مكيدة عمرو بن العاص للمسلمين بالحبشة
الباطل لا يمل
بعد هذه الهزيمة المنكرة التي رأيناها في المقال السابق لم تنتهِ المعركة بعدُ، وكما ذكرنا فإنَّ الحرب بين الحق والباطل حرب أبدية، ومهما كان من أمر فإن عمرو بن العاص لم يستسلم، وقد قرر استئناف الهجوم من جديد؛ وذلك في محاولة منه لسحب البساط من تحت أقدام الوفد الإسلامي، أو على أقل تقدير يحفظ ماء وجهه.
في أول الأمر كان يريد من ملك الحبشة أن يعيدهم إلى مكة، إلا أنه الآن وبعد الهزيمة المُرَّة والضربة القاصمة له كداهية العرب في ذلك الوقت ممن هو في مثل سن أبنائه (عمرو بن العاص كان يبلغ من العمر خمسًا وأربعين سنة، وكان جعفر يبلغ من العمر سبعًا وعشرين سنة)، فكر في جولة انتقامية شرسة تدفع النجاشي إلى قتل المسلمين، ولم يكن هذا الإقدام من المهام التي كان عليه القيام بها من قِبل قريش، ولكن الضربة التي تلقاها جعلته يتصرف بهذه الطريقة المنفردة.
مكيدة عمرو بن العاص للمسلمين أمام النجاشي
قال عمرو بن العاص لعبد الله بن أبي ربيعة، وقد تمكّن الشر منه: "والله لأنبِّئَنه (النجاشي) غدًا عيبهم عنده، ثم أستأصل به خضراءهم".
وهنا يريد عمرو بن العاص أن يدفع النجاشي إلى قتلهم لا أن يردهم إلى مكة، وهذه مرحلة أبعد من الشر، وعمرو هذا هو الذي تحول لما أسلم بعد ذلك إلى قائد مسلم محنك، يحافظ على كل نقطة من دماء المسلمين، ويصل بالإسلام إلى بقاع كثيرة من بقاع الأرض، فالقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.
وقد أرعبت هذه اللهجة من قبل عمرو بن العاص عبد الله بن أبي ربيعة رفيقه في السفارة، وقد ردَّ عليه متخوفًا وملطفًا: "لا تفعلْ؛ فإن لهم أرحامًا وإن كانوا قد خالفونا".
لكن عمرو بن العاص وقد جُرح جرحًا كبيرًا أصر على رأيه، وما صرح به لعبد الله بن أبي ربيعة، وقال: "والله لأخبرنه (النجاشي) أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبدٌ".
وإن مثل هذا الخبر ليعد أمرًا عظيمًا في الحبشة، فقد كان أهل الحبشة يتبعون كنيسة الإسكندرية، وكانوا يعتقدون أن المسيح هو إله تجسد في جسد بشر -تعالى الله عما يصفون- وهو وإن دل على شيء فإنما يعكس دهاء عمرو بن العاص، ومدى اطلاعه؛ إذ كان يعلم رأي المسلمين في عيسى ويعلم رأي أهل الحبشة أيضًا فيه.
وهنا تكمن الخطورة؛ فإن عمرو بن العاص سيخبر النجاشي أن هؤلاء المسلمين يطعنون مباشرة في إلههم.
وبالفعل مضى في تنفيذ خطته، فذهب من الغد إلى النجاشي وقال له: "أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيمًا، فأرسِل إليهم فاسألهم عما يقولون فيه".
لا يستطيع النجاشي أن يتجاهل مثل هذا الأمر، فقد يكون صحيحًا. ومن ناحية أخرى فالأساقفة وكبار رجال الدولة لن يعذروا النجاشي إذا أظهر تعاطفًا مع موقف المسلمين دون تمحيص، ومن ثَمَّ فقد أرسل النجاشي إلى المسلمين يسألهم عن قولهم في عيسى بن مريم .
تقول السيدة أم سلمة -رضي الله عنها- في وصف حال المسلمين هناك في تلك اللحظة: "ولم ينزل بنا مثله".
وهي حقًّا مشكلة خطيرة يتعرض لها الوفد الإسلامي وقد تعصف به، فإن رأيه (الوفد الإسلامي) في عيسى بن مريم يتعارض كلية مع رأي أهل الحبشة فيه، وهم (المهاجرون) ضعفاء زائرون لاجئون، وليس هناك مكان آخر في انتظارهم.
ما كان من المسلمين إلا أن عقدوا مجلسًا سريعًا للشورى، وماذا تقولون في عيسى إذا سألكم عنه؟ تشاوروا ثم قالوا: "نقول والله فيه ما قال الله، وما جاء به نبينا، كائنًا في ذلك ما هو كائن".
