أخلاق الرسول في نقض المعاهدات
كما تبين لنا في الصفحات السابقة حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على إتمام المعاهدة وإنفاذها على أفضل ما يكون، وكان الوفاء شيمته في كل معاهداته مع غير المسلمين على الرغم من المخالفات الكثيرة التي اقترفها معاهدوه، ولكن ماذا يحدث لو نَقَض غير المسلم المعاهدة نقضًا صريحًا، وترتب على هذا النقض آثار جسيمة؟ وماذا لو ظهرت قرائن وأدلة تؤكد أن العدو يسعى إلى نقض المعاهدة؟ إن الإجابة على هذه الأسئلة الخطيرة ستكون -بإذن الله- من خلال المطلبين الآتيين:
المطلب الأول: نقض غير المسلم للمعاهدة
الذي عليه العرف في العالم أجمع أنه إذا نَقَضَ طرفٌ ما المعاهدة فإن الطرف الآخر يصبح في حلٍّ مما جاء في هذه المعاهدة، وعليه فلا يُنكَر عليه أن يقاتِل دفاعًا عن حقوقه، أو تأديبًا لمن نكث عهده.
والغريب الذي نراه في السيرة النبوية أنه مع حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على الوفاء بكل معاهداته، إلا أن غالب من تعاهدوا معه نقضوا عهدهم بصورة من الصور! وهذا هو الفارق الجليُّ الواضح بين دين السماء وأديان الأرض، وبين أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخلاق من خالفوه وحاربوه.
لقد تعاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما بينَّا – مع المشركين واليهود والنصارى، وتم نقض العهد من قِبَل المشركين واليهود في حياته صلى الله عليه وسلم، أما نصارى دومة الجندل فقد نقضوا العهد بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، ليتحقق بذلك قول ربنا: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 100] ولأن البحث يتناول الأخلاق النبوية، أي يقتصر على فترة السيرة، فلن نتحدث عن نقض دومة الجندل للعهد، وسنكتفي بالحديث عن نقض اليهود والمشركين لعهودهم.
أولاً: نقض اليهود للمعاهدة:
كما هو معلوم ومشهور تمت معاهدة كبيرة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ويهود المدينة بعد أيام أو شهور قليلة من هجرته صلى الله عليه وسلم. وكانت بنود المعاهدة كثيرة وتنص في مجملها على التعايش السلمي بين الطرفين، وعلى نصرة المظلوم، وعلى الدفاع المشترك عن المدينة إذا تعرضت لهجوم، وخاصة من قريش، وعلى التكافل في أمر الديات والأزمات، إلى غير ذلك من أمر تكفل العيش في سلام للطرفين، ولقد حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على التعامل بالحسنى مع اليهود بكل طاقته إلى الدرجة التي وصلت إلى التهادي وعيادة المرضى والمشاركة في المجالس والبيع والشراء وغير ذلك من أمور الحياة الطبيعية.
وعلى الرغم من هذا التعامل النبيل من ناحيته صلى الله عليه وسلم إلا أن اليهود تنكَّروا لكل ذلك، وأخذوا في ارتكاب الحماقات تلو الحماقات! لقد تطاولوا على الله عز وجل وعلى كتابه، وكذلك على الرسول صلى الله عليه وسلم، وطعنوا في عموم الأنبياء، وأثاروا الشبهات ليلبِّسوا على المسلمين دينهم، وأججوا الفتن بين المسلمين ليحدث الصراع بينهم، وغير ذلك من أمر الفتنة والكيد. إنه ليس يعنينا في هذا المجال أن نقوم بحصر كل ما افتعله اليهود من أزمات، وكل ما أحدثوه من مخالفات؛ على الرغم مما تقدم ذكره من حسن معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم، ومن حرصه الدائم صلى الله عليه وسلم على تقديم الودّ والجدال بالتي هي أحسن، ومراعاة حقوق الجوار. ولو بقي حال اليهود على ما هو عليه لكان الأمر محتملاً ومقبولاً؛ ولكنهم تطاولوا أكثر من ذلك، وما زادهم حلم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا جهلاً، وما زادهم رفقه إلا شدة وعنفًا؛ حتى طَفَّ الصاع، وثقُل الحمل، وبلغ السيل الزُّبى، وارتكبوا من الأمور ما لا يمكن احتماله، ومن ثَمَّ كان هذا نقضًا صريحًا للمعاهدة، يتعذر معه صفح، ويستحيل حياله تجاهل..
