موقف عتبة بن ربيعة مع رسول الله
قريش تستأنف المفاوضات مع الرسول
كانت أحداث ضخمة جدًّا قد حدثت في مكة، تغييرات محورية في مسار الدعوة، أسلم حمزة ثم أسلم عمر رضي الله عنهما، تغيرت موازين القوى في مكة تغيرًا ملحوظًا، ولم يكن ذلك يخفى على مشركي قريش وعلى زعمائها، فها هم الأحرار الأشداء وقد باتوا يسلمون، وها هي الدعوة الإسلامية وقد باتت تتسلل إلى داخل بيوتاتهم.
وإزاء تلك الأحداث وتلك التطورات الخطيرة، دعا المشركون إلى اجتماع عاجل على مستوى قادة وزعماء مكة؛ وذلك لمواجهة الأزمة الجديدة، والمشكلة الخطيرة التي باتت تهددهم. وفي هذا الاجتماع تقدم عتبة بن ربيعة زعيم بني أمية وأحد حكماء قريش باقتراح، فعرض يقول:
يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورًا لعله يقبل بعضها، فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟
وكان هذا تنازلاً جِدّ خطير من زعماء قريش، وهو وإن دل على شيء فإنما يفسر الوضع الذي أصبحت فيه مكة بعد إسلام حمزة وعمر رضي الله عنهما، ومع أن هذا العرض كان على غير هوى الكثيرين إلا أنهم وافقوا مضطرين، فقالوا: بلى يا أبا الوليد، قم إليه فكلمه.
قصة عتبة بن ربيعة مع رسول الله
وفي المسجد الحرام حيث كان رسول الله يجلس بمفرده ذهب عتبة، وجلس معه وبدأ حواره، ولأنه كان ذكيًّا فقد بدأ عتبة بن ربيعة الكلام وقد رتبه ونظمه، ونوّع فيه بين الإغراء والتهديد، وبين مخاطبة العقل ومناجاة القلب. ولا غرو فهو كما يقولون كان من الحكماء، ابتدأ عتبة كلامه يرفع من قدر رسول الله بقصد إحراجه نفسيًّا قائلاً:
يا ابن أخي، إنك منّا حيث قد علمت من السِّطَة -أي المنزلة- في العشيرة والمكان في النسب.
ثم أتبع ذلك بالتلويح بما يعتبره جرائم ضخمة، لا يجب في رأيه أن تأتي من هذا الإنسان رفيع القدر قائلاً: إنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فَرَّقت به جماعتهم، وسفّهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم.
يريد وبمنتهى الوضوح أنك متهم بزعزعة نظام الحكم في مكة، فما لك أنت والدين؟! دع الدين لأهل الدين، كان عليك أن تدعه للكهّان ومن يخدم الأصنام، أنت قد أقدمت على هذا العمل، وقد تسبب عنه لقومك كذا وكذا وكذا، وقد يكون ما أقدمت عليه هذا مجرد خطأ غير مقصود، ومن ثَمَّ -ولمنزلتك عندنا- سنعرض عليك أمورًا فاختر منها ما شئت.
بهذه الطريقة الثعبانية يريد عتبة أن يخبر رسول الله أن هذه الاقتراحات التي سنطرحها عليك ليست مجرد اقتراحات مغرية فقط، بل إن مجرد رفض هذه الاقتراحات معناه توجيه وإثبات التهم الخطيرة عليك، والتي عقابها أنت تعلمه ولن أذكره لك.
حرب نفسية شديدة، وإن كانت مغلفة بابتسامة واحترام كبير، وكان رسول الله يتفهم مثل هذا الأسلوب جيدًا، وكان يعلم أن هذه مساومة على الدين، لكنه كان في غاية الأدب مع عتبة المشرك الكافر، فقال له في سعة صدر وفي رقة قلب مدللاً له ومناديًا إياه بكنيته وبأحب الأسماء إليه:
"قل يا أبا الوليد".
يريد رسول الله أن يستوعب عتبة بن ربيعة، ويريد أن يعطيه فرصة للحديث حتى يعطيه بعد ذلك بدوره فرصة للسماع، قال عتبة يعرض لأمور غاية في الإغراء لأهل الدنيا:
العرض الأول:
يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً.
