قدوتنا الأعظم
كلما خارتْ قوايَ وظننتُ أن الاستسلام للتيار أجدى؛ رجعتُ بروحي وعقلي إلى سيرة القدوة الأعظم صلاة الله عليه وسلامه، فوقفتُ وقفةَ الخشوع والإجلال تجاه سنينَ من حياته الشريفة قضاها في معالجة أخلاق قومه العرب وإعدادهم لحمل مشعل الفضيلة والهدى والسير به في أقطار الدنيا؛ وما هي إلا سنوات قلائل حتى كانت دعوةُ الإسلام أعزَّ دعوة تتحرك بها الألسنة، وحتى كانت الشعوب تتجرد من عقائدها وعباداتها، بل من ألسنتها وعاداتها، لتدخل تحت لواء الإسلام وتنادي بكلمة "حيَّ على الفلاح !" في آفاق جديدة من آفاق الأرض.
أمام جبل وغار حراء
كان مِن أول ما اشتهيتُ أعرفه –يومَ دخلتُ مكة– جبل حراء الذي خُوطِب عليه سيد الخلق صلى الله عليه وسلم بوحي الحق جلَّ سلطانه، ودارُ الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي التي كانت مختبأ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى أن بلغوا أربعين، فكان منهم صفُّ الجهاد الأول في سبيل إعلاء كلمة الله عزَّ وجل.
وقفت من جبل النور على قلة شامخة زَلوج، وأرسلتُ بصري في الآفاق، فإذا جبال خالية من الناس، بعيدة عن ضوضائهم، مستريحة من دسائسهم وشرورهم: أمَرَها الله أن تكون فكانت، ولا تزال على أمرها الله به من غير تبديل أو تعديل؛ إلى أن يأمرها الله بالزوال فتزول.
وتشرَّفتُ بدخول الغار المبارك، ثم خلوتُ بنفسي بعيداً عن أصحابي أتأمل كيف أن روح خاتم الأنبياء وسيد أولي العزْم كانت من السَّعَة بحيث ترجو الله أن تعمَّ كلمةُ لا إله إلا الله" جميعَ أقطار الدنيا، وأن تعلوَ أرواحُ سكان تلك الأقطار من حضيض العبودية للبشر أو الجمادات إلى مستوى التوحيد الخالص الذي لا يليق بعقول البشر ونفوسهم غيره، وأن تتحوَّل أمم الأرض عن خرافاتها وأكاذيبها وخساساتها وحِيَلها فتكون بالإسلام أمةَ صدقٍ ورحمة وإيثار وعمل وجهاد وإ صلاح .
في هذا الغار هبط الوحيُ الإلهي على قلب عبد الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ومن هذا الغار انتشر نورُ الهدى، فاستنارت به قلوب أمم لا عداد لها، وسيدخل هذا النور قلب كل ابن أنثى إذا استطاعت أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن تتأسَّى به وتصغي إلى صوته فيما أمر به من معروف وما نهى عنه من فساد .
أمام دار الأرقم بن أبي الأرقم
ودخلتُ دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي الواقعة على يسار الصاعد إلى الصفا، فقلت في نفسي: لو شاء الله أن يُلين لدعوة عبده محمد قلوبَ أهل الأرض جميعاً لأجابوا نداءه في بضع سنين بل في ليال قلائل، ولكنه درسٌ من سيرة سيد الخلْق صلى الله عليه وسلم يجب على كل مسلم أن يتعلمه فيعلم منه أن الحصاد لا يستحقه إلا الذي زرع، وأن النتائج لا يحصل عليها إلا مَن قام بمقدماتها.
وويلٌ لمن يتقاعس عن الدعوة إلى الخير بحجة أن أهل هذا الزمان يصدُّون عن الاستجابة لها، وهو يتجاهل أن ما لَقِيَه قدوتُنا الأعظم صلى الله عليه وسلم من العقبات في سبيل دعوته لا يُعدُّ ما يلقاه دعاة هذا الزمان في جانبه شيئاً مذكورا .
ماذا علينا ؟ وماذا يجب أن نكون ؟
ألا فلْيُحاسبْ ورثةُ الأنبياء في عصرنا أنفسهم وليقولوا لنا ما هو الأذى الذي لقوه في سبيل الله، وما هو البذل الذي بذلوه لإعلاء كلمة الله، وأيُّ خُلُق من أخلاق محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه تخلَّقوا به ليكونوا مثالاً حسناً للإسلام يُغري الأغيار بالإقبال عليه والإذعان له ؟
لم تسيءْ أمةٌ إلى تاريخها، ولم تَعْشَ أبصارُ شعبٍ عن سيرة عظمائه، كما أسأنا نحن إلى تاريخنا، وكما عميتْ أبصارُنا وبصائرُها عن مواقف العظمة في سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم وحياة أكابر المهتدين بهديه من الصحابة والأئمة والمجاهدين. ولعل هذه الثغرة في سور قلعتنا أوسعُ مكان تسرَّب إلينا منه الضعفُ، وأصابنا منه الوهنُ والانحلال.
نشكو إدبار النصر عنا، ولا نحبُّ أن يمرَّ ببالنا شبحُ المسئولية التي تتوجه علينا من هذا الجانب. نذكر بالفخر والإعجاب انتشار الإسلام في الصدر الأول انتشاراً يكاد يكون (معجزة)، وإذا قال إنكليزي مسلم كالمستر مرمديوك بكتول إن انتشار الإسلام الآن بمثل تلك السرعة ممكن إذا دعوتم إليه بسيرتكم وأخلاقكم؛ رجونا أن ينتهي كلامه بسرعة؛ ونهضنا معاهدين الشيطان على أن نبقى عند حسن ظنه فينا.
كلنا نقول إن محمداً صلى الله عليه وسلم هو قدوتنا الأعظم؛ وكلنا نقرأ في كتاب الله عز وجل {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة} [الأحزاب: 21]، وكلنا نعلم أن الموانع الواقفة اليوم في سبيل القرآن لا تعدُّ شيئاً مذكوراً في جانب الموانع التي كانت واقفة في سبيله يوم كان محمد صلى الله عليه وسلم يجتمعون في دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي عند الصفا يعاهدون الله على الثبات حتى النهاية. وأقرب ما نقارن به حال اليوم وحال الأمس أننا الآن ثلاثمائة مليون يتلون القرآن (كان ذلك سنة 1349هـ/ 1931م)؛ وأنهم كانوا يؤمئذ أقل من أربعين.
ولكن أين الأخلاق ؟