في عُرف السياسيين كان رد فعل المسلمين عجيبًا، ويعدُّ في نظرهم انتحارًا سياسيًّا، ولكن هناك فرقًا كبيرًا بين السياسي الداعية، وبين السياسي الذي ليس له مرجعية من الشرع، فالمسلم السياسي الداعية له رسالة واضحة، وهي أن يصل بدعوته نقية إلى الناس، والسياسي الذي ليس له مرجعية من الشرع لا تهمه الوسائل، بل إنه يريد أن يصل إلى النتيجة ولو على حساب الشرع، ولو على حساب الأخلاق، ولو على حساب الفضيلة، فالغاية عندهم تبرِّر الوسيلة.
كانت الموازنة سهلة بالنسبة للمسلمين، فالرؤية عندهم واضحة، ولا شيء يقدم على العقيدة، ولا شيء يقدم على الحق والصدق، ولا شيء يقدم على الدعوة الصحيحة، ولم يرد المسلمون أن يتسلقوا على وسائل خادعة أو طرق ملتوية أيًّا كانت النتائج.
قول المسلمين في عيسى بن مريم
وبهذه العقيدة دخل جعفر بن أبي طالب على النجاشي ومن معه من الأساقفة، وبصورة مباشرة سأله النجاشي: "ما تقولون في عيسى بن مريم؟"
وفي ردٍّ موجز وملخص لعقيدة المسلمين في شأن عيسى بن مريم ، رد جعفر بن أبي طالب قائلاً:
"نقول فيه الذي جاء به نبينا نقول: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول (العذراء هي البكر، والبتول هي المرأة التي لا شهوة لها في الرجال)".
ومع كونه ردًّا يرفع كثيرًا من عظم شأن وشرف عيسى بن مريم إلا أنه لا يكاد يُخرج عيسى عن كونه عبدًا لله ورسولاً من الرسل الذين أرسلهم الله إلى الناس، فقد وصف جعفر بن أبي طالب عيسى أولاً أنه عبدٌ لله، ثم أثبت بعدها نبوته؛ وذلك حتى لا يلتبس على الأفهام اعتقاد أنه إله لأنه وُلد بغير أب أو أنه يُحيي الموتى، فقال جعفر في ترتيب جيد: هو عبد الله ورسوله، وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول.
ولم ينسَ أيضًا أن يثني على أمِّه السيدة مريم، ويوضح أن عقيدة المسلمين فيها مخالفة لعقيدة اليهود الذين يفترون عليها الافتراءات، ويكيلون إليها الاتهامات البشعة، فلم ينافق جعفر ولم يداهن، وقد ذكر الحق مجردًا، وعرضه بأسلوب لطيف لا إفراط فيه ولا تفريط، لكن الجميع يعلم أن هذا الطرح الذي طرحه جعفر ليس مقبولاً في بلاد الحبشة، تلك التي تعتقد في ألوهية المسيح .
تُرى ماذا كان ردّ فعلهم؟!
في موقف مهيب فاجأنا النجاشي وفاجأ فيه أهل الحبشة، بل وفاجأ عمرو بن العاص وصاحبه، بل ولعله أيضًا فاجأ جعفر نفسه، حين ضرب الأرض بيده، وأخذ منها عودًا (عود رفيع وصغير من النبات يكاد لا يرى) ثم قال: "ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود".
أي أن النجاشي رأى أن الفارق بين كلام جعفر بن أبي طالب في وصف حقيقة المسيح، وبين وصف المسيح نفسه لحقيقته هو فارق ضئيل جدًّا، يكاد لا يذكر، أو يكاد لا يرى، وهذا أيضًا يعني أن النجاشي يعترف بعبودية المسيح ونبوته. وبالطبع لم يلق مثل هذا الكلام قبولاً لدى البطارقة والأساقفة وكبار رجال الدولة، فكان أن تنافرت البطارقة (أي أصدروا أصواتًا عالية تنمُّ عن الغضب والنفور من إسلام النجاشي)، وكان أن صاح النجاشي فيهم وفي حزم قائلاً: وإن نخرتم والله (يعني هذه هي الحقيقة المجردة برغم اعتراضكم)، ثم قام على الفور بإصدار ثلاثة قرارات غاية في الأهمية.
قرارات النجاشي
القرار الأول
استضافة المسلمين بالحبشة في أعلى صورة من صور تكريم الوفود، وهو قرار خطير لأنه -وكما هو واضح- ليس على هوى كبار الأساقفة، وهذا قد يؤدي إلى فتنة داخلية في الحبشة، وإلى قلاقل قد تزعزع مُلْكَ النجاشي نفسه، وقد حدث هذا بالفعل، وقامت عليه ثورة نتيجة هذا القرار، لكن النجاشي -رحمه الله- كان من الشجاعة والعدل بحيث إنه أصدر هذا القرار دون اعتبار لعواقبه الوخيمة على ملكه.