العرض الثاني:
وإن كنت تريد به شرفًا سَوّدناك علينا، حتى لا نقطع أمرًا دونك.
العرض الثالث:
وإن كنت تريد به ملكًا ملكناك علينا.
العرض الرابع:
وهو عرض غير مؤدب -لكنه حاول أن يخرجه في صورة مؤدبة- قال: وإن كان هذا الذي يأتيك رِئْيًا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يُداوى منه.
وهذا العرض الأخير فيه من التلميح من أن الذي لا يقبل العروض السابقة، فإنه -ولا شك- في عرف قريش مجنون.
وكانت هذه عروض أربعة من ممثل قريش الرسمي في المفاوضات مع رسول الله ، وكان عتبة يقدم هذه العروض وهو يرى أنه يقدم أكبر تنازل قد حدث في تاريخ مكة كلها.
وإن هذا التنازل الكبير لا بد أن يكون في مقابل، وقد كان المقابل هو: السكوت عن الحق، ترك أمر الدعوة، عدم الخوض إلا فيما يرضي الزعماء والأسياد في مكة أو في غير مكة.
وهي -لا شك- عروض لشراء الضمائر والذمم، ولا شك أن من يقبل بمثلها فإن عليه أولاً أن ينحي الضمير جانبًا. ومن هنا فإن التنازلات الضخمة في حياة الدعاة يكون مبدؤها -عادةً- تنازلاً صغيرًا، ولأن الرسول لم يكن ليخفى عليه مثل هذا، فكان لا يمكن أن يتنازل.
كان رسول الله سياسيًّا بارعًا محنكًا، يحاور ويفاوض، لكن وفق ضوابط شرعية قد سنَّها وحددها، فما قبله فهو الحد الذي يجب أن يأخذ به الدعاة من بعده، وما رفضه فهو الأمر الذي لا يجب أن يقبل أو يتخطاه أي داعية بعد ذلك.
ومع أن الرسول كان يعلم منذ أول كلمة تفوه بها عتبة أن كل ما سيعرضه عليه ما هو إلا مساومات لا قيمة لها، ومنذ أول حديث له (لعتبة) وهو عازم تمامًا على رفض كل العروض الدنيوية المغرية والسفيهة جدًّا في نظر الدعاة الصادقين، مع كل ذلك إلا أنه -وسبحان الله- لم يقاطع عتبة مرة واحدة، وقد تركه حتى فرغ تمامًا من حديثه، وبعد أن انتهى من حديثه وفي هدوءٍ تام وعدم انفعال قال له: "أقد فرغت يا أبا الوليد؟".
أجابه عتبة: نعم.
وهنا قال له رسول الله : "فاسمعْ مني".
قال عتبة: أفعل.
وكان هذا هو الذي يريده ، ولم يكن عتبة ليستطيع أن يرفض السماع بعد كل هذا الأدب العظيم من رسول الله، فكان مضطرًّا لأن يسمع حتى وإن كان على غير مراده، وفي محاولة جادة لتطويع الهدف بدأ رسول الله في الحديث، فلم يتكلم بكلامه هو، إنما تكلم بكلام الله، تكلم بالقرآن، فقرأ قول الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم {حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ * قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [فصِّلت: 1- 7].
كلمات معجزة عجيبة تتنزل عليه كما الصاعقة، تكشف كل ما بداخله، وهو يزداد خوفًا ولا يستطيع القيام.
قرأ رسول الله قول الله I: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصِّلت: 8- 12].
ثم يرتفع التحذير والتهديد فيبلغ أقصاه حين يقرأ رسول الله : {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصِّلت: 13].
وهنا لم يتمالك عتبة نفسه عن عدم السماع، وقد أخذ به الرعب والهلع كل مأخذ، وكاد قلبه ينخلع، وشعر وكأن صاعقة ستنزل عليه في لحظة أو في لحظات، وفي حالة نسي فيها أمر عدائه، ونسي أمر المفاوضات، بل نسي مكانته وهيبته، قام فزعًا وقد وضع يده على فم الرسول وهو يقول: أنشدك الله والرحم، أنشدك الله والرحم.
