تعامل رسول الله مع المشركين داخل وخارج المدينة
رسول الله والمشركون
في هذا المقال ننتقل إلى طائفة أخرى ممن تعامل رسول الله معهم في مجتمع المدينة المنوّرة، وهم طائفة المشركين.
إستراتيجية العمل مع المشركين في ذلك الوقت داخل الدولة في الحالة السلمية كانت إيصال الدعوة وحسن الجوار، وتجنب الصدام بقدر المستطاع، بل التعاون في القضايا المشتركة هو الأساس، ولنلقِ نظرة على مشركي المدينة، وكيف كان تعامل رسول الله معهم.
المشركون في المدينة
محمد رسول اللهقرر بعض المشركين الخروج من المدينة لما دخلها رسول الله ، وكان من هؤلاء (أبو عامر الفاسق) الذي كان معروفًا بأبي عامر الراهب، الذي كان قد قرّر أن يخرج عند دخول الرسول إلى المدينة، ودار بينه وبين الرسول حوارًا أوضح فيه ما في داخله، وقرر الخروج من المدينة. واسمه أبو عامر عبد عمرو بن صَيْفِيّ الأوسيّ، وهو أبو الصحابي الجليل (حنظلة بنن أبي عامر) غَسِيلُ الملائكة الذي استشهد في غزوة أُحُد .
كان هذا الرجل يدَّعِي أنه راهب، وأنه على دين الحنيفية، ولبس المسوح، وادَّعى هذا العلم أيام الجاهلية. لما ذهب الرسول للمدينة المنوّرة ذهب إليه أبو عامر الراهب، وبدأ يحاوره، قال أبو عامر: ما هذا الدين الذي جئت به؟ قال : "جِئْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ دِينِ إِبْرَاهِيمَ". قال الراهب: فأنا عليها. فقال : "إِنَّكَ لَسْتَ عَلَيْهَا". أي أن هناك تحريفًا كبيرًا جدًّا في الديانة التي هو عليها. قال أبو عامر: بلى عليها، إنك أدخلت يا محمد في الحنيفية ما ليس منها. فقال : "مَا فَعَلْتُ، وَلَكِنِّي جِئْتُ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً". قال الراهب: الكاذب أماته الله طريدًا وحيدًا غريبًا. وهو بقوله ذلك يُعرِّض برسول الله ويتهمه بالكذب، وأن الله سيميته طريدًا وحيدًا غريبًا، إلا أن رسول الله ردَّ عليه بكل ثباتٍ قائلاً: "أَجَلْ، مَنْ كَذَبَ فَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ ذَلِكَ". فكان أبو عامر الراهب كذلك؛ فبعد هذا الحوار بينه وبين رسول الله ، وبعد أن رأى أبو عامر المهاجرين والأنصار متحمسين للرسول ويتعاملون معه كزعيم للمدينة المنوّرة، بعد أن رأى ذلك لم يستطع أن يجلس في المدينة، وخرج من المدينة، وسماه الرسول بأبي عامر الفاسق، بدلًاً من أبي عامر الراهب. عاش أبو عامر الفاسق هذا في مكة المكرمة ثماني سنوات إلى أن جاء الفتح الإسلامي لمكة المكرمة في السنة الثامنة للهجرة، فهرب من مكة واتجه إلى الطائف، وسبحان الله! بعدها بقليل أسلمت الطائف في سنة تسعٍ من الهجرة، فهرب من الطائف، وعاش في الشام، وهناك مات طريدًا وحيدًا غريبًا، وكان كل من خرج من المدينة بضعة عشر رجلًاً.
لكن المجموعة الكبرى من الأوس والخزرج بقيت على شركها، وتعيش في المدينة المنوّرة، وعلى رأس هؤلاء عبد الله بن أُبيّ ابن سلول، وهو الذي أصبح بعد ذلك زعيمًا للمنافقين، هذا الرجل كان زعيمًا للخزرج، وكانت له مكانة كبيرة في داخل المدينة المنوّرة عند أوسها وخزرجها على السواء، وهو الوحيد الذي اجتمع عليه الأوس والخزرج لينصبوه ملكًا على المدينة، وذلك قبل قدوم الرسول ، وكانوا ينسجون له الخرز، أي يتوّجونه ملكًا للمدينة المنوّرة، واجتماعهم عليه هو أول اجتماع للمدينة المنوّرة على رجل واحد قبل رسول الله .