القرار الثاني
قطع العلاقات الدبلوماسية مع مكة، فالبلاد التي تؤذي المؤمنين لا يجب أن يعقد معها الصالحون علاقات، والنجاشي رجل صالح، ومكة بلد تؤذي المؤمنين، فلا معنى إذن لإبقاء العلاقة قائمة بين البلدين، وقد عبر النجاشي عن ذلك بوضوح حيث قال: "ردوا عليهما -على عمرو وصاحبه- هداياهما؛ فلا حاجة لنا به".
وهكذا أغلق النجاشي باب المفاوضات كُلِّيَّة مع المشركين من أهل مكة، حتى إن أم سلمة -رضي الله عنها- نفسها تصف هذا الموقف فتقول: فخرجا (عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة) من عنده مقبوحين مردودًا عليهما ما جاءا به.
القرار الثالث
وهو أخطر من القراريْن السابقيْن، وكان قرارًا سريًّا، لم يجهر به النجاشي لأحد، وهو قرار الإسلام، أخطر قرار في حياة إنسان.
لقد أيقن النجاشي يقينًا دفعه إلى أخذ قرار شجاع بترك النصرانية والتحول عنها إلى الإسلام، تحول عنها وهو على رأس دولة نصرانية لا زالت متمسكة بنصرانيتها، لكنه كان رجلاً عادلاً، وعدله يمنعه من أن يضيع حق الله في أن يعبد ولا يشرك به، وعدله يمنعه من أن يضيع حق المؤمنين في أن يدافع عنهم، وعدله يمنعه من أن يظلم نفسه ويضيع حقها في أن تؤمن بالله وتهتدي إلى الصراط المستقيم، لكن النجاشي لم يعلن إسلامه وآثر أن يظل محتفظًا بإيمانه في صدره، مظهرًا أمام الناس ديانته القديمة، النصرانية.
النجاشي يخفي إسلامه
ولكن لماذا هذا التخفي وهو في هذه المكانة؟! هل جزع النجاشي أو خاف على ملكه أو على نفسه؟! ولماذا أعلن جعفر بن أبي طالب أمر الدعوة دون مواربة ولا مداهنة، بينما أخفى النجاشي أمر إيمانه؟!
وحيال هذا الوضع، فإن الموقفين مختلفان، فقد كان لجعفر بن أبي طالب وظيفة دعوية، وللنجاشي وظيفة أخرى مختلفة عنه، وكان من وظيفة جعفر بن أبي طالب كرئيس للوفد الإسلامي أن يعرِّف الإسلام كما هو؛ حيث كل كلمة من كلماته ستحسب على الإسلام، فلم يكن هناك مجال للتورية أو الإخفاء، حتى وإن فقد جعفر حياته؛ فالموازنة كانت محسوبة، أما النجاشي فلم يكن محسوبًا بعد على الإسلام والمسلمين، فكان الأمر هنا يقاس من وجهة نظر أخرى، هل الأفضل للإسلام والمسلمين أن يظهر النجاشي إسلامه أو أن يخفي إسلامه؟!
وكانت الإجابة أنه لو أظهر النجاشي إسلامه لاقتلعه الشعب النصراني من مكانه، وليست هذه هي المعضلة، إنما المعضلة ماذا يحدث لو تم ذلك؟ والإجابة أيضًا -ولا شك- كان سينتهي دور المكان الآمن الذي يحتفظ بكوكبة المسلمين إلى حين قيام دولة لهم في مكان آخر، أما إن كتم النجاشي إيمانه فإنه سيحتفظ بمكانه غالبًا، وفي هذا ما فيه من توفير أقصى حماية للمؤمنين هناك.
إذن كانت الوظيفة الدعوية لجعفر تقتضي أن يعلن إسلامه بوضوح، في حين كانت تقتضي الوظيفة الدعوية للنجاشي أن يكتم إسلامه بحذر، وكل ميسر لما خلق له.
وما كان من أمر فقد عاش المسلمون فترة طويلة في رعاية النجاشي رحمه الله، وذلك منذ العام الخامس من البعثة منذ بداية الهجرة الأولى إلى الحبشة، وحتى العام السابع من الهجرة النبوية، أي قرابة خمس عشرة سنة، ما قصر فيها النجاشي في حقهم مرة، وقد عبرت عن ذلك أم سلمة -رضي الله عنها- فقالت: "وأقمنا عند النجاشي بخير دارٍ مع خير جار".