الرسول وخلق العفو عن الأسرى
على الرغم من شيوع الرق والاستعباد في أيام الجاهلية، وفي الفترات التي عاصرت ظهور الدين الإسلامي، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بمنهج جديد تمامًا على العالم آنذاك، فقد جاء بفكْرٍ رفيقٍ يدعو إلى إعتاق العبيد، وفك الأسرى، والزهد في الاحتفاظ بهم، وهو ما لم يكن معروفًا في هذه الآونة البتة، بل إنه غير معروف في زماننا الآن! وإلا فمن ذا الذي يخبرنا عن دولة تحثُّ رعاياها على إطلاق الأسرى هكذا بغير فداء؟!
هذا هو الفكر الذي جاء به رسول الرحمة صلى الله عليه وسلم، وما أكثر الأقوال التي قالها في هذا المعنى، وما أكثر النصائح التي وجَّهها إلى أمته يدعوها ليس فقط إلى عتق الأسرى بل إلى بذل الجهد في ذلك، حتى أصبح هذا العتق قُرْبةً إلى الله تعالى، يفعله المسلم لينال به رضاه سبحانه!
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فُكُّوا الْعَانِيَ، وَأَطْعِمُوا الْجَائِعَ وَعُودُوا الْمَرِيضَ». وسأله رجل يومًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي عَمَلًا يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، فَقَالَ: «لَئِنْ كُنْتَ أَقْصَرْتَ الْخُطْبَةَ لَقَدْ أَعْرَضْتَ الْمَسْأَلَةَ أَعْتِقْ النَّسَمَةَ وَفُكَّ الرَّقَبَةَ» فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَلَيْسَتَا بِوَاحِدَةٍ قَالَ: «لَا إِنَّ عِتْقَ النَّسَمَةِ أَنْ تَفَرَّدَ بِعِتْقِهَا وَفَكَّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي عِتْقِهَا..». وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ».
ولم يكن حثُّ الرسول صلى الله عليه وسلم على العفو عن الأسرى، والمنِّ عليهم أمرًا خياليًا يُجمِّل به صورة المسلمين، بل كان أمرًا واقعيًا أفرز مجموعة من المواقف يعجز المرء عن استيعاب عظمتها، وأجمل ما فيها أنها لم تكن مواقف عابرة حدثت نتيجة ظروف خاصة، أو تحت ضغوط معينة، إنما كانت منهجًا ثابتًا، وسُنَّة ماضية، وتشريعًا خالدًا استحال أن يجود الزمان بمثله. ولنمر سريعًا على بعض الأمثلة التي تظهر رحمته وعفوه صلى الله عليه وسلم عن أسرى أعدائه، وذلك من خلال المطالب الآتية:
أسيرا سرية نخلة:
أسر المسلمون في هذه السرية – وكانت في رجب من السنة الثانية من الهجرة - اثنين من المشركين هما أول أسيرين في الإسلام؛ الحكم بن كيسان وعثمان بن عبد الله، فأما الأول – الحَكَم - فنظرًا لما وجده من المعاملة الكريمة فإنه أسلم وحَسُنَ إسلامُه، وأقام عند رسول الله حتى استُشهِدَ يوم بئر معونة في السنة الرابعة للهجرة، وأما عثمان بن عبد الله فلحق بمكة فمات بها كافرًا..
ومع أن هذين هما أوَّل أسيرين يظفر المسلمون بهما بعد طول العناء والتعذيب من مشركي مكة الذين ينتسب لهم هذان الأسيران؛ إلا أن ذلك لم يكن دافعًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمسَّهما بأذى، بل على العكس كان الإكرام والصفح عنهما.
ولهذا الموقف دلالات كبيرة جدًا، حيث إنه وضَّح من البداية سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم في التعامل مع الأسرى، ومع أن هذا كان من الممكن أن يُطَمِّعَ فيه المشركون إلا أنَّها سياسة الرحمة التي لا بديل عنها في الرؤية النبوية، وقد ازداد هذا المعنى رسوخًا عندما رأينا رؤيته صلى الله عليه وسلم للتعامل مع أسرى بدر بعد أقل من شهرين من سرية نخلة.