وفجأة تغيرت الأحداث وظهر أمر الرسول ، وآمن به ستة من الخزرج أي من قبيلة عبد الله بن أُبيّ ابن سلول، ثم اثنا عشر رجلًاً في بيعة العقبة الأولى، ثم 73 في بيعة العقبة الثانية، كل هذا لم يعلم به عبد الله بن أُبيّ ابن سلول، وقد كان رئيسًا لوفد المدينة في الحج في العام الذي بايع فيه الأنصار بيعة العقبة الثانية (13 من البعثة)، وكان مشركًا آنذاك، وكان وفد المدينة يضم 300 من يثرب منهم 75 مسلمًا و225 مشركًا، ولأنه كان زعيم الوفد كان يظن أنه يعرف كل شيء عن الوفد، ولما شككه بعض أهل قريش نفى بشدة، وقال: لو حدث هذا لاستشارني قومي. بعد ذلك، وبعد بيعة العقبة الثانية التي كانت في ذي الحجة من العام الثالث عشر من البعثة، ففي ربيع الأول من العام الرابع عشر من البعثة، أي بعد 3 أشهر أو يزيد قليلًاً هاجر إلى المدينة المنوّرة، ونُصِّب رئيسًا وزعيمًا للمدينة المنوّرة. سبحان الله! تسلَّم رسول الله ما كان سيتسلمه عبد الله بن أُبيّ ابن سلول، فتحرك الحقد في قلبه على أشد ما يكون، وخاصّة أنه ليس منهم، وإنما جاء من قبيلة أخرى، بل من مدينة أخرى، وكان هذا الأمر مستحيلًاً عند العرب، يستحيل أن يأتي رجل من قبيلة يرأس قبيلة أخرى ويجتمع عليه الناس، أمر غريب جدًّا عند العرب، لهذا رفض عبد الله بن أُبيّ ابن سلول هذا الأمر كُلِّيَّة، ولكي يقبله لم يكن أمامه إلا أن يكون مؤمنًا صادق الإيمان، وخاصَّةً بعد أن وجد أن كل من حوله متقبلون للرسول ، حتى المشركين الذين لم يدخلوا في الإسلام، وقف معظمهم على الحياد، فلم يعد هناك من ينصره على الرسول ، فكان في حالة من الحقد والغيرة للرسول ؛ فرفض الدخول في الإسلام وبقي على شركه وعاش في المدينة المنوّرة، وظل يبحث عن أي فرصة يُؤذي بها رسول الله ، ويناصر أعداءه عليه.
