تأملات في قصة سراقة بن مالك
هذه تأملات مهمة في قصة سراقة بن مالك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة، طبقا لما جاء في الروايات التي ذكرناها في مقال " قصة سراقة بن مالك في الهجرة"، وهي:-
أولاً: أخذ سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي كلَّ الأسباب التي تكفل له النجاح في مهمَّته الآثمة، واستعان بكل طرق الشرِّ والخداع ليُحَقِّق مراده، فأظهر أولاً فراسةً عجيبة بإدراكه أن هذا الركب المسافر هو ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثانيًا: كذب على القوم الذين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ فأخبرهم أنهم قوم آخرون يعرفهم؛ وذلك حتى يمنع غيره من اللحاق بهم فيأخذ بذلك الدية بمفرده، وثالثًا: انتظر ساعة قبل الخروج في طلب الرسول صلى الله عليه وسلم حتى لا يشكُّ فيه أحد، ورابعًا: أَمَرَ الجارية أن تتخفَّى وهي تُخْرِج فرسه حتى لا يراه أحد، وخامسًا: أخفض رمحه حتى لا يعلم أحدٌ أنه يخرج في مهمَّة تحتاج سلاحًا، وسادسًا: حدَّد الوجهة بشكل سليم وأسرع في الطلب فأدرك الركب المهاجر، ثم سابعًا: خالَفَ الأزلام التي يعتقد فيها حتى يتمكَّن من تنفيذ ما يُريد، وثامنًا: لم يرتدع بتعثُّر فرسه مرَّة، وفي رواية مرتين، فأكمل المحاولة إلى آخرها!
لقد فعل سراقة كل هذا المكر ليُوقِف عملاً في سبيل الله، فماذا كانت النتيجة؟! إن الله تعالى أبطل مكره بما لا يتوقَّعه؛ إذ ساخت أقدام فرسه في الرمال، فتوقَّف عن المطاردة مُرْغَمًا! ولم يَدُرْ بينه وبين الركب قتالٌ ولا نزال، إنما كفاهم الله شرَّ الرجل بما شاء. إن ما رأيناه في هذا الموقف هو مجرَّد إبراز لجانب من مكر الله بأعداء الدين، وكيف أنه سبحانه يأتيهم من حيث لا يحتسبون؛ وهو تربية للمؤمنين تجعلهم يثقون في أن مكر الله لا يُقارَن بمكر خلقه؛ قال تعالى: {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 42]. ونلاحظ في هذه الآية أن الله تعالى بعد أن أثبت المكر للكافرين في قوله: {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} عاد ونفاه عنهم في قوله: {فَلِلهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا}، فجعل المكر كله له سبحانه، وأنزل مكر الكافرين منزلة العدم، ومراجعة مثال سراقة توضِّح لنا هذا المعنى، فمع أن سراقة مَكَرَ مَكْرًا كُبَّارًا؛ فإن مكره صار في لحظة وكأنه لم يكن، فلله الحمد والمنَّة.