أسرى غزوة بدر:
كانت غزوة بدر هي المعركة الأولى بين المسلمين والمشركين، وقد تم النصر فيها للمسلمين مع قلة عددهم وعُدَّتهم؛ بل إنهم مع هذا النصر أسروا من المشركين سبعين، واستشار الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنه في شأن هؤلاء الأسرى، وماذا يفعل معهم؟ يحكي ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيقول: قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه قوةً لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عَضُدًا، فقال رسول الله: «ما ترى يا ابن الخطاب؟» قال: قلت: والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تُمكِّنني من فلان - قريب لعمر - فأضرب عنقه، وتُمكِّن عليا من عقيل فيضرب عنقه، وتُمكِّن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوداة للمشركين، وهؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم. فهوى الرسول صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يَهْوَ ما قلتُ – أي عمر رضي الله عنه- وأخذ منهم الفداء.
وعلى الرغم من نزول الآيات بعد هذا الموقف تعاتب النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ بالرفق واللين مع هؤلاء الأسرى في هذا الموقف {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68]، رغم ذلك؛ لم يكن هذا دافعًا لأن يسيء الرسول صلى الله عليه وسلم معاملة هؤلاء الأسرى، أو يُغَيِّر من تعامله معهم بعد أن أخذ قرارًا بإعفائهم من القتل، وقبول الفدية ممن يستطيع منهم، وقد تفاوت مقدار هذه الفدية ونوعها بحسب حالة كل أسير..
فقد أطلق الرسول صلى الله عليه وسلم بعض الأسرى كعمرو بن أبي سفيان مقابل أن يطلق المشركون سراح سعد بن النعمان بن أكال رضي الله عنه، الذي أسره أبو سفيان وهو يعتمر.
ومن الأسرى من كان يفدي نفسه بالمال، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراعي الحالة المادية لكل أسير، فمنهم من دفع أربعة آلاف درهم كأبي وداعة، وأبي عزيز واسمه زرارة بن عمير - وهو أَخٌ لمصعب بن عمير رضي الله عنه - دفعتها أمه، وكانت صاحبة مال وفير، ومنهم من دفع مائة أوقية كالعباس بن عبد المطلب، ومنهم من دفع ثمانين أوقية كعقيل بن أبي طالب، وقد دفعها له العباس، ودفع بعض الأسرى أربعين أوقية فقط.
أما من لم يكن معه مال، وكان يعرف القراءة والكتابة فكان فداؤه أن يُعَلِّم بعض المسلمين القراءة والكتابة؛ فقد روى ابن عباس قال: كَانَ نَاسٌ مِنَ الْأَسْرَى يَوْمَ بَدْرٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِدَاءٌ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِدَاءَهُمْ أَنْ يُعَلِّمُوا أَوْلَادَ الْأَنْصَارِ.
ومن هؤلاء الأسرى مَن مَنَّ الرسولُ صلى الله عليه وسلم عليه بغير فداء مثل: المطلب بن حنطب، وأبي عزة الشاعر، وصيفي بن أبي رفاعة.
وقد أَحسَنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضًا إلى سهيل بن عمرو مع أنه كان من زعماء قريش المعتبرين، إلا أنه لم يشأ أن يهينه أو يُمثِّل به وإن كان قادرًا على ذلك، وقد أراد عمر بن الخطاب رضي الله عنه نَزْعَ ثنيتي سهيل بن عمرو حتى لا يقوم خطيبًا على الرسول صلى الله عليه وسلم في موطن أبدًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا أُمَثّلُ بِهِ فَيُمَثّلُ اللّهُ بِي وَإِنْ كُنْتُ نَبِيّا».
وكان في الأسرى أيضًا أبو العاص بن الربيع ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنته زينب فبعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها عليه حين بنى عليها، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رقَّ لها رقة شديدة، وقال: «إنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيرَهَا، وَتَرُدّوا إلَيْهَا مَتَاعَهَا فَعَلْتُمْ». قالوا: نعم يا رسول الله؛ فأطلقوه، وردوا عليها الذي لها. فكان هذا أيضًا ممن أُطلِقَ بغير فداء.