هكذا كانت إستراتيجية الدعوة الإسلاميّة، الدعوة السلمية قدر المستطاع مع مشركي يثرب؛ لأن هناك أملًاً كبيرًا في دعوتهم، والرسول كان يُقدِّم الحسنى على قدر المستطاع، ويدعو الناس بقدر المستطاع إلى الإسلام:
فمن ذلك ما رواه البخاريُّ أن رسول الله ركب على حمار، وأردف أسامة بن زيد وراءه، وذهب ليعود سعد بن عبادة وهو من سادات الخزرج، كان ذلك في أول أيام المدينة المنوّرة قبل بدر وقبل إسلام عبد الله بن أُبيّ ابن سلول، فمر على مجلس وكان بالمجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود، ويجب أن نلاحظ أن الدعوة بالتي هي أحسن تقتضي المخالطة، أي يختلط المسلمون بغيرهم، ولكنهم لا يتأثرون بشركهم، ولا آثامهم، ولا معاصيهم. روى البغويّ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن الرسول قال: "الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى آذَاهُمْ، أَفْضَلُ مِنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لاَ يُخَالِطُهُمْ وَلاَ يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ"[1]. قال ابن المبارك - رحمه الله - في تفسير العزلة: "كن مع القوم، فإذا خاضوا في ذكر الله فخُضْ معهم، وإذا خاضوا في غير ذلك فاسكتْ"[2]. مرَّ رسول الله على هذا المجلس، وكان من المسلمين في المجلس عبد الله بن رواحة، وكان من الجالسين أيضًا عبد الله بن أُبيّ ابن سلول سيد الخزرج، فلما مرَّ حمار رسول الله على القوم غَبَّر ( أي أصاب الجالسين شيئًا من الغبار)، فقال عبد الله بن أُبيّ ابن سلول يرفع صوته على رسول الله يقول: لا تغبروا علينا. قالها بشيءٍ من الحدة، إنه يوضح أنه غاضب من رسول الله ، وبداخله حقد يبدو من كلماته تلك، ولكن الرسول تجاهل هذه الكلمة، ولم يهتم بها ونزل من على حماره، وسلم عليهم، ثم وقف ودعاهم إلى الله تعالى وقرأ عليهم من القرآن الكريم، فهو ما كان يترك رجلًاً ولا قبيلة ولا مجموعة من الناس، إلا وعرَّفهم بدعوته ، وقرأ عليهم القرآن. فقال عبد الله بن أُبيّ ابن سلول - وهو يتميز من الغيظ -: أيها المرء (يخاطب رسول الله )، إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقًّا، ولكن لا تؤذنا به في مجالسنا، وارجع إلى رحلك، فمن جاءك فاقصص عليه. فقال عبد الله بن رواحة - وهو مسلم -: بلى يا رسول الله، ألا فاغشنا به في مجالسنا، فإنا نحب ذلك. وهكذا دافع ابن رواحة عن رسول الله ، على عكس عبد الله بن أُبيّ ابن سلول تمامًا، ذلك الشاب الصغير بخلاف عظيم القوم، ولكن لا بد هنا أن يدافع عن الرسول ، وهذا دور الشاب المسلم. فاستَبَّ المسلمون والمشركون واليهود، وقامت معركة كل فريق يناصر واحدًا منهم، فريق المسلمين مع عبد الله بن رواحة، وفريق المشركين مع عبد الله بن أُبيّ ابن سلول، لكن اللطيف في الرواية هو موقف اليهود، فعلى الرغم من أن اليهود لم يسبهم أحد، أو يتحدث معهم، إلا أنهم وجدوها فرصة لإثارة الفتنة، حتى كادت تقوم بينهم معركة بالسيوف، فلم يزل النبي يُخَفِّضُهم حتى سكنوا.
لكنه لم يترك الأمر هكذا، فذهب إلى سعد بن عبادة أحد زعماء الخزرج، فقال له: "أرأيت الذي فعل أبو حباب (يريد عبد الله بن أُبيّ ابن سلول)، قال كذا وكذا"[3]. فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله، اعفُ عنه واصفح، فوالذي أنزل عليك الكتاب، لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك، ولقد اجتمع أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه فيعصبوه بالعصاب، فلما أَبَى الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله شَرِقَ بذلك، فذلك الذي فعل به ما رأيت فاعذره.
وهكذا كانت الرؤية واضحة عند سعد بن عبادة، ونصح لرسول الله ؛ لأنه يعلم ما في نفس عبد الله بن أُبيّ ابن سلول، ويطلب من الرسول أن يعذره، فهم لم يزالوا في المرحلة الأولى من مراحل المدينة المنوّرة؛ فلم يستمع إلى كلمات كثيرة من القرآن الكريم، ولم يحيَ معهم كثيرًا، اعفُ عنه واصفح لعلَّ الله أن يفتح قلبه بالإسلام. بعد ذلك عفا عنه رسول الله .