ثانيًا: يتكرَّر في هذا الموقف ما رأيناه في رحلة الهجرة من عدم بلوغ التخطيط البشري درجة الكمال؛ فالكفَّار وصلوا إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مغادرة الرسول صلى الله عليه وسلم له، مع أن الخُطَّة كانت تهدف إلى الخروج المبكِّر قبل وصول الكافرين؛ ثم وصل الكفَّار إلى غار ثور مع أن الخُطَّة كانت تهدف إلى التعمية على الكفار فلا يعرفون مخبأ الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق رضي الله عنه، ثم الآن يصل سراقة إليهم مع أن الخطة كانت تهدف إلى سلوك طريق لا يراهم فيه أحدٌ، ولقد كان من الممكن أن يُحَقِّق الله عز وجل النجاح للخطة في كل أركانها فلا يراهم أحد مطلقًا؛ ولكن المعتاد أن تحدث مثل هذه الثغرات لتربط المسلمين دومًا بربهم فيطلبوا منه التأييد والنصرة، وأيضًا لكي يطَّلِع المؤمنون على جانب من قدرة الله تعالى وحمايته لهم فيُحِبُّونه ويُعَظِّمونه، وثالثًا لكي لا يُفْتَن المسلمون بتخطيطهم وإعدادهم فيظنُّون أنهم -بذكائهم فقط- نجحوا، وفي هذا الظن خطر على سلامة فهمهم واعتقادهم؛ نعم هذا الفهم الخاطئ محال في حقِّ رسولنا صلى الله عليه وسلم؛ ولكن هذه المواقف جُعِلَت تربيةً لكل المؤمنين القارئين لهذه السيرة العطرة؛ لهذا لم تكن حياته صلى الله عليه وسلم مختلفة عن حياتنا، فكان يعيش التجارب نفسها التي ستعيشها الأُمَّة بعد ذلك؛ حتى يكون لنا فيه أسوة حسنة.
نعم نحن نرى المعجزات التي تُنْجِيه صلى الله عليه وسلم واضحة جليَّة في مواقفه المختلفة؛ لكن هذا لا يمنع أن تحدث معنا طرق التأييد والنصرة نفسها؛ ولكن دون أن نراها معجزة، وكم من المرَّات أنجى الله المؤمنين! وكم من المرَّات أحبط خُطط الكافرين! وكم من المرات سدَّ سبحانه ثغراتِ خططِ المسلمين! إن هذا كله يحدث -لا شكَّ- وإن لم نكن نراه في كل الأوقات؛ قال تعالى: {وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [النمل: 53].
ثالثًا: كرَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف لأبي بكر رضي الله عنه كلمته الرائعة التي قالها في الغار، وسجَّلها القرآن الكريم، وهي: "لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا". فكانت الكلمة وكأنها شعار الرحلة؛ وهي أمر واضح للمؤمنين بترك الحزن عند رؤية كيد الكافرين، وبتعميق الإيمان بمعية الله سبحانه لعباده الصالحين، وهذا هو الذي يُنْزِل السكينة في قلوبهم، وهذا هو الذي يُنْزِل جنود الرحمن للدفاع عنهم، وينبغي لمن كان الله معه ألا يكون حزينًا!
رابعًا: للفوز بمعية الله تعالى شروط، رأينا في هذا الموقف بعضها؛ فمن هذه الشروط الاعتصام بكتاب الله سبحانه وكثرة قراءة آياته؛ قال سراقة: "حَتَّى إِذَا سَمِعْتُ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم". فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الله بقراءة كلامه، ومنها اللجوء إليه سبحانه بالدعاء؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف: "اللَّهُمَّ اكْفِنَاهُ بِمَا شِئْتَ". وفي رواية: "اللَّهُمَّ اصْرَعْهُ". ومنها تقوى الله تعالى وعدم الاستعانة بحرام، وهذا ما رأيناه في إعداد الرسول صلى الله عليه وسلم للرحلة، فهو لم يستعِن بأموال ودائع المشركين مع أنهم يحاربونه، ولم يقبل أن يأخذ الناقة من الصديق رضي الله عنه إلا بالثمن؛ مع أن الصديق رضي الله عنه يرضى بذلك؛ ولكن أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُعَلِّمَنَا التورُّع عن مال الأصدقاء، كما ظهر لنا في موقف راعي الغنم تورُّعُ الركب عن شرب قليل من اللبن إلا بإذن صاحبها ولو كان مشركًا.
