صلح الحديبية
بعد أن قررت قريش الصلح مع المسلمين أرسلت رجلاً لإتمام عقد الصلح مع رسول الله ، فتُرى من ذا يكون ذلك الرجل؟
من المؤكد أن قريشًا لا يمكن لها أن ترسل وسيطًا، سواءٌ أكان من خزاعة أو من ثقيف أو من أي قبيلة أخرى؛ إذ إن رسول الصلح سيعبر عن قريش، وسيفاوض في بنود ستتأثر بها قريش تأثرًا مباشرًا، فلا بد إذن أن يكون رسول الصلح منها نفسها.
وإذا كان الأمر كذلك فمَن تبعث قريش؟ هل تُرسل عكرمة بن أبي جهل، أم خالد بن الوليد، أم أبا سفيان، أم صفوان بن أمية؟ وفي الحقيقة أن قريشًا لم تبعث أيًّا من هؤلاء؛ وذلك لأنهم -كما يعبرون هذه الأيام- كانوا يعدون من الصقور، فكلهم يريد محاربة المسلمين، وقريش (القاعدة العامة) لا تريد ذلك، إنما تريد أن تلطِّف جوًّا مشحونًا بالخوف ومعتمًا بالمجهول.
ومن هنا فقد أرسلت قريش رجلاً من الحمائم هو سهيل بن عمرو، ذلك الذي كانت له حياة هادئة في مكة، ولم يكن في سيرته مصادمات مباشرة مع المسلمين، الأمر الذي يمكنه من التفاوض مع المسلمين بهدوء، وهذا عين ما تريده قريش.
وبالفعل كان سهيل كذلك، حتى إن رسول الله حين رآه قادمًا استبشر وبشر المؤمنين وقال: "قَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ[1]، أَرَادَ الْقَوْمُ الصُّلْحَ حِينَ بَعَثُوا هَذَا الرَّجُلَ"[2]. والفأل حسنٌ في الإسلام.
لكن في الوقت نفسه كان لقريش أغراض أخرى من تخصيص سهيل بن عمرو بالذات، فهو رجل موتور ومصاب من المسلمين في بيته؛ إذ إنه قد أسلم أربعة من أولاده وثلاثة من إخوته، فكأن الأمر بالنسبة إليه دفاع عن قضية شخصية.
فمن أولاده الذين أسلموا: أم كلثوم وسهلة وعبد الله، وقد أسلموا منذ زمن، ويعيشون الآن في المدينة المنورة، أما الرابع فكان أبو جندل وهو مقيد في بيته من قِبل والده سهيل؛ حتى لا يخرج ويلحق بالمسلمين.
أما إخوته الذين أسلموا فهم: السكران بن عمرو، وأبو حاطب بن عمرو، وسَلِيط بن عمرو. أي أن عائلته كلها قد أسلمت ولم يعُدْ يبقى غيره، الأمر الذي يعكس مدى مصابه في كرامته، وفي عزته بين قريش؛ مما يجعله يفاوض بكل حميَّة، ويستأثر من المسلمين بكل مصلحة ممكنة من أجل قريش.
وقفة مع اتفاقية الصلح
قبل الدخول في بنود الصلح بين المسلمين وقريش نودُّ أن نقول: إذا قام فريقان بالصلح فإن هذا يعني أن القوتين متكافئتان، وأنه إذا حرص القوي (في الظاهر) على الصلح مع الضعيف، فهو يرى أن الضعيف هذا أقوى منه، الأمر الذي يسهل عليه فيه أن يقدِّم له (القوي) كثيرًا من التنازلات. فعلى الضعفاء أن يثبتوا على موقفهم، وأن يعلموا أن الحق معهم ولهم، ويتيقنوا بعد ذلك أن الله لن يخذلهم، وأن هذا مما يزلزل كيان الكافرين.
وفي تجسيد لهذا الدور فقد جلس القرشيون مع ما لهم من تاريخ وقوة وجنود وأحلاف، جلسوا مع الجماعة الضعيفة المستضعفة، تلك التي كانت تعيش عندهم، ثم هاجرت من ديارهم إلى المدينة المنورة، وقد جاءت تريد العُمْرة وهي بسلاح المسافر.
جلس الفريقان ليبرموا صلحًا من أجل مصلحتهما معًا، ويلتقوا -كما يقولون- في منتصف الطريق.
