معالم على طريق الهجرة
في عمر الزمن أيام حاسمة، تمضي ولكنها تترك على صفحه الوجود أثرًا عميقًا، كُتب لها أن تغيِّر من مجرى التاريخ، وتصحح من أوضاع الحياة. ويوم الهجرة يومٌ ميمون أغر، لا يُنسى مهما تعاقبت الأيام، وتوالت السنون. وكيف يُنسى يوم فرّق بين الحق والباطل، وصدع بين النور والظلام، وفتح للدنيا عصرًا مجيدًا تزهو به، وتاريخًا حافلاً بالبطولات الرائعة والمثل العليا؟!
وقد استحق هذا اليوم من تقدير المسلمين له ما جعلهم يعتبرونه بداية تاريخهم في هذه الحياة، فلم يؤرخوا بميلاد نبيهم، ولا بمبعثه، وإنما أرخوا بهجرته؛ لما تحمل هجرته من معانٍ، وتحدد من معالم، وتوضح من أهداف..
ليست الهجرة مجرد سفر من مكة إلى المدينة، فكم في الدنيا من أسفار أطول مدى وأبعد شُقَّة!! وليست الهجرة مجرد تحول من مكان إلى مكان، فما أكثر المهاجرين الذين تزدحم بهم طرق الأسفار من وطن إلى وطن؛ ابتغاء ثروة أو طلبًا للراحة أو فرارًا من ضيق! إنما الهجرة إيمان وفداء، وحب وإخاء.
إيمان يتمثل في هذه الساحة الحرجة، التي أحس فيها الرسول الكريم وصاحبه أبو بكر بالمشركين يحيطون بالغار الذي يختبئان فيه، إحاطة السوار بالمعصم، يقول أبو بكر: نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار وهم على رءوسنا، فقلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدمه لرآنا! فماذا قال الرسول الكريم؟ قال والإيمان بالله يملأ نفسه، والثقة بنصر الله تغمر جوانحه: "يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما". والقرآن الكريم يصور هذا الإيمان المضيء في حلكة هذه اللحظة العصيبة، فيقول تعالى: {إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40].
والهجرة فداء كريم، يبدو واضحًا في مبيت علي -رضي الله عنه- ليلة الهجرة في فراش الرسول، وهو يعلم أن حول الدار جموعًا متكاثرة قد بيتت الشر ودبرت الغدر، توشك أن تقتحم الدار فتقتل النائم! بات عليٌّ على فراش الرسول قرير العين، وهو يعلم أن بالباب سيوفًا تهتز في سواعد أصحابها، تريد أن تخالط بدن النائم فتمزق لحمه وعظمه!
في الهجرة تتجلى عاطفة الحب الكريم لقائد الدعوة صلى الله عليه وسلم وافتداؤه بالنفس، وذلك أن أبا بكر حين انطلق مع الرسول إلى الغار، جعل تارة يمشي بين يديه وتارة يمشي خلفه، فقال له الرسول: "ما لك يا أبا بكر؟" فقال: يا رسول الله، أذكر الطلب فأمشي خلفك، وأذكر الرصد فأمشي أمامك. فلما انتهيا إلى الغار قال: مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ الغار -أي أتأكد من خلوِّه من كل ما يؤذيك- فاستبرأه، ثم قال: انزل يا رسول الله. فنزل صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يقول له: "إنْ أُقتل فأنا رجل واحد من المسلمين، وإن قتلتَ أنت هلكت هذه الأمة"
في الهجرة يتجلى الإخاء الجميل والحب في الله بين المهاجرين والأنصار؛ فقد آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بينهم، فوجد المهاجرون من الأنصار قومًا كرماء أفسحوا لهم صدورهم قبل أن يفسحوا لهم دورهم. وإن الحب في الله هو الذي جعل هؤلاء الأنصار {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].
تلك مبادئ خالدة ومُثُل عليا تنبثق عن الهجرة، وإنها مشاعل على الطريق تحدد للمسلمين هدفهم ليمضوا إلى غايتهم في صدق وجدٍّ. وجديرٌ بنا ونحن نقف على مفترق طريق زمني نودع عامًا ونستقبل عامًا، أن نحاسب أنفسنا حسابًا دقيقًا صريحًا، وأن نطرح عليها هذا السؤال: ماذا قدمنا لديننا؟ وهل حركنا خُطَانا على طريق العمل الجاد لإفساح المجال أمام هذا الدين؛ ليأخذ طريقه إلى تجديد ما بلي من أمر المسلمين، وإلى قيادة البشرية، وإنقاذها مما تردت فيه؟!
أخشى أن يكون سعينا مجرد خطب تلقى، وكلمات تكتب، وتصريحات تطلق، ومؤتمرات تعقد هنا وهناك. ثم يتحول كل هذا إلى فقاقيع مليئة بالهواء، لا تلبث أن تنفثَ ما بها، ثم تعود كأن لم تكن!!
هل آن للمسلمين أن تتحول الهجرة في حياتهم إلى عمل نافع وسلوك راشد؟ فيهاجروا من دنيا التخلف والتفرق والضعف إلى حياة التقدم والوحدة والقوة؟ يومئذٍ تعلو رايتهم، وتسمو مكانتهم. {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الروم: 4، 5].