معاهدة رسول الله مع اليهود
تعامل رسول الله مع اليهود
خاتم الرسولعلمنا في المقال السابق رفض اليهود –إلا عبد الله بن سلاموبعض اليهود وهم قليل- الدخول في الإسلام مع علمهم بصدق رسالة رسول الله ، فماذا سيكون الوضع: اليهود كلهم تقريبًا رفضوا الإسلام؟ ما حال أهل الكتاب في دولة يحكمها حاكم مسلم بشرع إسلامي؟
لقد علَّمنا رسول الله كيف نتصرف في هذا الموقف من خلال ما فعله هو، لقد قرر أن يعقد معاهدة بين المسلمين واليهود. ومن الأهمية بمكان أن ندرس ظروف هذه المعاهدة؛ لكي نستطيع أن نقارن بين واقعنا الذي نعيشه الآن وبين ما فعله رسول الله ، فالرسول الذي عقد هذه المعاهدة، وحافظ عليها قدر استطاعته هو نفسه الذي أَجْلى بعد ذلك بني قينقاع ثم بني النضير، وهو نفسه الذي قتل رجال بني قريظة.
الرسول هو الرسول، ولكن الحال اختلفت، ولنا فيه أسوة حسنة في كل مواقفه وخطوات حياته.
لا بد أن نعرف متى عاهد؟ ومتى حارب؟ متى قَبِلَ من اليهود بعض البنود في المعاهدة؟ ومتى لم يقبل منهم أن يجلسوا في المدينة المنورة يومًا واحدًا بعد أن أجلاهم؟ هذه أمور تحتاج منا بحثًا دقيقًا.
لماذا قرار المعاهدة؟ من الممكن أن يكون لدى الإنسان غيظٌ شديد من اليهود؛ لأنهم سمعوا هذه الكلمات التي أدركوا جميعًا أنها الحق، وبعد ذلك لم يتبعوه، ومع ذلك فإن الدين الإسلامي والشرع الإسلامي لا يظلم الناس شيئًا. ليس معنى قيام دولة إسلامية أن تُهضم حقوق أهل الكتاب.
إن العلاقة بين المسلمين وأهل الكتاب واضحة جدًّا في كتاب ربنا I، لخصها قول الله في سورة (الممتحنة)، قال I:
{لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 8، 9].
الإسلام وحقوق الآخر
لقد صنع الإسلام قفزة حضارية هائلة، إن العالم اليوم يتحدث بالكاد عن قبول الآخر، وعن الاعتراف بالآخر، وعن سماع الآخر، وهذا يعني أن العالم الآن في طفولة حضارية، أما الإسلام فإنه تجاوز هذه المطالب إلى ما هو أعظم منها بكثير، فقد نزل الإسلام منذ 1400 سنة بما هو أعظم وأسمى من ذلك، نزل بالإحسان إلى الآخر، وبالبر بالآخر، وبالعدل مع الآخر، وبرحمة الآخر، فليس معنى أن الرسول معه الحق الذي لا ريب فيه، أن يُكرِه أهل الكتاب على الدخول في الإسلام، فرغم أنه كان يتفطَّر حزنًا على يهوديٍّ أو نصراني مات على غير الإسلام، فإنه لا يستطيع أن يكرهه؛ لأن الإكراه ليس من شرعنا {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256].
قرر رسول الله أن يعقد معاهدة مع اليهود؛ لأنه يرى أن فرصة الدعوة ما زالت موجودة؛ فلم يكن هناك تاريخ عدائي يُذكر بين المسلمين واليهود قبل ذلك. نَعَمْ هم كذبوا الآن، لكن ربما يفتح الله قلوبهم في المستقبل؛ فلم يكن الرسول ييئس مطلقًا من دعوة إنسان، فقرر أن يعقد معهم معاهدة.