وقد جاء في القرآن الكريم تأكيد معية الله تعالى للمتقين في أربعة مواضع مختلفة؛ كان منها على سبيل المثال: {وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 194]. ومن شروط معية الله تعالى كذلك للمؤمنين الصبر على المكاره التي تُقابلهم وهم يعملون له سبحانه؛ فرحلة الهجرة -كما رأينا- في غاية المشقَّة؛ ففيها ترك الأهل والديار، وفيها التخفِّي والحذر والترقُّب والوجل، وفيها الإنفاق والبذل، وفيها الجوع والعطش، وفيها السعي والسفر، وفيها الكدُّ والنَّصَب، ومَنْ صبر على كل ذلك كافأه الله عز وجل بمعيته سبحانه، وقد جاء ذكر معية الله للصابرين في القرآن الكريم في أربعة مواضع كذلك؛ كان منها على سبيل المثال: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46]. وأخيرًا فإن من شروط معية الله سبحانه للمؤمنين استنفاد الوسع في الأخذ بالأسباب؛ فالله عز وجل لا يصحب الكسالى والمتواكلين؛ بل يدعم بمعيته العاملين المـُجِدِّين، وهذا ما رأيناه في كل خطوات الهجرة المباركة.
خامسًا: قال سراقة وهو يصف هيئة الرسول صلى الله عليه وسلم في رحلته: "وَهُوَ لاَ يَلْتَفِتُ، وَأَبُو بَكْرٍ يُكْثِرُ الاِلْتِفَاتَ". وليس في التفات الصديق رضي الله عنه شيء؛ بل إنه ينبغي له أن يلتفت! لأن من أدواره تأمين هذه الرحلة، ولم ينهه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التحرُّك أمامه وخلفه قبل ذلك لحمايته، ولم ينهه الآن عن الالتفات للتأكُّد من عدم وجود ملاحقة للركب؛ بينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم منشغلاً بقراءة القرآن وإشاعة روح الطمأنينة في أصحابه، ولم يشأ أن يلتفت هو حتى لا يشعر أصحابه بالقلق أو الخوف، ومع ذلك فعندما أدرك أن سراقة قد لحق بهم التفت النبيُّ صلى الله عليه وسلم دون تردُّد؛ ففي رواية أنس رضي الله عنه قال: فَالْتَفَتَ أَبُو بَكْرٍ فَإِذَا هُوَ بِفَارِسٍ قَدْ لَحِقَهُمْ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا فَارِسٌ قَدْ لَحِقَ بِنَا. فَالْتَفَتَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "اللَّهُمَّ اصْرَعْهُ". فهكذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يُوازن بين السكينة في مظهره ومخبره، وبين الحذر والانتباه والاهتمام بعوامل الأمان في الرحلة.
سادسًا: وَضَح لنا في هذا الموقف ما أكَّدناه سابقًا من كون حُزن الصديق رضي الله عنه في الغار كان عائدًا إلى خوفه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس لخوفه على نفسه؛ فقد تكرَّر الموقف تقريبًا عند وصول سراقة إلى الركب، ودار الحوار الذي كشف لنا عن مشاعر الصديق رضي الله عنه؛ قال الصديق رضي الله عنه: "قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا الطَّلَبُ قَدْ لَحِقَنَا. وَبَكَيْتُ، قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لِمَ تَبْكِي؟" قَالَ: قُلْتُ: أَمَا وَاللهِ مَا عَلَى نَفْسِي أَبْكِي، وَلَكِنْ أَبْكِي عَلَيْكَ". وهذا هو المتوقَّع من رجل اختاره الله تعالى بنفسه ليصحب أحبَّ خلقه إليه سبحانه.