ومن فوره قام عتبة يجرُّ ثوبه يتبعثر فيه مهرولاً إلى قومه، لا ينظر خلفه، عيناه زائغتان، أنفاسه متقطعة، حتى دخل على زعماء قريش.
لم يكن الأمر يحتاج إلى كثير ذكاء حتى يعرف الجمع ما حدث، لقد كان وجهه ينطق بشيء، حتى لقد قال بعضهم: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به.
وحين جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟!
وبلسان عجيب وفي غاية الصدق، بدأ أبو الوليد عتبة يحكي تجربته، بدأ يتحدث وكأنه أحد الدعاة للإسلام فقال: ورائي أني سمعتُ قولاً والله ما سمعت مثله قَطُّ، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر، ولا بالكهانة. يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، فوالله ليكونَنَّ لقوله الذي سمعت منه نبأٌ عظيمٌ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به.
وفي ذهول تام ردوا عليه وقالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه.
فأجابهم برأيه متمسكًا: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم.
فشل المفاوضات وانقسام مكة
كان الذي حدث بين عتبة بن ربيعة ورسول الله نهاية الأمر إيذانًا بفشل المفاوضات بين المشركين وبين رسول الله ، كان المشركون يسعون إلى حل سلمي في رأيهم، لكن رسول الله يعلمنا أن الحل السلمي ليس معناه التنازل، بل إن السلام لا يكون إلا بحفظ الحقوق، وأول حق يجب أن يُحفظ هو حق الله ، فلا يجوز لمفاوض ولا معاهد أن يبني عهده وميثاقه على مخالفة لحق الله .
وهكذا فشلت المفاوضات، وتوقع كل المراقبين للأحداث أن تحدث أزمة كبيرة في مكة بعد هذا الانهيار للمباحثات بين الطرفين، وكان أبو طالب عم رسول الله يراقب الموقف، وقد أدرك أن قريشًا لن تقف مكتوفة الأيدي إزاء ما حدث، فخشي أبو طالب أن يثور زعيم أو سفيه من زعماء أو سفهاء قريش فينطلق إلى رسول الله ويقتله، ففكر فيما يفعل كي يحمي من يحبه أكثر من أولاده، وهو محمد ، وفي هذا الموقف أخذ أبو طالب قرارًا حاسمًا، لقد قام بدعوة بني عبد مناف بشقيها (بني هاشم وبني المطلب، والمطلب هو عم عبد المطلب جد الرسول ) ثم طلب منهم أن يجتمعوا جميعًا لحماية ابنهم محمد ، وأجاب جميع القوم، مسلمهم وكافرهم، حمية وقبلية، وطاعة لكبيرهم أبي طالب.
وبهذه الصورة بات من المؤكد أن مكة أصبحت على أعتاب أزمة خطيرة، وأصبحت المواجهة بين بني عبد مناف وبين بقية قريش حتمية لا مناص منها، وإذا كان أبو طالب يخشى ما قد يقدم عليه زعماء مكة، فكذلك كان زعماء مكة يخشون المسلمين، ولا يدرون ماذا يفعلون، فقد أسلم حمزة ، وقد كان من فرسان قريش الأشداء، وأسلم عمر بن الخطاب، وكان السفير الرسمي لمكة، ومن الخطورة بمكان أن يكون في صف الرسول ، ثم ها هي المفاوضات السلمية بينهم وبين رسول الله قد باءت بالفشل، وزاد الطين بلة أن اتحد بنو عبد مناف مسلمهم وكافرهم كي يحموا الرسول .
ثم هم في الوقت ذاته لا يستطيعون أن يقتلوا الرسول ، ولا يستطيعون حرب بني عبد مناف بكاملها، فماذا يصنعون؟!
ومن جديد عقدوا اجتماعًا طارئًا وعاجلاً، خرجوا منه في نهاية الأمر بقانون جديد، فقد ابتكروا وسيلة جديدة لحرب أهل الإيمان، وقرروا بالإجماع أن ينفذوا هذا القانون.
فيا تُرى ما هذا القانون، الذي اجتمعت عليه عصبة الكفر ضد المسلمين؟ هذا ما سنعرفه في المقال القادم إن شاء الله.