بنود أول معاهدة في الإسلام
تُرى ما بنود هذه المعاهدة بين رسول الله واليهود؟ لا بد أن نركز تركيزًا شديدًا في بنود هذه المعاهدة؛ فهذه البنود يُستخلص منها قواعد المعاهدات في الإسلام وأصولها. هذه المعاهدة بهذا الوصف الذي سنصل إليه - إن شاء الله رب العالمين - توضح مدى التجنِّي على السيرة النبوية، الذي فعله مَن شبَّه المعاهدات الحديثة مع اليهود بالمعاهدة التي عقدها رسول الله في زمانه، فشتَّان بين المعاهدتين!
تعالَوْا نقرأ معاهدة الرسول :
البند الأول
"يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم".
هذه هي القاعدة الأولى، ومعناها أن حرية العقيدة في الإسلام حقيقة كبرى {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256].
فللمسلمين دين ولليهود دين، وطبعًا ذكر في هذا البند يهود بني عوف، وفي بقية المعاهدة تعريف كل اليهود الموجودين في داخل المدينة المنورة بأسماء قبائلهم، أي: يهود بني النجار، ويهود بني حارثة، ويهود بني ساعدة، وهكذا.
البند الثاني
وهو في غاية الأهمية: "وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم". أي أن الذمة المالية لهم محفوظة تمامًا.
هذا الكلام يوقع عليه زعيم الدولة في ذلك الوقت ، والحقوق الاقتصادية لهم محفوظة بعيدًا عن ذمة المسلمين المالية، فليس معنى أننا عاهدناهم، وأن الزعامة والرئاسة في الدولة للمسلمين أن نأخذ حقًّا لهم أو أن نأخذ ممتلكاتهم. فلهم حرية التملك ما داموا على عهدهم مع المسلمين في داخل الدولة الإسلامية، وفي الوقت نفسه ففي هذا البند نوع من التميّز للمسلمين، فليس معنى إقامة معاهدة أن تتميع الأمور ويصبح الاقتصاد الإسلامي ممزوجًا بالاقتصاد اليهودي ويندمجان. لا؛ فنحن ليس لنا دخل بحياتهم، ولنا حياتنا المستقلة التي نعتز بها، وهذا الكلام يكتبه الرسول وهو يعرف أن الاقتصاد في هذه اللحظة كان معظمه في أيدي اليهود.
البند الثالث
أن في وقت الحرب يتغير هذا الأمر، فإذا حدث ضغط أو حرب أو حصار على المدينة المنورة فالجميع - بحق المواطنة - يدافع عن المدينة المنورة، وأن بينهم النصر على من دَهَمَ يثرب، ما داموا يعيشون معًا في بلد واحد، فعليهم التعاون في الدفاع عن البلد لو حدث غزو خارجي. ثم يقول: "وإن اليهود يُنفِقون مع المؤمنين ما داموا محاربين".
لو قامت حرب يجب أن تجتمع النفقة للدفاع عن البلد، وأن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم، وأن النصر للمظلوم، وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم. وكلها أمور تحفظ لليهود شأنهم في الدولة التي يتزعمها مسلم، هو الرسول .
البند الرابع
وهو بند خطير وصريح جدًّا، وفي منتهى القوة، يقول رسول الله : "وإنه لا تُجار قريشٌ ولا من نصرها". وهذا موقف خطير، قبل ذلك قال: "إن بينهم النصرَ على من دَهِمَ يثرب".