سابعًا: يقول تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر: 31]، ويقول أيضًا: {وَلِلهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [الفتح: 7]؛ ومن أعجب جنود الرحمن رجال من الكافرين يستخدمهم للدفاع عن المؤمنين! وقد رأيناها في السيرة كثيرًا؛ فكان منهم الخمسة الذين رفعوا المقاطعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبني هاشم، وكان منهم المطعم بن عدي الذي أجار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن قبله أبو طالب الذي دافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما لو كان أحد أبنائه وأكثر؛ وكان منهم العباس عمُّ الرسول صلى الله عليه وسلم الذي صاحبه في مباحثات بيعة العقبة الثانية، وكان من هذه الجنود في هذا الموقف سراقة بن مالك؛ حيث رجع من هذه المطاردة يدفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأذى، ويردُّ عنهم كيد الكافرين! قال أنس بن مالك رضي الله عنه: "فَكَانَ أَوَّلَ النَّهَارِ جَاهِدًا عَلَى نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ آخِرَ النَّهَارِ مَسْلَحَةً لَهُ"! وهذا رأيناه في تاريخ الأنبياء قبل ذلك؛ فقد قصَّ القرآن الكريم علينا قصة موسى عليه السلام الذي تربَّى في حماية أكبر أعدائه فرعون! قال تعالى: {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39]، فهي إذن سُنَّة من سنن الله تعالى.
ثامنًا: لفت نظري أن الأزلام التي يستقسم بها سراقة بن مالك خرجت تصرفه عن متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم! فمع أن الأمر كله شرك وكفر؛ فإن الله تعالى استعمله لكي يُضَيِّق عليه به صدره، فلا يقوم بالعمل الذي يصدُّ به عن سبيل الله إلا وهو مهموم وكئيب! فلا شكَّ أن سراقة كان سيجد حماسة في فعله لو شعر أن إلهه الذي يعبده يُبارك له خطواته، فحَرَمه الله تعالى هذه الراحة بخروج الأزلام في عكس ما يُريد، ومثل الأزلام يُقال على أمور كثيرة يعانيها الكفار؛ مثل أقوال العرافين، ومثل الأحلام وتفسيراتها، ومثل تكهنات المتنبِّئين بالغيب، ومثل نصائح الأصدقاء والمقرَّبين، فكثير منها يأتي على غير مرادهم، فلا يُقْبِلون على مكرهم وكيدهم للمؤمنين إلا وهُم في حزن وهَمٍّ وكمد! قال تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125].
تاسعًا: انبهرتُ بعزَّة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يردُّ على سراقة بن مالك رافضًا مِنْحته التي أراد أن يُعطيها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، خاصَّة أنه رفض بشكل قاطع وحاسم؛ بل بأسلوب فيه من الاستنكار والرفض ما فيه! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم له: "لاَ حَاجَةَ لِي فِي إِبِلِكَ"! وسراقة في هذا الموقف لا يُعطي هذه النفقة كرمًا أو تفضُّلاً، إنما يُعطيها ليستنقذ نفسه من غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد ظهرت له قوَّة الرسول صلى الله عليه وسلم ومعجزاته، وهو يُدرك الآن أن الرسول صلى الله عليه وسلم يمكن أن يفعل به ما يشاء؛ ولذلك فهو يُريد أن يتلطَّف إليه قدر طاقته، وهذا هو المعتاد في مثل هذه المواقف؛ حيث يحاول الضعيف أن يُعطي القوي شيئًا يتَّقي به غضبه؛ لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستغلَّ هذا الموقف، وأراد أن يُلَقِّن سراقة والمشركين درسًا مهمًّا، وهو أنه لا يطمع في أموالهم، ولا يسعى إلى امتلاك ثرواتهم، ولا يُحِبُّ دنياهم أو يتعلَّق بها، إنما كان يُريد لهم ولأهلهم الخير؛ ومن ثَمَّ رفض الرسول صلى الله عليه وسلم عطاء سراقة بمنتهى الحسم، وكان موقفًا جديدًا على سراقة، فظلَّ محفورًا في ذاكرته يحكيه على مرِّ الزمان!
