه السابقة مجتمعة، غير أن ذلك قد وقع بالفعل.
وإذا كان هذا التجمع غريبًا من الرومان فهو أيضًا غريب من العرب؛ حيث لم يكن من عادتهم التجمع أو الاتحاد، ولم تجمعهم قضية واحدة مطلقًا، بل كان يحارب بعضهم بعضًا، ورغم ذلك فقد استطاعوا أن يجمعوا مائة ألف في منطقة واحدة، وليس لهذا إلا تفسير واحد وهو إشارة هرقل لهم بالنهوض معه؛ إذ الكثير من القبائل والدول العربية لا تتحرك عند داعي القتال إلا إذا أخذت إذنًا سابقًا من القائد الأعظم للدولة الأولى في العالم، عندها يهُبُّ الجميع لتنفيذ الأمر {كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [المعارج: 43].
ومهما يكن من أمر فقد تجمع في أرض مَعَان مائتا ألف مقاتل، غالبهم من النصارى سواءٌ من الرومان أو من العرب، وقد باتوا ينتظرون قدوم الجيش الإسلامي القادم من المدينة المنورة، حيث كان هذا العدد وذاك التجمع بالنسبة له مفاجأة بكل المقاييس.
رد فعل الجيش الإسلامي
ما كان من المسلمين إزاء هذا الوضع الخطير إلا أن عقدوا مجلسًا استشاريًّا كعادتهم، وبدءوا في عرض مقترحاتهم لمواجهة تلك المعضلة، وقد تمخض عن هذا الاجتماع وذاك التبادل للرأي ظهور ثلاثة آراء مختلفة:
الرأي الأول: كان يرى أن يرسل المسلمون رسالة إلى الرسول بالمدينة يخبرونه فيها بالخبر، فإما أن يمدهم بمدد، وإما أن يأمرهم بالقتال أو الانسحاب.
وهذا الرأي -لا شك- لم يكن واقعيًّا؛ فالمسافة بين مَعَان والمدينة تستغرق ذهابًا فقط أسبوعين على الأقل، ومعنى هذا أن الجيش الإسلامي سيظل شهرًا كاملاً قبل اتخاذ أي قرار، وهو الأمر الذي إن قَبِله جيش المسلمين فلن تقبله قوات التحالف الرومانية العربية.
الرأي الثاني: وكان يرى أن ينسحب زيد بن حارثة (قائد الجيش) بالجيش، ولا يدخل في أي قتال، وقد قال أصحاب ذلك الرأي لزيد بن حارثة: "قد وطئت البلاد، وأخفت أهلها، فانصرف؛ فإنه لا يعدل العافية شيء"[1]. إذ رأى أصحاب هذا الفريق أن هذه الحرب مهلكة، ومن ثَمَّ فلا داعي إلى الدخول فيها.
الرأي الثالث: وكان يرى المواجهة والدخول في حرب فاصلة ودون تردد، وكان صاحب هذا الرأي هو عبد الله بن رواحة ، حيث قام وقال في غاية الجدية والوضوح: "يا قوم، والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون: الشهادةَ، وما نقاتل الناس بعدد ولا بقوة ولا كثرة، وما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين؛ إما ظهورٌ وإما شهادة"[2].
فقد لخص عبد الله بن رواحة في كلمته القصيرة تلك أساسيات الجهاد في سبيل الله، فليس الجيش المؤمن إلا طالب شهادة وحريص عليها، وأن النصر لا يتأتى بعددٍ ولا عُدَّة، إنما هو من عند الله . وإن هذا ليس معناه أن يترك المسلمون الإعداد، ولكن يجب أن يستنفذوا ما في وسعهم، وما في طاقاتهم، ثم بعد ذلك سينصرهم الله ، وهو ما قام به المسلمون بالفعل في إعداد جيش قوامه ثلاثة آلاف مقاتل.
ومن كلام عبد الله بن رواحة أيضًا نعلم أن العُدَّة الرئيسية للمسلمين في القتال هي دين الإسلام، فقد قال: "وما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به".
ومن كلامه أيضًا نعلم أن نهاية المعركة عند المسلمين أحد شيئين، إما نصر وإما شهادة، أما الرضا بالهزيمة فليس اقتراحًا مطروحًا عند المسلمين.
وحين قال عبد الله بن رواحة هذه الكلمات، وسبحان الله! كأنها حسمت الموقف تمامًا، واستقر الرأي على قرار القتال، ولنا مع هذا القرار وقفة.