إذا دهم يثرب أيُّ عدو فعلى الجميع أن يتعاون في صده حتى لو كان هذا العدو هو قريش، وقريش لم يكن بينها وبين اليهود مشاكل قبل ذلك، بالعكس كانت العلاقات الدبلوماسية بينهما جيدة، ولما قبل اليهود بهذه المعاهدة قرروا - في الظاهر - أن يقاطعوا قريشًا؛ لأن قريشًا تعادي المسلمين، وكان من المتوقع أن تهجم قريش على المدينة المنورة، فإن الرسول لمعرفته أن اليهود أهل خداع ومكر وغدر وخيانة صرَّح في المعاهدة باسم قريش حتى لا يأتي اليهود ذات يوم ويقولوا: إن قريشًا مستثناة من المعاهدة لكذا أو لكذا. وهذا يعلمنا أن أي معاهدة مع اليهود لا بد أن تكون كل كلمة فيها مكتوبة بوضوح؛ فقال: "إنه لا تُجار قريش ولا من نصرها". أي إذا هجمت قريش على المدينة فعلى اليهود أن يساعدوا المسلمين، لا أن يساعدوا قريشًا في حربها ضد المسلمين. وهذا ما سنرى مخالفة له بعد ذلك في بني قريظة، ونفهم من الآن خلفيات غضب الرسول عليهم عندما أعانوا قريشًا على المسلمين في يوم الأحزاب.
نحن نلاحظ أن هناك قوة وصلابة في المعاهدة من طرف رسول الله ، وهو الذي يُملِي الشروط على اليهود.
البند الخامس
ثم ذكر رسول الله : وألاَّ يخرج من اليهود أحدٌ إلا بإذنه . فهو نظام يشبه نظام الجوازات الآن، فلا أحد يغادر الدولة إلا بإذن من السلطة فيه، ليس لقبائل اليهود في داخل المدينة المنورة أن يخرجوا في سفر أو في حرب أو في أمر من الأمور إلا بإذن الرسول ؛ لأنهم من الممكن أن يحدثوا مشاكل خارج المدينة تجرُّ الويلات على كل المدينة المنورة بمن فيها من اليهود والمسلمين، أي أن تأشيرة الخروج والسماح بالسفر كانت في يد الرسول . ولا بد أن ننتبه للفرق الرهيب بين هذه المعاهدة وبين المعاهدات التي عقدت بعد ذلك في فلسطين مع اليهود.
البند السادس
وهو أهم بنود المعاهدة، حيث قال : "وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يُخاف فسادُه، فإن مرده إلى الله ، وإلى محمد ". لو حدث خلاف بين المسلمين واليهود أو شجار بينهم، فإن الحكم لله ولرسوله الكريم .
انظر مدى القوة، ومدى النصر، ومدى البأس الذي حققه رسول الله بهذه المعاهدة، ومدى العلو الذي كان فيه على اليهود، ورغم ذلك يأتي من يشبه المعاهدات الحديثة بهذه المعاهدة بين رسول الله واليهود.
دروس من المعاهدة
ماذا نتعلم من رسول الله في هذه المعاهدة؟
أولاً: نتعلم أن الإسلام دين ينتظم كلَّ أمور الحياة؛ فهذا هو رسول الله الذي علَّم المسلمين الصلاة والصيام والقيام والقرآن وبناء المساجد؛ يقف الآن بصلابة وبرجولة وبقوة وبحكمة سياسية بارعة يعاهد اليهود معاهدة كانت يد الله فيها هي العليا.
ثانيًا: ماذا حصَّل المسلمون من هذه المعاهدة؟ حصلوا اتقاء شر اليهود، والتعاهد على البر وليس على الإثم، والاعتراف - وهذه كلمة في غاية الأهمية - الاعتراف من اليهود بدولة المسلمين الناشئة؛ فهذه دولة قوية لها احترام ولها عزة، ولها رأي تجلس مع اليهود لتعقد معاهدةً، للمسلمين فيها اليد العليا.
كذلك إبعاد قوة اليهود عن معاونة قريش، وكان هذا نجاحًا كبيرًا؛ فرسول الله فصل بين الحزبين: حزب قريش وحزب اليهود، وأيّ مخالفة سيدفع اليهود بعد ذلك ثمنها، ثم الحكمُ والمَرَدُّ للرسول .
كما قَبِل اليهود - ولهم من العمر مئات السنين في داخل يثرب - بزعامة الرسول على المدينة المنورة. أيُّ فضلٍ، وأيُّ خيرٍ، وأي عظمة، وأي تمكين في هذه المعاهدة التي جرت بين الرسول واليهود.
