تربية الصحابة في دار الأرقم بن أبي الأرقم
منهج التربية في دار الأرقم
من أبلغ النماذج الدالة على مدى الحذر الأمني والتربية الأمنية التي كان رسول الله يتبعها مع أصحابه في هذه المرحلة الحرجة من الدعوة، هو تربيته للصحابة الأوائل في دار الأرقم بن أبي الأرقم. وهنا سؤال من الأهمية بمكان ألا وهو: ما المنهج الذي كان رسول الله يربِّي عليه أصحابه في هذه الفترة في دار الأرقم؟
أولاً: كان هذا المنهج صافيًا جدًّا، المصدر الوحيد للتلقي هو القرآن والحديث الشريف لرسول الله ، وبذلك يكون التأسيس متينًا سليمًا نظيفًا صالحًا، لا اضطراب فيه ولا غموض.
ثانيًا: كان المنهج بسيطًا جدًّا، لم تكن هناك تفريعات كثيرة ولا شرائع متعددة.
المنهج النظري
فالمنهج النظري كان يشتمل في الأساس على ثلاثة أمور:
التربية بالعقيدة
أي بناء العقيدة الصحيحة والاهتمام بالجانب الروحي وتعميق البعد الإيماني، فلا بد أن يعرف المؤمنون في هذه المرحلة ربهم جيدًا، لا بد أن يعرفوا رسولهم، لا بد أن يعرفوا كتابهم، ولا بد أن يعرفوا اليوم الآخر بتفصيلاته.
وهذه قواعد أساسية لبناء قاعدة صلبة.
نزلت السور التي تتحدث عن صفات الله وقدرته وعظمته وجبروته ورحمته وتتحدث عن كونه وخلقه وإعجازه، الكثير من السور تناول هذا المجال مثل سورة الأنعام، ونزلت السور التي تتحدث عن يوم القيامة بتفصيلاته، مثل سور التكوير والانفطار والانشقاق والقارعة والحاقة والقيامة وق وغيرها، ونزلت السور التي تتحدث عن الجنة والنار مثل الواقعة والدخان والنبأ والرحمن.
التربية بالأخلاق الحميدة
أي تعميق القيم الأخلاقية في المجتمع المسلم، وتزكية النفوس، وتطهير القلوب من المعاصي والآثام، وتعظيم مكارم الأخلاق وربطها دائمًا برضا الله وبالجنة.
فخرج المسلمون من هذه المرحلة وهم يعظمون الصدق والأمانة والكرم والعدل والمروءة والرحمة والعفة وطهارة اللسان والعين والأذن وكل الجوارح.
وهذه أمور لا تصلح أمة بغيرها، حتى قصر رسول الله دعوته عليها فقال: "إِنَّمَا بُعْثِتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ".
التربية بالتاريخ
أي قصص السابقين من الصالحين والفاسدين، قصص الأنبياء وماذا فعل معهم أقوامهم، وماذا كان رد فعل المؤمنين، وكيف كانت النتيجة في النهاية.
أمر في غاية الأهمية في هذه المرحلة؛ لأن لله سننًا لا تتبدل ولا تتغير، نراها في القديم ونراها في الحديث وستكرر في المستقبل، فدراسة التاريخ تجعلك وكأنك ترى المستقبل، وهي نعمة كبيرة لأهل الدعوة، لذلك نجد أن هذه الفترة، أو الفترة المكيّة عمومًا قد حفلت بالسور المليئة بالقصص مثل الأعراف والشعراء وهود والقصص وسبأ والنمل وغافر وغيرها. وهو درس لا ينسى لمن أراد أن يبني الأمة بناءً راسخًا.
كان هذا هو الجانب النظري من المنهج النبويّ في تربية الصحابة.
المنهج العملي
أما المنهج العملي فكان يشتمل أيضًا -في رأيي- على ثلاثة أمور رئيسية ومعها أمور أخرى:
التربية بالصلاة
الصلاة في دين ربنا سبحانهفالصلاة: هي عمود الدين ومن أقامها فقد أقام الدين ومن هدمها فقد هدم الدين، ومن أوائل أيام الدعوة، والصلاة مفروضة على المسلمين، ولكنها كانت ركعتين قبل الشروق وركعتين قبل الغروب، ولم يتم فرض الخمس صلوات إلا في حادث الإسراء والمعراج في أواخر الفترة المكية.