وقفة مع قرار الحرب
لا شك أن إقدام الصحابة على هذا الأمر بهذه الصورة الجماعية، لهو خير دليل على أنهم طلاَّب آخرة وليسوا طلاب دنيا، وأن الصدق والإخلاص والتجرد يملأ قلوبهم جميعًا، وأن شجاعتهم كانت بالغة، وأن قوتهم النفسية والقتالية كانت فوق حدود التصور.
لا شك في كل ذلك، لكننا نريد أن نتفهم قرار الحرب هذا في ضوء القياسات المادية التي رآها الصحابة ، وهو سؤال مهم جدًّا: هل كان قرار الحرب هذا قرارًا صائبًا؟ أو هل كان من المفترض أن يقاتل المسلمون أم لا؟
والإجابة قبل أن يذهب الذهن هنا أو هناك هي: نَعَمْ كان صائبًا، ولا شك في ذلك؛ والدليل هو أن الرسول لم يعلق أي تعليق سلبي على هذا الأمر، ولم يعنِّف الصحابة عليه لا من قريب ولا من بعيد، ولم يذكر أنه كان أولى ألاّ يقاتلوا، والرسول لا يسكت على منكر؛ إذ سكوته إقرار، وإقراره سُنَّة.
ومعنى هذا أنه لو تعرض المسلمون لنفس هذا الحدث بكل تفصيلاته، فإن قرار الحرب آنذاك يكون قرارًا صائبًا، لكن كيف يمكن الجمع بين هذا القرار وعدم جواز إلقاء الجيش الإسلامي في التهلكة؟
فهذا القرار الذي أشار به عبد الله بن رواحة لم يلقَ أي معارضة من الجيش، رغم وجود طاقات عسكرية هائلة فيه، وعلى رأسهم البطل الإسلامي الفذّ خالد بن الوليد ، وقد كان -كما علمناه- عبقريًّا وواقعيًّا، ولم يكن يرى بأسًا أو حرجًا في الانسحاب إذا رأى أن الحرب مهلكة.
ويجب أن نضع في الحسبان أن هذا الجيش الإسلامي الكبير ليس ملكًا لأفراد بعينهم يضحون به إن شاءوا ذلك، وإنما هو مِلْك للدولة الإسلامية. وإذا كان حب الشهادة أمرًا عظيمًا إلا أنه إذا غلب على ظنِّ القادة أن الجيش سيهلك بكامله، فيصبح الإقدام هنا مفسدة؛ إذ كيف يضحي القادة بثلاثة آلاف مقاتل هم كل عماد الدولة الإسلامية في ذلك الوقت؟
ومن هنا فلا بد أن المسلمين كانوا يرون أن القتال أمر ممكن، وأن النصر أمر محتمل، وأنه وسيلة واقعية لمجابهة الظرف الصعب الذي وضعوا فيه.
لكن كيف يُعَدّ لقاء ثلاثة آلاف بمائتي ألف أمرًا واقعيًّا؟!
إن تفسير هذا عندي له ثلاثة احتمالات:
الاحتمال الأول: أن المسلمين كانوا قد أخفقوا في الحصر الدقيق لأعداد المقاتلين الرومان والعرب، فقدروهم مثلاً بخمسة أضعاف، أو عشرة أضعاف، أو أكثر من ذلك أو أقل.
وقد وجدوا أن القتال مع صعوبته أمرٌ ممكن؛ إذ كل معارك المسلمين السابقة كانت بأعداد أقل بكثير من أعداد المشركين، والله يقول في كتابه الكريم: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249].
وقد ذكر أيضًا I في سورة الأنفال أن الجيش المؤمن قادر على مواجهة عشرة أضعافه إن كان قويَّ الإيمان، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ} [الأنفال: 65].
نَعَمْ نزل التخفيف بعد ذلك، وجعل المسلم باثنين من الكفار، لكن من الممكن أن يصل المسلم الواحد إلى عشرة من الكفار، بل قد يزيد على ذلك ويصبح الرجل بألفٍ منهم، كما قال الصِّدِّيق في حق القعقاع بن عمرو التميمي وفي حق عياض بن غَنْمٍ، وكما قال عمر بن الخطاب في حق عبيدة بن الصامت وفي حق الزبير بن العوام، ومَسْلَمة بن مُخَلَّد، والمقداد بن عمرو، فقد قالا عنهم: إن الواحد منهم بألف.