إيجابيات معاهدات الصلح
وفي مثل هذه الاتفاقيات هناك إيجابية من الأهمية بمكان وهي أن كل طرف من طرفي المعاهدة قد أصبح معترفًا بالطرف الآخر، فإذا كان هناك جماعة لا دولة، وقليل لا كثير، ثُم تَمَّ معها معاهدة صلح، فهذه إيجابية كبيرة؛ وذلك لأنها بداية الاعتراف بأنها أصبحت قوة مكافئة.
وما نحن بصدده الآن هو أن قريشًا ليست في حاجة لاعتراف الرسول بها، ذلك أن تاريخها يرجع إلى أكثر من ستمائة عام، وهي قبيلة معترفٌ بها وسط مكة المكرمة، ووسط الجزيرة العربية، بل ووسط العالم آنذاك، ولها عَلاقات مع بعض الدول في العالم.
أما جماعة المسلمين فلم يكن يعترف بهم أحد؛ إذ إنها ما زالت جماعة ناشئة ضعيفة مستضعفة، وإذا اعتُرف بها من قِبل قريش فإن هذا يُعَدّ من أعظم إيجابيات صلح الحديبية.
ولعل أكبر دليل على ذلك ما نراه في أيامنا هذه، إذ دعت بعض الدول الكبرى مثل روسيا حركة المقاومة الإسلامية (حماس) -التي نجحت في الانتخابات التشريعية في فلسطين- للحديث معها والتحاور والتفاوض والتشاور، وهذا في حد ذاته هو اعتراف ضمني من قبل روسيا (من أكبر دول العالم) بشرعية حماس، الأمر الذي لم يكن ليتجاهله اليهود فغضبوا كثيرًا، حتى وإن كان سيتم في هذا التشاور وذاك اللقاء ما لا يغضبهم.
وهذا هو ما حدث مع الرسول أيام صلح الحديبية، فبمجرد أن جلست قريش على طاولة المفاوضات معه كان هذا اعترافًا منها أمام الجميع بدولة المسلمين وجماعتهم في الجزيرة العربية، وعلى رأسهم رسول الله .
سلبيات معاهدات الصلح
مع وجود الإيجابية السابقة في معاهدات الصلح إلا أن هناك سلبية أيضًا لا بد منها أثناء العقد، وهي أنه إذا جلس طرفان للتفاوض والصلح فلا بد أن يتنازل كل طرف عن شيء أو أشياء من حقوقه.
ومثل هذا بحاجة إلى وقفة متأنية، حتى إذا حدث مثل هذا بين المسلمين وبين غيرهم نكون على وعي تام بطبيعة هذا التفاوض وهذا الصلح، ونعي تمامًا ما الذي يمكن أن يتنازل عنه المسلمون ثم نتغاضى نحن عنه، وما الذي يمكن أن يتنازلوا عنه ولا يمكننا السكوت عليه.
ومن هنا فلا شك أن الرسول في هذا الصلح سيقبل -لا محالة- بأمور من أجلها سيشعر المسلمون بغُصَّةٍ وألم في حلقهم، وهذا ما لا بد منه إذا ما جلس طرفان متكافئان للصلح، لا بد أن يقدِّم كل منهما تنازلاً، وإلا فلماذا التفاوض؟ وعلامَ الصلح؟!
ولو لم يكن الطرفان متكافئين من حيث القوة، وكان هناك غالب وآخر مغلوبًا، فلن يكون هناك إلا إملاء لشروط الغالب وتنفيذ لأوامره، ولن يكون هناك إلا معاهدات استسلام.
وهذه هي طبيعة المفاوضات التي تتم بين المنتصر والمهزوم، وفي هذه الأثناء يطلق عليها معاهدات فقط من أجل تسهيل الأمر على المهزوم؛ ليقبل بكل البنود والشروط، التي ما هي إلا إملاءات من المنتصر.
ولقد كان الوضع في الحديبية متكافئًا؛ فقد جاء الرسول ومجموعة من المسلمين ليس غازيًا ولا فاتحًا ولا مهاجمًا لقريش، إنما يريد الدخول للعمرة فقط، وهم ما زالوا قوة ناشئة، وقريش تريد أن تمنعهم وهي قوة كبيرة؛ ولذلك فالجلوس إلى المفاوضات -إلى حد ما- فيه نوع من التكافُؤ.