عاشرًا: مع كون الرسول صلى الله عليه وسلم واثقًا تمام الثقة في ربِّه عز وجل وحمايته سبحانه له، ومع كونه يرى الآيات والمعجزات العجيبة التي تُظْهِر قدرة الله العظيم في الدفاع عن نبيه، فإن هذا لم يمنعه من الأخذ الكامل بالأسباب لتأمين النجاة، ولإنجاح الرحلة؛ فقد طلب من سراقة بشكل مباشر أن يصرف عنه أنظار المراقبين من المشركين، وأن يمنع عنه المطاردِين والمغرضين؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسراقة: "فَقِفْ مَكَانَكَ، لاَ تَتْرُكَنَّ أَحَدًا يَلْحَقُ بِنَا". وفي رواية: "أَخْفِ عَنَّا". ولم يَقُلْ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لو جاء مشركٌ آخر فسوف يفعل الله به ما فعله بالأول، إنما قام بما عليه مع كامل يقينه بنُصرة الله له، وهذا هو تمام التوكُّل.
حادي عشر: عَجِبْتُ لموقف سراقة الذي لم يُؤمن في ساعته، وزاد عجبي عندما علمتُ أن إسلامه قد تأخَّر إلى عام الفتح؛ أي لمدَّة ثماني سنوات كاملة! فالرجل لم يرَ الآيات فقط؛ بل كان متيقِّنًا بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدوِّه، ومن كونه صادقًا في كلِّ ما قال، فقد ظهر من كلام سراقة ما يُؤَكِّد كامل قناعته بذلك، فمن ذلك أنه صَرَّح بأنه يعلم أن سبب تعثُّر الفرس هو دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لله تعالى! قال سراقة: "يَا مُحَمَّدُ، قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ هَذَا عَمَلُكَ، فَادْعُ اللهَ أَنْ يُنَجِّيَنِي مِمَّا أَنَا فِيهِ، فَوَاللهِ لأُعَمِّيَنَّ عَلَى مَنْ وَرَائِي مِنَ الطَّلَبِ". فهذه واحدة، والثانية هو تصريحه بيقينه في ظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم! قال سراقة: "وَوَقَعَ فِي نَفْسِي حِينَ لَقِيتُ مَا لَقِيتُ مِنَ الْحَبْسِ عَنْهُمْ أَنْ سَيَظْهَرُ أَمْرُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم". أما الثالثة فهي رغبة سراقة في أن يكتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابًا بالأمان! وما فائدة هذا الكتاب إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سيظلُّ مطارَدًا طَوَال عمره؟! إن سراقة كان على يقين من أن العاقبة ستكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن التمكين سيكون لأُمَّته وجيشه، فأراد أن يفوز الآن بكتاب أمان ينفعه عند تمكُّن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمر؛ قال سراقة: "فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَكْتُبَ لِي كِتَابَ أَمْنٍ، فَأَمَرَ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ فَكَتَبَ فِي رُقْعَةٍ مِنْ أَدِيمٍ". وقد ظلَّ سراقة محتفظًا بالكتاب إلى أن أخرجه عند لحظة إسلامه بعد فتح مكة وانتصار حنين؛ أي في العام الثامن من الهجرة.
إننا أمام حالة عجيبة من الانفصام كان يعيشها الكفار آنذاك، فمع يقينهم الكامل بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وبأن الله تعالى سيحسم الأمر لصالحه في النهاية فإنهم لا يؤمنون! ولا تدري هنا ما المانع الذي وقف حائلاً أمام سراقة وأمثاله كل هذه السنين! أهو الكِبْرُ؟ أم هو الخوف من الزعماء؟ أم هو التقليد للآباء؟ أم هي الإمعيَّة وعدم القدرة على أخذ القرار؟ أم هي القبليَّة والعصبيَّة والانتماء للعشيرة؟ أم هي كل هذه الأمور مجتمعة؟ لا ندري على وجه اليقين؛ ولكنها حقيقة شاهدناها كثيرًا، وما زلنا نشاهدها في كل مراحل التاريخ، وهي أنَّ المكذِّبين للدين، والصادِّين عن سبيل الله، يفعلون ذلك وفي صدورهم يقين من بقاء الإسلام في النهاية، ومن ظهور الحقائق التي طالما عاشوا يُخفونها عن الناس؛ قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 14].