ثالثًا: أن شرط المعاهدات مع غير المسلمين ألا نخالف شرع الله . إن البون شاسع بين هذه المعاهدة وبين المعاهدات الحديثة، فكيف يشبهونها بمعاهدة الرسول مع اليهود؟!
في معاهدة رسول الله مع اليهود لم يخالف شرع الله ، ولم يقدِّم تنازلاً واحدًا مُخِلاًّ بالدين، وقد بيَّنا أن أهم شرط في العهود مع أهل الكتاب ألا يُنقض أمر من أمور الدين، وعندما أقر عدُوُّي على امتلاكه لأرض من أراضي المسلمين، فهذا إخلال واضح بأمر من أمور الدين، كما حدث بعد ذلك في المعاهدات الحديثة.
كما أنه لا يُقبل في معاهدة إسلامية أن يُعقد الصلح في وقتٍ تَعَيَّن الجهاد، ومن الأسباب التي تجعل الجهاد فرض عينٍ - ولا شك في ذلك - نزول العدو في الأرض الإسلامية، كما فعل اليهود حين نزلوا أرض فلسطين.
من مخالفة الشرع أيضًا الإقرار بالظلم. إن معاهدة الرسول تنص على أن النصر للمظلوم، ومن ثَمَّ لا يجوز عقد معاهدة يكون من جرَّائها أن يُزجَّ في السجون بمئات أو آلاف من المجاهدين، أو يكون من جرائها إقصاء عدد هائل من المجاهدين عن الأرض الإسلامية، أو يكون من جرائها مصادرة الديار والأموال والأراضي، وما إلى ذلك.
في معاهدة الرسول: "وإنَّ الجار كالنفس غير مضارٍ ولا آثم"[1]. ولكن اليهود الآن ظلموا كل الجيران: ظلموا الجيران من الفلسطينيين، والجيران من السوريين، والجيران من اللبنانيين، والجيران من المصريين، وهذه كلها مخالفات شرعية لا تجوز في المعاهدات مع اليهود، أو مع غيرهم من غير المسلمين.
في زمان الرسول أو في عهده، كان الخروج من المدينة لا يتمُّ إلا بإذنه، لكن الآن لا يخرج أحد من الفلسطينيين من فلسطين إلا بإذن من اليهود.
أخذ الرسول العهد على اليهود ألا يجيروا قريشًا، القوة الأولى في الجزيرة في ذلك العقد. لكن هل أَمِنَ المسلمون شر أعدائهم بهذه المعاهدات الحديثة؟ هل اشترط المسلمون على اليهود ألاَّ يعاونوا عدوًّا للمسلمين يريد أن يضرب إحدى البلاد الإسلامية؟ هل اشترطوا عليهم ألاَّ يعاونوا أمريكا مثلاً في ضرب العراق أو سوريا أو السودان أو إيران، وغيرها من بلاد العالم الإسلامي؟ كل ذلك لم يحدث.
والأهم من ذلك أنه عند الاختلاف من يحكم بيننا؟ في معاهدة الرسول كان الحاكم هو الله عز وجلَّ ورسوله ، وهذا مصرَّح به في المعاهدة ووقَّع اليهود على ذلك، أمَّا الآن فالمرد للأمم المتحدة، أو قُلْ لأمريكا.
من الذي أعطى فلسطين لليهود؟ إنها الأمم المتحدة التي أصدرت قرار التقسيم، وأعطت جزءًا كبيرًا من فلسطين لليهود، وبعد ذلك سلَّمتها كلها لهم. في الواقع إن المعاهدات في العصر الحديث مختلفة تمام الاختلاف عن المعاهدة التي عقدها الرسول ، ولا وجه للمقارنة.
[1] ابن هشام: السيرة النبوية 1/ 503، 504