اختبارات إلهية لتنقية الصف المسلم
تنقية الصف المسلم
من سنة الله أنه قبل الصدامات الكبرى التي تقع بين الحق والباطل، لا بد أن تمرَّ الأمة الإسلامية ببعض الشدائد والمصاعب التي تكون بمنزلة الامتحان الصعب لكل من انتمى للإسلام.
الصف المسلمالكلام سهل {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14]. فإذا كان هذا الانتماء حقيقيًّا، وكان الإيمان صادقًا فإن صاحبه يثبت في الشدائد ويتخطى كل المصاعب، ويظل على العهد مع ربه I. وأما إن كان هذا الانتماء زائفًا، وكان الإيمان واهيًا ضعيفًا، فإن صاحبه يتزعزع في هذه الشدائد، ومن ثَمَّ يتخلى عن طريقه ويختار غير سبيل المؤمنين؛ وبذلك يحدث التمايز في الصف.
وأهمية هذا التمايز قبل الصدامات الكبرى أن الصف المختلط المكوَّن من مؤمنين ومنافقين يكون صفًّا ضعيفًا لا يَقْوى على صدِّ هجوم الباطل؛ لما يُحدِثه هؤلاء المنافقون الضعفاء في الصف من اضطرابات وقلاقل. يقول تعالى يصف خطر المنافقين: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة: 47].
ومن هنا نستطيع أن نقول: إن المصائب والشدائد والأزمات والاختبارات التي تحدث قبل الصدامات الكبرى، هي من رحمة الله بالأمة الإسلامية، وذلك لكي يُنقَّى الصف من الشوائب، فيخرج الخبث، ويتساقط الضعفاء والمنافقون، ولا يستمر إلا صادق الإيمان، قويّ العقيدة.
فرض القتال
ومن هذه الاختبارات التي حدثت في هذه الفترة ما تحدثنا عنه منذ قليل وهو فرض القتال، فالذي يقبل بهذه المشقة ويستمر في الطريق هو صادق الإيمان، وأما الذي سيجزع ويتثاقل إلى الأرض، فالصف في غنًى عنه، والمؤمنون لا يحتاجونه، بل من الأفضل أن يترك الصف الآن قبل اشتداد الأزمة.
فكان فرض القتال هو أحد الاختبارات الحقيقيَّة قبل الصدام المتوقع. ولم يكن هذا هو الاختبار الوحيد في هذه الفترة الحرجة من تاريخ الأمة، ولكن تكررت الاختبارات بشكل لافت للنظر؛ فقبْل هذا الاختبار الشديد -اختبار فرض القتال- كان هناك اختباران في غاية الأهمية، ساعدا ليس في تنقية الصف المسلم فقط، ولكن أيضًا في تربيته. وهذان الاختباران هما: فرض الزكاة، وفرض صيام رمضان.
فرض الزكاة والصوم
كانت الزكاة كانت مفروضة على المسلمين في فترة مكة، ولكن لم تكن بالنصاب المعروف والقدر الذي نعرف، إنما كانت متروكة لكل مسلم يقدر ما يحب أن يدفع، أما الآن فقد فرض على المسلمين أن يدفعوا قدرًا معينًا 2.5 % إذا بلغ مالهم النصاب وحال عليه الحول، وقيمة الزكاة وإن كانت قليلة إلا أن الإنسان بطبعه مجبولٌ على حبِّ المال، قال تعالى: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر: 20].
والإنسان بطبعه لا يحب القيود، وبخاصة القيود المادية، وهكذا لن يقبل بهذا الفرض إلا المؤمن حقًّا. فهذا اختبار حقيقيٌّ ومهمٌّ.
وكذلك اختبار الصيام، فالصوم المفروض على المسلمين لم يكن إلا يومًا واحدًا في السنة هو يوم عاشوراء، أما الآن فقد فرض الصيام شهرًا كاملاً وهو شهر رمضان، وهذا الفرض نزل في شهر شعبان، أي أن الشهر الذي يجب أن يصام هو الشهر القادم مباشرةً، هكذا دون تهيئة نفسيَّة مسبقة، وهذا شاقٌّ على النفس، وبخاصة في هذه البيئة الصحراوية الصعبة. وهكذا لن يثبت أيضًا في هذا الاختبار إلا صادق الإيمان حقًّا.
تحويل القبلة
وفوق هذه الاختبارات الثلاثة: اختبارات فرض القتال والزكاة والصيام، جاء اختبارٌ رابع صعب في منتصف هذا الشهر نفسه، وهو اختبار تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة في مكة.
