إجلاء بني النضير وعودة الهيبة للمسلمين
خيانة بني النضير
إجلاء بني النضيرأخذ الرسول مجموعة من الصحابة فيهم أبو بكر وعمر وطائفة من الصحابة، وذهبوا يطلبون من بني النضير أن يساعدوهم في دفع دية الرجلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري - - عن طريق الخطأ؛ لعهد الأمان الذي كان الرسول أعطاهما، وكان بين بني النضير وبني عامر عهدٌ وحلف، فلما أتاهم ، قالوا: "نعم يا أبا القاسم، نعينك على ما أحببت".
واتفق اليهود على قتل الرسول قائد الدولة الإسلامية، وهو بين أيديهم ومن السهل أن يتخلصوا منه، والمسلمون في أزمة، فهم يرون المسلمين وقد أصابهم عدة مصائب، منها مأساة بئر معونة والرجيع، وفي فعلتهم هذه مخالفة صريحة للعهد الذي بينهم وبين الرسول .
قالوا: "فمن يعلو على هذا البيت؛ فيلقي عليه صخرة ويريحنا منه؟" فانتدب لذلك عمرو بن جِحَاش، فقال: "أنا لذلك". فصعد ليلقي عليه صخرة كما قال، والرسول في نفرٍ من أصحابه، فيهم أبو بكر وعمر وعليّ جميعًا، فأتى رسول الله الخبر من السماء بما أراد القوم؛ فقام وخرج راجعًا إلى المدينة حتى لا يلفت الأنظار إليه. فلما رآه الصحابة يسير نحو المدينة قاموا في طلبه، فلقوا رجلاً مُقبِلاً من المدينة فسألوه عنه، فقال: رأيته داخلاً المدينة. فأقبل أصحاب رسول الله حتى انتهوا إليه، فأخبرهم الخبر بما كان اليهود يريدون من الغدر به، فبعث رسول الله محمد بن مسلمة يأمر بني النضير بالخروج من جواره وبلده، ولا يساكنوه، وقد أجَّلهم عشرة أيام، فمن وجده بعد ذلك ضرب عنقه. فبعث إليهم أهل النفاق بقيادة عبد الله بن أُبيّ بن سلول يحرضونهم على المقام ويعدونهم النصر[1]، يقول الله تعالى: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لاَ يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ} [الحشر: 11، 12].
المنافقون خطر كبير على المسلمين؛ لأنهم يبطنون الكفر ويظهرون الإيمان، يقول تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء: 145].
فالمنافق أشد عذابًا يوم القيامة من الكافر.
وقد قص علينا القرآن الكريم بعض صفات اليهود حتى نكون على حذرٍ عند التعامل معهم، يقول الله تعالى: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ} [الحشر: 13]. إنهم لا يخافون الله، ولا يجلونه، وهو الذي خلقهم ورزقهم، ولكنهم يهابون المسلمين أكثر منه عزَّ وجلَّ.
أيُّ نوعٍ من الناس هؤلاء اليهود؟! يقول تعالى عنهم أيضًا: {لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاَّ فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْقِلُونَ} [الحشر: 14]. ويقول تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 96]. لتجدن حرص اليهود على الحياة وإنْ كانت هذه الحياة ذليلة ومهينة، المهم أن تكتب لهم الحياة.
الموقف صعب للغاية، ولكن لا بد من المواجهة مع بني النضير مهما تكن النتائج. وبعد بني النضير هناك لقاء بين المسلمين وقريش عند بدر في شوال 4هـ.
حصار بني النضير
فلما أرسل المنافقون إلى اليهود قويت عند ذلك نفوسهم، وحمي حُييّ بن أخطب، وبعثوا إلى رسول الله أنهم لا يخرجون، ونابذوه بنقض العهد، فعند ذلك أمر الناس بالخروج إليهم، وأمر بالتهيؤ لحربهم، والمسير إليهم؛ لتأديبهم جزاء غدرهم وحقدهم، فحاصرهم المسلمون ست ليال، وفي رواية خمس عشرة ليلة، ولكن الأصح أنه ست ليال، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم وذلك في شهر ربيع الأول، وانسحب المنافقون ولم ينصروا اليهود، وتركوهم يواجهون المصير المحتوم، وتحصنوا في الحصون، فأمر رسول الله بقطع النخيل وحرقها، فنادوه: "أن يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد، وتعيب من صنعه، فما بال قطع النخيل وتحريقها".