وهكذا كان الرسول يحاول قدر المستطاع أن يصل بالدعوة بالتي هي أحسن إلى مشركي الأوس والخزرج، وكان يحاول تجنب الصراع على قدر المستطاع، ومعظم المشركين لم يكونوا على ما عليه عبد الله بن أُبي ابن سلول، بل بالعكس وقفوا على الحياد، وهؤلاء مارس معهم الصحابة الدعوة الإسلاميّة بالتي هي أحسن، وذلك مثل ما حدث مع عمرو بن الجموح وغيره من الصحابة أجمعين.
المشركون من الأعراب
خريطة توضح أماكن تواجد الأعراب في الجزيرة العربية
أما المشركون من الأعراب فكان رسول الله يرسل لهم قدر المستطاع بعض من يدعوهم للإسلام، وكان يتخيرهم من أفراد قبيلتهم، مثل قبيلة (غفار) التي أرسل الرسول إليها أبا ذرٍّ الغفاري ، فأتى بنصف أهله ودعا لها رسول الله وقال: "غِفَارٌ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا"[4]. ومارس فيها الدعوة ولكن وهم في ديارهم دون أن يدخلوا المدينة المنوّرة، فأرسل لهم من يعلِّمهم من المسلمين. وفي الوقت نفسه أظهر لهم قوة المسلمين حتى لا يغتر هؤلاء أن المهاجرين هاجروا في حالة ضعف أو قلة إلى المدينة المنوّرة، فيغير الأعراب على المدينة المنوّرة طمعًا فيها، فأظهر لهم قوة كما سيظهر لنا بعد ذلك عندما يبعث الرسول السرايا للقبائل المجاورة.
المشركون في القبائل الكبرى خارج المدينة
خريطة القبائل الكبرى خارج المدينة المنوّرةأما بالنسبة للمشركين الذين في القبائل الكبرى خارج المدينة المنوّرة، فقد حاول رسول الله أن يرسل إليهم من يعقد معهم معاهدات، فعقد معاهدة مع قبيلة (جُهَيْنة)، وهي قبيلة كبيرة في غرب المدينة المنوّرة، ذلك أن هذه المنطقة في منتهى الأهمية، جهة الغرب حيث طريق القوافل القرشية القادمة من مكة إلى الشام، فأمّن هذا الجانب، حتى تستطيع الجيوش الإسلاميّة بعد ذلك أن تتحرك في أمان.
كانت هذه هي سياسته مع القبائل الكبرى المحيطة بالمدينة المنوّرة، هي عقد المعاهدات والأحلاف قدر المستطاع.
لم يتبقَّ إلا المشكلة الكبرى، وهي مشكلة مشركي قريش وكيف تعامل معهم الرسول ؟
يعتقد البعض أنه ما دام رسول الله قد ابتعد عنهم مسافة 500 كم بعيدًا عن مكة، فإن ذلك سيمنع عنه خطرهم، أو أن ذلك سيهدِّئ الأوضاع، إلا أن هذا غير صحيح أبدًا، والله يقول: {ولاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217].
سوف يسعى المشركون من أهل مكة قدر المستطاع لغزو المدينة المنوَّرة، ولإخراج المسلمين منها، والتحالف مع غير المسلمين وأعداء المسلمين من هنا وهناك لاستئصال خضرائهم تمامًا.
وهذا كله يثبت لنا حقيقة مهمة وهي أنه لا خيار في المعركة أبدًا، لا بد منها، حتى وإن تجنب المسلمون المعركة، لا بد أن تحدث سُنَّة التدافع التي جعلها رب العالمين في خلقه، وفي أرضه، وإلى يوم القيامة.
[1] رواه الترمذي (2507)، وابن ماجه (1338)، وأحمد (5022). قال الشيخ الألباني:صحيح. انظر حديث رقم (6651) في صحيح الجامع.
[2] القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 10/ 361.
[3] البخاري: كتاب التفسير، باب تفسير سورة آل عمران (4290). مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وصبره على أذى المنافقين (1798).
[4] البخاري: كتاب المناقب، باب ذكر أسلم وغفار ومزينة وجهينة وأشجع (3322). مسلم: كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، باب من فضائل أبي ذر رضي الله عنه (2473).