وقد كان المسلمون يصلون في اتجاه بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرًا كاملاً، من أول الهجرة وإلى منتصف شعبان من السنة الثانية من الهجرة، وكان في ذلك إعلانًا لعموم الناس أن الرسالة الإسلامية ما هي إلا استكمال لرسالات الأنبياء السابقين، وأن رسول الله ومن قبله من الأنبياء جاءوا بمنهج واحد، ويعبدون إلهًا واحدًا، وكان في ذلك أيضًا تقريبًا لقلوب اليهود (سُكَّان المدينة) من الدين الجديد، الذي يشترك معهم في قبلة واحدة، ويعظِّم مثلهم إلهًا واحدًا.
ثم مرت الأيام والشهور، وظهر للجميع أن اليهود قوم سوء فاسقون، أدركوا الحق واتبعوا غيره، وأنه سواءٌ كان المسلمون يتجهون بقبلتهم إلى نفس القبلة أو يصومون معهم نفس اليوم (يوم عاشوراء)؛ فإن هذا لا يقدِّم كثيرًا ولا قليلاً في إيمانهم، ومن هنا نزل الوحي من السماء بتغيير القبلة من بيت المقدس إلى مكة المكرمة، وفرض صيام رمضان بدلاً من صيام عاشوراء.
وكانت هذه التغييرات تحمل معاني سامية من التميُّز في الأمة الإسلامية؛ من التوجُّه إلى أشرف بقاع الأرض، ومن مخالفة اليهود الذي ظهر عنادهم وفجورهم وجحودهم رغم يقينهم أن محمدًا رسولُ الله حقًّا، وغير ذلك من الأمور العظيمة. وفوق ذلك، فإنه كان في ذلك إشارة لطيفة إلى أن الله سيفتح يومًا مكة للإسلام، وستعود هذه البقاع الطاهرة إلى أيدي المؤمنين الموحدين، فليس من المعقول أن يقبل المسلمون أن تكون قبلتهم في يد أعدائهم.
وبرغم هذه المزايا الكبرى التي كان يتمناها رسول الله حتى قبْل أن تقع، بالرغم من ذلك فإن الاختبار كان صعبًا.
ووجهُ الصعوبة أن اليهود -كعادتهم- حاولوا إثارة الفتن وإشاعة الشبهات، واجتهدوا في ذلك تمام الاجتهاد، حتى صاروا يتهكمون من هذا التحويل للقبلة، ويقولون أنه متردِّد بين قبلتين، وأنه إن كانت الأولى هي الصواب فقبلته الجديدة باطلة، وإن كانت الجديدة صوابًا فماذا تفعلون في صلاتكم التي صليتموها قبل ذلك إلى القبلة الأولى؟ وخاصةًَ أن هناك بعض الصحابة ماتوا قبل أن يتم تحويل القبلة مثل أسعد بن زرارة، والبراء بن معرور، وغيرهم، فكيف يكون حالهم؟
وهكذا الشبهات والفتن دائمًا تثار من اليهود ومَن كان على شاكلتهم؛ لتشكيك أهل الحق في دينهم.
أنزل الله يرد عليهم ويصفهم بالسفهاء، ويبين المفهوم الدقيق الذي يجب أن يدركه كل مؤمن، وهو أن الأمر كله لله ، يحكم بما يشاء وقتما يشاء I، وهو المتصرف في خلقه وملكوته، ولا رادَّ لأمره ولا لقضائه، قال تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142].
ثم طمأن المسلمين على صلاتهم السابقة في اتجاه بيت المقدس، فقال : {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143].
ثم وضح I أن اليهود لا ينقصهم حجة أو دليل، إنما هم يكابرون ويعاندون مع معرفتهم للحق؛ ولذلك فلا داعي للحزن عليهم أو لطول الجدل معهم. قال تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} [البقرة: 145].
وبذلك بيَّن ربُّ العالمين للمسلمين كيدَ اليهود وتدبيرهم ومكرهم، وكشف مخططهم، وأنار الطريق للمؤمنين، ومع ذلك فالأمر لم يكن سهلاً على الناس لقوة الشبهات، وصدق ربنا I عندما قال: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ} [البقرة: 143].
وبذلك وضح المقصود من الحدث، فالأمر ما هو إلا اختبار لمعرفة الصادق الذي يعبد الله بالطريقة التي أراد الله دون جدل أو مناورة، ومعرفة الكاذب وضعيف الإيمان الذي سيتردد في طاعة رب العالمين، إن أتى أمرٌ على غير هواه أو على غير اقتناعه.
قال الله موضِّحًا قيمة اختبار تحويل القبلة: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143].
فالأمر في حقيقته امتحانٌ كما بيَّن الله .
وهكذا كانت اختبارات شهر شعبان من الكثرة بمكان، مما يوحي بوضوح أن المسلمين يقتربون من حدث مهم، بل شديد الأهمية، لا يمكن أن يخرج له إلا المؤمنون حقًّا؛ ولهذا كانت الاختبارات المتكررة. وهذا الحدث العظيم كان لقاء الكافرين في غزوة بدر، يوم الفرقان، وهو من أعظم الأحداث في تاريخ المسلمين.