وقد كان واضحًا منذ أول لحظة أن هذا الجيش الإسلامي في مؤتة من المؤمنين الصادقين، الواحد منهم يعدل عشرات بل مئات من الكافرين. ومن هنا كان قرار الحرب مقبولاً عند المسلمين، وخاصة -كما ذكرنا- أنه من المحتمل أنهم قدَّرُوا أعداد النصارى بنحو عشرين أو ثلاثين ألفًا فقط، وهذا أمر محتمل؛ لأن تقدير هذه الأرقام الهائلة قد يكون مستحيلاً في هذه الظروف، إضافةً إلى أنهم في أرض مجهولة للمسلمين لا يعرفون خباياها، ولا كمائنها، ولا طرقها، ولا غير ذلك.
الاحتمال الثاني: هو أن يكون هناك مبالغة في أعداد الرومان والعرب، وأنهم بالفعل أقل من الأرقام الضخمة التي ذكرت في المصادر التاريخية، لكن -لا شك- في أنهم كانوا أضعاف أضعاف المسلمين.
الاحتمال الثالث: وهو أن قادة المسلمين رأوا أن الانسحاب لن ينجيهم من جيوش التحالف الرومانية العربية، وأنهم إن بدءوا في الفرار فإنهم سيحاصرون من كل الجهات، وفي هذه الحالة ستكون المعركة عبارة عن مجزرة حقيقية يُذبح فيها الجيش الإسلامي بكامله، ومن ثَمَّ كان الأفضل هو الثبات والمقاومة؛ لأن ذلك سيعطي دفعة نفسية إيجابية، كَوْن الجيش المسلم يهاجم ويضع الخطط لهزيمة الأعداء بدلاً من أن يفكر في الهرب والدفاع فقط، وعكس ذلك سيكون بالنسبة لقوات التحالف الرومانية والعربية، حيث إنها قد تهتز من رؤية أناس يطلبون الموت، الأمر الذي يكون فيه نجاة للطرف المسلم.
ويؤيد هذا أن فكرة الانسحاب ليس فيها شيء من ناحية الشرع، وقد ذكرها الله في كتابه الكريم فقال: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ} [الأنفال: 16].
ففي هذه الآية حدد الله سببيْنِ للانسحاب لا يأثم المسلم فيهما؛ الأول: هو أن ينسحب كخُطَّة حربية ليعاود الحرب من جديد.
والثاني: أن تعود فرقة من الجيش إلى الفرقة الأم لكي تستعد بصورة أكبر للقتال، ثم تعاود القتال من جديد. وكانت فئة المسلمين في هذه المعركة أو الجيش الأم لهذا الجيش في المدينة المنورة.
ومن هنا فإن انسحاب الجيش الإسلامي سواء إلى مكان آخر في الأردن أو في الجزيرة العربية، أو حتى عودته إلى المدينة المنورة، ليس فيه خطأ شرعي؛ ولذلك كان أخْذ الصحابة بهذا الرأي أمرًا ممكنًا إن وجدوا أنه يفيد المسلمين، وعلى العكس منه فليس من المقبول شرعًا أن يدخل المسلمون معركة يعلمون أنهم جميعًا سيستشهدون فيها، ويَفْنى الجيش الإسلامي بكامله؛ لأن هذا يُعَدّ تهورًا وليس إقدامًا.
ومن هنا نستطيع أن نقول: إن الجيش الإسلامي وجد أنه لا أمل في الانسحاب، ولا أمل في الفرار، وأنهم يجب عليهم أن يواجهوا هذه العقبة بشجاعة وإيمان؛ حتى يخرجوا منها بأقل خسائر ممكنة، فكان قرار الحرب وعدم الانسحاب.
ومن المحتمل أن يكون قد تحققت الاحتمالات الثلاثة، أي يكون قادة المسلمين قد قدروا أعداد الرومان والعرب بأقل من عددها الحقيقي، وأن هذه الأعداد بالفعل أقل من مائتي ألف، وأن يكون المسلمون وجدوا فرصة الانسحاب منعدمة وغير ممكنة عسكريًّا، ومن ثَمَّ فقد أخذوا قرار الحرب.