التربية بقيام الليل
فقيام الليل هو أمر مهم جدًّا في بناء الداعية الصادق، والمسلم المخلص، لدرجة أن الله فرضه على المؤمنين عامًا كاملاً متصلاً، حتى تفطرت أقدامهم، ثم جعله الله بعد ذلك نافلة، وهؤلاء الذين أسلموا في العام الأول هم الذين حملوا الدعوة تمامًا على أكتافهم، فمدرسة الليل من أعظم المدارس الإيمانية، وأولئك الذين حملوا الدعوة بعد هذا العام ما كانوا يتركون القيام أبدًا مع أنه قد أصبح نافلة.
التربية بالدعوة إلى الله
فالدعوة إلى الله كانت مهمة جدًّا للتعريف بهذا الدين ولضم أفراد جدد، وكانت مهمة الدعوة ملقاة على عاتق كل المؤمنين، كُلٌّ بحسب الدوائر التي يستطيع أن يصل إليها، وكانوا بالطبع يبدءون بأهلهم، فمعظم المتزوجين جاءوا بزوجاتهم، وبذلك تم بناء الكثير من الأسر المسلمة في أول أيام الدعوة، وكان لهذا الأمر أعظم الأثر في استمرار المسيرة بثبات.
هل استطاعت قريش أن تكتشف أمر الدعوة في تلك الفترة؟
الواقع أنه مع كل الحذر والاحتياط إلا أن قريشًا اكتشفت الأمر، فشاهدت بعض المسلمين يصلون صلاة لم يعتادوها، فعرفت أنهم على دين جديد، شاهد رجل كان يجلس مع العباس عم الرسول -وكان العباس مشركًا في ذلك الوقت- شاهد رسول الله يصلي هو وزوجته السيدة خديجة رضي الله عنها، فسأله عن ذلك، فقال العباس: إنه يزعم أنه يأتيه الوحي من السماء.
وكذلك شاهد أبو طالب ابنه عليًّا ورسول الله يصليان، ولا شك أن هناك بعض القبائل قد شاهدت أبناءها وهم يصلون أو يقرءون القرآن الكريم، ولكن سبحان الله! مع كل هذه المشاهدات، ومع كل هذا الإدراك لأمر الإسلام لم تعترض قريش بالمرة في هذه المرحلة، بل لم تُعِرْهُ أي اهتمام، والمرء قد يتعجب لذلك عندما يرى حال قريش بعد ذلك عند إعلان الدعوة، لكن هذا الشيء طبيعي تمامًا، فقريش لا مانع عندها من أن يعبد كل إنسان ربه الذي يريد في بيته، وكانت قريش ترى رجالاً قبل ذلك على هذا المنهج فلا تهتم بهم أمثال أمية بن أبي الصلت وزيد بن عمرو بن نفيل وكانوا من الحنيفيين، أو ورقة بن نوفل وكان نصرانيًّا.
لكن أن يجاهر الدعاة بدعوتهم ويدعون إلى تسفيه الأصنام والقوانين الوضعية التي وضعها أهل مكة وبدلوا كلام الله بها، فهذا ما لا تريده قريش. إن مبدأ قريش الواضح كان "دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، أما أن يأتي دين يتدخل في كل صغيرة وكبيرة في منظومة الأرض، وفي حياة الإنسان والمجتمع فهذا ما ترفضه قريش بالكُلِّيَّة.
إذن في هذه المرحلة ترك القرشيون المسلمين دون تعليق، ولكن في المرحلة القادمة، وبعد ثلاث سنوات من الدعوة السرية، سيجهر رسول الله بدعوته في وسط مكة، ويعلن توحيده لله رب العالمين، ونبذه للأصنام والأوثان.
تُرى، ما الذي سيفعله رسول الله ؟ وما ردُّ فعل أهل مكة؟ وكيف سيحاربون الدعوة؟ وما ردُّ فعل المؤمنين؟