عبقرية محمد صلى الله عليه وسلم العسكرية
كثير من العظماء والعباقرة الذين أنصفوا الإسلام ونبيه الكريم، ليسوا من العرب أو المسلمين.. بل من الغربيين أنفسهم (غير المسلمين) وبعضهم من الغلاة والمتطرفين المعروفين بكراهيتهم للحضارة الإسلامية، والمشهورين بعداوتهم للإسلام وأهله! أمثال: عالم اللغات الشرقية المستشرق الإنجليزي البروفيسور هامفري بريدو 1648-1724م (H.prideaux)، الذي اعترف -رغم أنفه- في كتابه "حياة مُحمّد" (باريس 1699م) - بالصفات السامية لمُحمّد وعظمة أعماله، إنه يؤكد أن مُحمّدًا طوال فترة بعثته "امتاز بشجاعة وفطنة عقله، وبدرجة عالية من المجد؛ مما جعله أعظم القادة الذين عرفهم التاريخ، وقد أنشأ إمبراطورية في أربعة وعشرين عامًا امتدت لتشمل المناطق التي تحتلها الإمبراطورية الرومانية لمدة خمسمائة عام بلْ وأكثر منها، وقد رأينا تلك المملكة الواسعة استمرت لقرون عديدة وهي في أوج عظمتها، وقد رأينا كثيرًا من الإمبراطوريات والممالك الإسلامية التي لا تُقارن بغيرها في الامتداد والسيطرة لمدة طويلة".
كذلك المفكر الأيرلندي "المتطرف" أدموند بيرك 1729-1797م (Edmund Burke)، الذي أكد "أن القانون المُحَمَّديَّ قانونٌ ضابطٌ للجميع من الملِك إلى أقل رعاياه، وهو قانونٌ نُسِجَ بأحكم نظام حقوقيّ، وأعظم قضاء علميّ، وأعلم تشريع عادل، لم يسبق قط للعالم إيجاد مثله".
ويعد المستشرق الإنجليزي مارجليوث 1858-1940م (Margoliouth) الأكثر عداءً للإسلام ونبيه، ومع ذلك نراه يقول في كتابه (محمد ونهضة الإسلام): "إذا نحن قارنّا بين الوحي القرآني وبين ما في أيدينا من كتب مقدسة، سندرك على الفور أن الإسلام وحده هو الدين الحقيقي".
ومعاصره المستشرق اليهودي المجري جولد زيهر 1850-1921م (joldziher) إذْ يقول في كتابه (العقيدة والشريعة في الإسلام): "كان محمدٌ يريد إقامة دين الله الواحد كما جاء به إبراهيم، كما أنه بوجه عام كان مُصدّقًا لما سبق أن أوحاه الله لمن تقدّمه من الرسل والأنبياء؛ فمحمد كان بلا شك أول نبيّ مصلِح حقيقي من الوجهة التاريخية".
كذلك المستشرق اليهودي المعاصر برنارد لويس L.pernard نصير الحركة الصهيونية، وشديد العداء والافتراء على المسلمين ودينهم وقضاياهم الوطنية والقومية، وشديد الاستعداء لصانع القرار الأمريكي ضد الإسلام وأُمته.. إلا أن ذلك كله لم يمنعه من أن يعترف للإسلام بالتميز كدين ودولة، وبالسماحة في الانتشار السلمي، وبالعدل الذي تميز به الحكم الإسلامي مع الشعوب غير المسلمة، فيشهد L.pernard أن: "مؤسِّس المسيحية نادى أتباعه: أن أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله"، أمَّا مؤسِّس الإسلام فقد جعل من نفسه قسطنطين (274-337م)، ففي حياته أصبح المسلمون جماعة سياسية ودينية، كان الرسول سيدها المطلق، يحكم أرضًا وشعبًا، ويقضي بين الناس، ويجمع الضرائب، ويقود الجيوش، ويسيِّر الدبلوماسية، ويخوض الحرب... وبينما كان شيخ القبيلة يحتل منصب الرئاسة على أساس الموافقة الطوعية للقبيلة، وهي موافقة يمكن إلغاؤها، فإنَّ محمدًا جاء إلى الحكم على أساس من الامتياز الديني المطلق، واستمد سلطته ليس من الطرف المحكوم، بلْ من الله".
عظمة نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم
الملاحظ في شهادة الغربيين أنهم كثيرًا ما يركِّزون على أزماتهم الاجتماعية والنفسية ومشاكل الحضارة الغربية؛ لذلك لجئوا إلى سيرة "نبي الإسلام" للبحث عن حلول لمعاناتهم، وإنقاذ مجتمعاتهم من الضياع والانهيار. وبالفعل فقد وجدوا أن الإسلام وحده هو القادر على حل معضلات حضارتهم، واكتشفوا أن الخروج من مشاكلهم المستعصية يكمن في قوانين الإسلام وشريعته العالمية، وأيقنوا أن سيرة محمد وأقواله وأفعاله هي الملاذ الآمِن، وشاطئ النجاة، ومرفأ السلامة.