أضف لكل ما سبق أن سمعة الدولة الإسلامية كانت -ولا شك- ستتأثر سلبًا إذا انسحب المسلمون من المعركة، خاصةً بعد أن قطعوا هذا الطريق الطويل (ألف كيلو متر)، الأمر الذي كان معه قرار الحرب حفاظًا على كرامة الدولة الإسلامية.
مؤتة واستراتيجية اختيار المكان
مشهد أقامه المماليك لشهداء مؤتةأخذ المسلمون قرار الحرب بإجماع، وانطلقوا حتى يختاروا مكانًا للقتال قبل أن يختاره الرومان. وبالفعل وصل المسلمون إلى منطقة مؤتة، فقرروا إقامة المعسكر هناك والاستعداد للقتال.
ومنطقة مؤتة هذه تقع في الأردن جنوب محافظة الكرك الآن، وقد زرتها بالفعل حتى أرى ذلك المكان الذي وقعت فيه تلك المعجزة الإسلامية، فوجدتُ المكان عبارة عن سهل منبسط، ليس فيه جبال ولا عوائق طبيعية، وإنما فيه من المزايا ما ييسر على المسلمين عملية القتال، وذلك كالتالي:
أولاً: كون السهل منبسطًا يحرم الفريقين من المناورة، ووضع الكمائن، وهو الأمر الذي لو فعله الرومان لكان كارثة بالنسبة للجيش الإسلامي.
ثانيًا: أن السهل عبارة عن أرض صحراوية، وكان العرب يحسنون القتال في مثل هذه المناطق بحكم تعودهم عليها في بيئتهم، وذلك بخلاف الجيوش الرومانية التي تعوَّدت القتال في الأراضي الخضراء في الشام وتركيا، وغيرها مما بها من أشجار وتضاريس أخرى.
ثالثًا: أن السهل كان مفتوحًا من جنوبه على الصحراء الواسعة، الأمر الذي يجعل الرومان قد لا يجرءون على التوغل في هذه الصحراء، ومن ثَمَّ يستطيع الجيش الإسلامي الانسحاب إذا ما أراد ذلك.
رابعًا: في جنوب هذا السهل -أي في خلف الجيش الإسلامي- بعض التلال، التي من الممكن أن تستغل في إخفاء الجيش الإسلامي وراءها، إذا ما أراد الانسحاب ليلاً.
خامسًا: أن هذا السهل ليس فيه عوائق طبيعية، ليس هناك أي نوع من الحماية للجندي إلا أن يحتمي وراء سيفه ودرعه، ومن ثَمَّ -في هذا المكان المفتوح- فستظهر عوامل الشجاعة والإقدام والتجرد.
وهذا الجانب -بلا شك- يتفوق فيه الجانب الإسلامي تمامًا؛ إذ الجنود في الجيش الإسلامي يقاتلون من أجل قضية وهدف سامٍ، وعيونهم على الموت في سبيل الله، في حين يفتقر الجنود الرومان إلى الهدف والقضية، وما هم إلا قطيع لا يدري لماذا يُقاتل، ولا يدري ماذا سيجني من وراء القتال، فالأمر قد صدر من القيادة العليا وليس لهم إلا التنفيذ، وإن كان هناك نصر فالذي سيحفل به ويسعد هم القادة والقيصر، وإن كان هناك هزيمة فالجنود هم مَن يدفع الثمن من أرواحهم ودمائهم.
وكان هذا شأن الجيوش الرومانية، وهو شأن كل الجيوش العلمانية في العالم، أما العرب النصارى المشاركون في المعركة فلم يشاركوا فيها حبًّا في القتال، ولا رغبة في ثواب أو في جنة، إنما كان طاعة لهرقل؛ إذ غاية أحلامهم أن يرضى عنهم هرقل، وشتَّان بين من يبحث عن رضا هرقل وبين من يبحث عن رضا رب العالمين I، بين من يقاتل ليعيش وبين من يقاتل ليموت.
وإن اختيار الأرض منبسطة بهذه الصورة سيجعل اليد العليا للشجاع على الجبان، وللمُقدِم على المُدبِر، وهذا كله في صالح المسلمين.
[1] ابن عساكر: تاريخ دمشق، تحقيق علي شيري، دار الفكر - بيروت، الطبعة الأولى، 1419هـ- 1998م، 2/15.
[2] ابن كثير: السيرة النبوية، تحقيق مصطفى عبد الواحد، دار المعرفة - بيروت، 1396هـ- 1971م، 3/459.