وكان صلى الله عليه وسلم على استعداد لإطلاق الجميع - كما مرَّ بنا في هذا البحث - من دون فداء لو شفع فيهم المطعم بن عدي الزعيم المشرك المعروف، غير أنه كان قد مات، وقد أشار إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في البخاري عن جبير بن مطعم رضي الله عنه: أن النبي قال في أسارى بدر: «لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ»؛ وذلك لأنه اشترك في نقض الصحيفة التي قاطعت بها قريش بني هاشم، وكذلك أجار النبي صلى الله عليه وسلم في مكة عند عودته من الطائف.
ومن الواضح أنه تم إطلاق سراح جميع من بقي من أسرى بدر خلال أقل من عامٍ من غزوة بدر، ومما يؤكِّد هذا الأمر أن المشركين في أُحُد لم يتفاوضوا على أيِّ أسرى.
أسرى الحديبية:
وهذا من مواقف الرحمة العجيبة في السيرة! قال عبد الله بن مغفل المزني رضي الله عنه: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحُدَيْبِيَةِ فِي أَصْلِ الشَّجَرَةِ الَّتِي قَالَ اللَّه تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ وَكَانَ يَقَعُ مِنْ أَغْصَانِ تِلْكَ الشَّجَرَةِ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيٍّ رضي الله عنه: «اكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» فَأَخَذَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو بِيَدِهِ فَقَالَ: مَا نَعْرِفُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اكْتُبْ فِي قَضِيَّتِنَا مَا نَعْرِفُ قَالَ: اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ فَكَتَبَ: "هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ مَكَّة"،َ فَأَمْسَكَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو بِيَدِهِ وَقَالَ: لَقَدْ ظَلَمْنَاكَ إِنْ كُنْتَ رَسُولَهُ اكْتُبْ فِي قَضِيَّتِنَا مَا نَعْرِفُ فَقَالَ: "اكْتُبْ هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم" فَكَتَبَ، فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ خَرَجَ عَلَيْنَا ثَلَاثُونَ شَابًّا عَلَيْهِمُ السِّلَاحُ فَثَارُوا فِي وُجُوهِنَا فَدَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذَ اللَّهُ تعالى بِأَبْصَارِهِمْ فَقَدِمْنَا إِلَيْهِمْ فَأَخَذْنَاهُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «هَلْ جِئْتُمْ فِي عَهْدِ أَحَدٍ أَوْ هَلْ جَعَلَ لَكُمْ أَحَدٌ أَمَانًا»، فَقَالُوا: لَا فَخَلَّى سَبِيلَهُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الفتح: 24].
فهذا عفو في موقف عجيب، فالمسلمون ممنوعون من دخول مكة، وقريش قد أَعَدَّت العُدَّة لحربهم، ومع ذلك لا يأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم هؤلاء الأسرى رهينة، بل يمنُّ عليهم بغير فداء، ولا يجعلهم ورقة ضغط على المشركين حتى في هذا الموقف الصعب!
إنها الرحمة في أرقى صورها!
وليس هذا فقط، بل – كما مر بنا – فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم نفس الموقف مرة ثانية بعد الصلح، مما يؤكد أنها كانت سياسة عامة، وليست مجرد مواقف نادرة!
ثمامة بن أثال
كان ثمامة بن أثال زعيمًا مشهورًا من زعماء بني حنيفة، وكان قد قرر أن يأتي للمدينة المنورة ليقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسره أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وجاءوا به إلى المسجد النبوي، فماذا كان رد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع من جاء ليقتله؟! إن الرجل الآن أسير، والأسير يجب إحسان معاملته، والقاعدة لا استثناء فيها، ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «أحسنوا إساره»، وقال أيضًا: «اجمعوا ما عندكم من طعام فابعثوا به إليه»، فكانوا يقدمون إليه لبن لقحة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم انظر إلى هذا الحوار الراقي الذي دار بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والرجل الذي جاء ليقتله، فأصبح أسيرًا:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَاذَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟»
فَقَالَ: عِنْدِي يَا مُحَمَّدُ خَيْرٌ إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ.
فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْغَدِ فَقَالَ: «مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟»
قَالَ: مَا قُلْتُ لَكَ: إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ.
فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى كَانَ مِنَ الْغَدِ فَقَالَ: «مَاذَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟»
فَقَالَ: عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ: إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ».
فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ يَا مُحَمَّدُ، وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ كُلِّهَا إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ كُلِّهِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلَادِ كُلِّهَا إِلَيَّ، وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي وَأَنَا أُرِيدُ الْعُمْرَةَ فَمَاذَا تَرَى؟
فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ قَالَ لَهُ قَائِلٌ: أَصَبَوْتَ؟ فَقَالَ: لَا وَلَكِنِّي أَسْلَمْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا وَاللَّهِ لَا يَأْتِيكُمْ مِنْ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
فهذه المعاملة الكريمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم تركت في نفس ثمامة أثرًا طيبًا إلى درجة أنه غَيِّر دينه، وأسلم لله رب العالمين، دون ضغط أو إكراه، بل إن إسلامه وُلِدَ قويًا إلى الدرجة التي دفعته إلى مقاطعة قريش من أجل أنها تحارب رسول الله صلى الله عليه وسلم مضحيًا بذلك بثروة هائلة كانت تأتيه من تجارته معها، ومضحيًا كذلك بعلاقات اجتماعية مهمة مع أشراف قريش.
ابنة حاتم الطائي:
أسرت ابنة حاتم الطائي -وهو الزعيم العربي المشهور- في حرب مع قبيلة طيئ، فجُعِلَت في حظيرة بباب المسجد، فمرَّ بها الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فقامت إليه، وكانت امرأةً جَزْلة؛ فقالت: يا رسول الله هلك الوالد، وغاب الوافد، فامْنُنْ عليَّ مَنَّ الله عليك. قال: «ومن وافدك؟» قالت: عدي بن حاتم. قال: «الفارُّ من الله ورسوله».
ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركها، حتى إذا كان الغدُ مَرَّ بها، فقالت له مثل ذلك، فرد عليها مثل ما قال بالأمس. حتى إذا كان بعد الغد مَرَّ بها وقد يَئِسْتُ، فأشار إليَّها علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن قومي فكلميه، ففعلت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قَدْ فَعَلْت، فَلَا تَعْجَلِي بِخُرُوجٍ حَتَّى تَجِدِي مِنْ قَوْمِك مَنْ يَكُونُ لَهُ ثِقَةً حَتَّى يُبَلّغَك إلَى بِلَادِك، ثُمّ آذِنِينِي». تقول ابنة حاتم الطائي: وأقمت حتى قدم ركب من بلى أو قضاعة، وإنما أريد أن آتي أخي بالشام، فجئتُ؛ فقلتُ: يا رسول الله قد قدم رهط من قومي لي فيهم ثقةٌ وبلاغ. قالت: فكساني، وحَمَلَني، وأعطاني نفقة، فخرجت معهم حتى قدمت الشام.
وهنا وقفة مع هذا الموقف العظيم..
نرى بوضوح في هذا الموقف التعامل الإنساني الرحيم من رسول الله صلى الله عليه وسلم مع هذه الأسيرة؛ حيث لم يَرْضَ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لها أن تخرج منفردة وحيدة، بل طلب منها ألا تتعجل بالخروج حتى تجد من قومها من يكون ثقة فتسير معه، كما نلاحظ في الموقف أيضًا التعاطف من الصحابة الكرام رضي الله عنهم مع الأسرى، فها هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه يشير لابنة حاتم الطائي أن تُكلِّم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوقت المناسب، حتى يَمُنَّ عليها ويطلق سراحها، وهذا ما تمَّ بالفعل، ثم إنها تشهد بنفسها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - لما قدم الوفد الذي وجدت فيها بُغْيَتَها من الأمن والثقة- كساها، وأعطاها ما يحملها، وأعطاها أيضًا نفقةً تكفيها حتى تصل إلى قومها آمنة وفي راحةٍ وسلامة...
وسبحان الذي أَدَّب رسولَنا صلى الله عليه وسلم؛ فأحسن تأديبه!!
كتاب (أخلاق الحروب في السنة النبوية)