وقذف الله في قلوبهم الرعب، فقد نصر الله المسلمين في ذلك اليوم بالرعب، فهو جندٌ من جنود الله، فسأل يهود بني النضير رسولَ الله أن يجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة. ولم يؤمن من اليهود من قبيلة بني النضير إلا يامين بن عمير، وأبو سعد بن وهب[2]، من هذه القبيلة الكبيرة لم يؤمن إلا رجلان فقط! فحقًّا هؤلاء هم اليهود، وصدق قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: 82].
وهذا هو عداؤهم للإسلام، وخرج اليهود من المدينة إلى خيبر في شمال الجزيرة العربية، وخرج المسلمون من حصار بني النضير أكثر قوة، وارتفعت مكانتهم في شبه جزيرة العرب.
استعادة المسلمين لهيبتهم في الجزيرة
تأديب أهل نجد
بعد إخراج بني النضير من المدينة بعث الرسول السرايا إلى بعض جهات الجزيرة، وخرج الرسول بنفسه على رأس جيش لتأديب أهل نجد الذين أوقعوا بالمسلمين في بئر معونة وماء الرجيع، وسبحان الله! لقد فرَّ أهل نجد من أمام جيش المسلمين، وعندما عاد الرسول إلى المدينة بدأ يُعِدّ العُدَّة للخروج للقاء قريش عند ماء بدر، حسب الاتفاق السابق مع المشركين، فقد اتفقوا مع أبي سفيان على هذا الموعد.
لقاء أبي سفيان والذهاب لدومة الجندل
وخرج رسول الله إلى بدر ومعه ألف وخمسمائة من أصحابه وعشرة أفراس، وذلك في شهر شعبان لميعاد أبي سفيان، واستعمل على المدينة عبد الله بن رواحة الخزرجي ، وحمل اللواء علي بن أبي طالب .
وخرج أبو سفيان في قريش وهم ألفان، ومعهم خمسون فرسًا حتى نزل موضعًا قريبًا من مَرِّ الظَّهْران، ثم بدا له الرجوع، فقال: "يا معشر قريش، إنه لا يصلحكم إلا عام خصب، ترعون فيه الشجر، وتشربون فيه اللبن، وإن عامكم هذا عام جَدْبٍ، وإني راجع فارجعوا". فرجع، ورجع الناس، فسمَّاهم أهل مكة جيش السَّوِيق، يقولون: إنما خرجتم تشربون السَّوِيق[3].
هذه حيلة دبرها أبو سفيان لأنه لم يكن يريد حربًا، بل خرج لئلاّ يقال أخلف وعده، ولم يعارضه أحد من قريش في الرجوع، فكان الجيش كذلك لا يريد الحرب، وكان أبو سفيان قد بعث إلى المدينة رجلاً اسمه نُعَيم؛ ليرجف أصحاب رسول الله بكثرة العدو، ويحملهم على عدم الخروج؛ وذلك ليكون له عذر في الرجوع إلى مكة، ولكن رسول الله لم يبالِ بما سمع من كثرة عدد الجيش، وعلم ما يريده المشركون من تثبيط همة الناس، فقال: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ لَمْ يَخْرُجْ مَعِي أَحَدٌ لَخَرَجْتُ وَحْدِي"[4].
وأقام ببدر ثمانية أيام ينتظر أبا سفيان ليثبت للجميع أن المسلمين لا يخافون من قريش أو أي قوة أخرى تريد الوقوف أمام المسلمين، وفي هذه المدة باع المسلمون ما معهم من التجارة فربحوا كثيرًا، وسمع الرسول أن بعض القبائل في دومة الجندل تُغِير على المسلمين وتقتل منهم، فقرر الذهاب إلى دومة الجندل، والمسافة بين المدينة ودومة الجندل أكثر من أربعمائة وخمسين كيلو مترًا. وهناك قام الرسول بتفريق مجموعات من الصحابة رضوان الله عليهم لتأديب هذه القبائل، ومع أنه لم يلق كيدًا، ولم يدخل في قتال مع القبائل، إلا أن الذهاب إلى دُومة الجَنْدل وفرار القبائل يُعَدّ انتصارًا للمسلمين دَوَّى في الجزيرة؛ وبذلك عادت الهيبة إلى المسلمين في الجزيرة العربية كلها، وثبتت دعائم الدولة الإسلامية مرة أخرى، وسمع الناس بالجيوش الإسلامية التي تتحرك هنا وهناك، تُعاقب من يتعدى عليها أو ينقض العهد معها.
[1] ابن كثير: السيرة النبوية 3/146.
[2] ابن كثير: السيرة النبوية 3/148.
[3] ابن سيد الناس: عيون الأثر 2/31.
[4] الواقدي: المغازي، تحقيق مارسدن جونس، عالم الكتب، بيروت، 1/327