هذا، وقد شَهِد كبار الزعماء والقادة ورجال السياسة الغربيين على عظمة نبي الإسلام، ويأتي على رأس هؤلاء القادة: نابليون بونابرت 1769- 1821م ( Napoleon Bonaparte) فقد أفصح في مذكراته عن إعجابه بعبقرية نبي الإسلام، ووصفه بأنه أعظم قائد عرفه التاريخ. كما أشاد بونابرت بالتشريع الإسلامي، فكتب في الباب الرابع من رسائله، يقول: "أرجو ألا يكون قد فات الوقت الذي أستطيع فيه أن أُوحِّد جميع الرجال العاقلين والمثقفين في الدولة، وأن أُنشئ نظام حكم متناسق، مؤسَّس على مبادئ القرآن، التي هي وحدها الصادقة، والتي يمكنها أن تقود الناس إلى السعادة، بعيدًا عن (المسيحية) التي تبشِّر فقط بالعبودية والتبعية".
بطولات الرسول صلى الله عليه وسلم
هذه المذكرات الشخصية لبونابرت -التي أُفرِج عنها أخيرًا، والتي تقع في حوالي 300 صفحة- كشفت عن إيمانه بالدين الإسلامي، بلْ إنه دعا الناس إلى فهمه والاستفادة من توجيهاته الإلهية.
ونحن لسنا بصدد مناقشة موضوع إسلام بونابرت الذي ما زال يشهد جدلاً بين الغربيين أنفسهم، لكن نحب أن نتناول جانبًا مما سجّله هذا القائد العسكري التاريخي عن بطولات الرسول وعبقريته العسكرية.. يقول بونابرت: "إن الرسول محمدًا هو أول من أحدث تغييرًا ثوريًّا في العقيدة العسكرية، فجعل أتباعه يقاتلون تحت راية الدين، وإنه أول من أوجد مفهوم (الأُمَّة Nation)، لتحلّ محل الولاءات القبلية والعائلية الصغيرة".
ويرى بونابرت أنه "بدون عبقرية ورؤية الرسول محمد العسكرية الفذة ما كان ليبقى الإسلام، ويصمد وينتشر بعد وفاته. ويصفه -أيضًا- بأنه أول جنرال عسكري محنَّك first insurgent في الإسلام، وأنه لولا نجاح الرسول محمد كقائد عسكري، ما كان للمسلمين أن يغزوا الإمبراطوريتين الرومانية والفارسية".
تغيير العقيدة العسكرية
يعزو "بونابرت" نجاح الرسول في إحداث تغيير ثوري في العقيدة العسكرية لما كان معروفًا وسائدًا في جزيرة العرب؛ لإيمانه بأنه مُرسَل من عند الله. ويشير إلى أنه وبفضل ذلك نجح في إيجاد أول جيش نظامي عربي قائم على الإيمان بنظام متكامل للعقيدة الإيديولوجية (الدين الإسلامي)، وبمفاهيم مثل "الحرب المقدسة" و"الجهاد" و"الشهادة" من أجل الدين، قدمها أولاً واستخدمها الرسول محمد قبل أي شخص آخر".
ويقول بونابرت: "إنّ مُحمّدًا الرسول كان نموذجًا ناجحًا لما تقوم عليه إستراتيجيات القادة في العصر الحديث، وتوفرت لتلك الإستراتيجيات ظروف مكَّنت من نجاح الرسول في نشر الإسلام في الجزيرة العربية".
مفهوم الأُمة المؤمنة
يرى "بونابرت" في الدين الإسلامي نظامًا متكاملاً حلّ بنجاح مذهل محل ما كان موجودًا من نظم اجتماعية وسياسية واقتصادية متخلفة في جزيرة العرب، فأوجد الرسول مفهوم الأُمة، "الأُمة المؤمنة" Gods community of believers لتحلّ محل الولاءات القبلية والعائلية الصغيرة.
ويذهب إلى أن الرسول نجح في بناء منظومة عسكرية للقيادة والسيطرة للمرة الأولى في التاريخ العربي، وأن مُحمّدًا الرسول أوجد للمرة الأولى في التاريخ مفهوم "الحرب النفسية" التي لم تكن معهودة من قبل! ويؤكد أن الرسول نجح في خلق منظومة عسكرية متطورة كان هو شخصيًّا محورها الأساسي، إضافةً إلى خلق هوية جديدة لا تفرِّق بين المواطن والمقاتل في إطار مفهوم "المساواة".
تنفيذ أوامر الله
يشير "بونابرت" إلى أن الرسول مُحمّدًا نجح في إقناع أتباعه أنهم ينفِّذون أوامر الله في الأرض، وأنهم جند الله، وكانت تلك المرة الأولى في التاريخ التي يعتقد ويؤمن فيها جيش نظامي أنه ينفذ أوامر الله في الأرض، ومن هنا تطور مفهوم "الحروب المقدسة". وترى الدراسة أن الرسول نجح في جعل "الدين Religion" أهم مصدر للوحدة بين جنوده.
كما يرى "بونابرت" أن نجاح الرسول في إقناع المقاتلين بالتضحية بحياتهم من أجل نصرة هذا الدين جعل المقاتِل المسلم لا يهاب الموت؛ إيمانًا منه بتمتعه بالجنة بعد وفاته -كما تقول تعاليم الدين الإسلامي- مشيرًا إلى أن "الجهاد في الإسلام جوهره الكفاح والتغلب على المصاعب من أجل تحقيق السعادة".