لقد خالفت بنو قينقاع مخالفات جسيمة، بدأت برفع مستوى العداء جدًا بعد انتصار المسلمين على المشركين في موقعة بدر، حتى وقفوا يصرِّحون لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم راغبون في حربه، غير خائفين من لقائه عسكريًا. لقد قالوا له، والحقد يأكل قلوبهم لانتصاره صلى الله عليه وسلم على قريش: "يَا مُحَمَّدُ لَا يَغُرَّنَّكَ مِنْ نَفْسِكَ أَنَّكَ قَتَلْتَ نَفَرًا مِنْ قُرَيْشٍ كَانُوا أَغْمَارًا لَا يَعْرِفُونَ الْقِتَالَ، إِنَّكَ لَوْ قَاتَلْتَنَا لَعَرَفْتَ أَنَّا نَحْنُ النَّاسُ وَأَنَّكَ لَمْ تَلْقَ مِثْلَنَا". هكذا يصرِّحون برغبتهم في الحرب والمواجهة، مع أنه كان الأجدر بهم أن يفرحوا بانتصار المسلمين على أهل مكة، فأهل مكة وثنيون، والمسلمون أقرب لليهود منهم، كما أن هناك معاهدة وتحالف بين المسلمين واليهود، ونصر المسلمين يضيف إلى قوة المدينة، وبالتالي إلى قوة اليهود، لكن أفئدتهم المريضة دفعتهم إلى هذا التهور، غير عابئين بما قد يسفر عنه من نتائج وخيمة. ثم تزايد الأمر وتفاقم مع بني قينقاع حين راود بعض تجارهم امرأة مسلمة على كشف وجهها، ثم تحايل جمعٌ منهم على كشف عورتها، فلما صرخت المرأة المسلمة هبَّ لنجدتها رجل مسلم، فقتل التاجر اليهودي، فاجتمع التجار اليهود وقتلوا المسلم، ثم ذهبوا يتحصنون في قلاعهم !
ماذا يجب أن يفعل أي قائد في العالم إزاء هذه التعديات؟!
إن السكوت عليها لهو الهوان الذي لا يقبله حر، ولا ترضاه نفس أبية.
لقد قامت الحرب بين المسلمين ويهود بني قينقاع كما أراد اليهود منذ أيام، فقد كانت موقعة بني قينقاع بعد بدر بأقل من أسبوعين، وانتصر المسلمون، وكادوا أن يقتلوا رجال بني قينقاع لولا أن شفع فيهم عبد الله بن أبي بن سلول، وكان حليفهم قبل إسلامه، ولم تكن قد ظهرت عليه بعد علامات النفاق بوضوح، فقَبِل رسول الله صلى الله عليه وسلم شفاعته، واكتفى بإجلائهم عن المدينة إلى الشام.
ومع كل هذا التطاول من بني قينقاع إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأخذ بني النضير ولا بني قريظة بجريرة بني قينقاع، بل ظل على معاملته الحسنة لهم، ولكن اليهود لم يفقهوا الدرس الذي أخذته بنو قينقاع، واستمروا في تطاولهم على الله ورسوله والمؤمنين، حتى وصل الأمر إلى قمته عندما دبَّرت بنو النضير محاولة لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طريق إلقاء حجر فوق رأسه، ونجا رسول الله صلى الله عليه وسلم من محاولة القتل، فكانت الحرب التي أُجليت بنو النضير على إثرها من المدينة المنورة.
أما بنو قريظة فقد كانت محاولتهم أشد عنفًا وضراوةً، وكانت تهدف إلى قتل واستباحة كل مَنْ في المدينة! وذلك بالتعاون مع قريش والأحزاب لسحق كل المسلمين، كما فصَّلنا آنفًا في مكان سابق في هذا البحث.
إن هذا الجرائم ما كان يستقيم - بأي حال من الأحوال - أن يُسكَتَ عنها، أو يُتغاضَى عن عقاب مرتكبيها.. إنها جرائم حرب من الطراز الأول، ولا تختلف أعراف العالم أجمع في الحكم عليها، ومِن ثَمَّ كان خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتالهم جميعًا، القبيلة تلو الأخرى.
إن المتتبع للسلوك النبوي في التعامل مع اليهود في أثناء زمن المعاهدة، ليجد أوسع درجات كظم الغيظ، بل البرّ والإحسان، لكنَّ النفوس المريضة أبت إلا أن تبحث عن صِدامٍ ونِزَال، ورفضت حياة الأمن والسلام.. وكما قال الأولون: "على نفسها جنت براقش!!".
ثانيًا: نقض المشركين لصلح الحديبية:
بعد كل الوفاء الذي رأيناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعامله مع قريش أثناء الهدنة، وبعد كل هذا الحرص على استمرار المعاهدة إلى المدة التي تم الاتفاق عليها، حدثت من جانب المشركين الجريمة الكبرى، والخيانة العظمى!!
لقد خالفت بنو بكر - وهي القبيلة التي حالفت قريشًا بعد صلح الحديبية ومن ثَمَّ تجري عليها أحكام الصلح كاملة - لقد خالفت الميثاق، ونقضت العهد، وقتلت رجالاً من قبيلة خزاعة المتحالفة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، بل لم تكتف بهذا القتل، ولكن تتبعتهم إلى داخل الحرم المكي، واستمرت في عملية القتل هناك! ثم إن قريشًا لم تقف موقفًا محايدًا في القضية، ولكنها قامت بما هو أشنع من الحياد، إذ أمَدَّتْ بني بكر بالسلاح، بل وقاتلت معهم في داخل الحرم!. فالجريمة مُرَكَّبة، والمخالفة عظيمة، فليس هذا قتيلاً واحدًا قد يُبَرَّرُ قتله أو يُعتَذَرُ عنه، إنما هم عدد كبير من القتلى، بلغ في بعض الروايات عشرين قتيلاً، ثم إن قريشًا شاركت في عملية القتل في تهوُّرٍ ليس له معنى أبدًا غير الكيد لحلفاء المسلمين، وفوق كل ذلك لقد لاذ رجال خزاعة بالحرم المكي الآمن، فاستمرت بنو بكر - وقريش معها - في عملية القتل مخالفين بذلك كل الأعراف والقوانين.. إنها لجريمة شنيعة حقًّا!!
واستنصرت خزاعة رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وكان لابد من موقف جريء عادل تجاه هذه القبيلة المظلومة، وكان لابد من موقف حازم إزاء هذا النقض الصريح للمعاهدة، ومن ثَمَّ كان قرار رسول الله صلى الله عليه وسلم بفتح مكة ونصرة خزاعة.. وليس هناك لوم من أي نوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا القرار الذي اتخذه، بل إن قريشًا نفسها لم تدَّعِ أبدًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خان العهد بقراره الذي اتخذه؛ لأنها تعلم أنها هي التي نقضت العهد وليس هو..
وحتى بعد هذا القرار الذي اتخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لم يغدر بزعماء مكة مع سهولة أن يفعل ذلك، بل إن كبير مكة وزعيمها الأول أبا سفيان قد جاء إلى المدينة المنورة محاوِلاً أن يطيل مدة العقد، ويخرج من هذه الأزمة، فوجدناه يتجول في أنحاء المدينة المنورة، ويروح هنا وهناك، ويخاطب هذا وذاك، يفعل كل ذلك وهو آمن لا يخشى على نفسه، ولا يخاف من أن يُقتل غيلة، أو يُتخذ رهينة، أو يُؤذى بشيء، مع العلم أنه قام بزيارته هذه إلى المدينة وحيدًا دون حماية من أهله، ولا حراسة من جنده!
إن الموقف عظيم فعلاً، وإن الحدث جلل.
هل من الممكن أن يذهب زعيم دولة بنفسه إلى دولة بينها وبينه صراعات وحروب، ويتجول هكذا بحرية، وهو آمن على نفسه وماله؟ وخاصة أن هذه الزيارة تأتي بعد نقض صريح للعهد مع الدولة التي يزورها؟!
هل يمكن أن يحدث ذلك في أي مكان في العالم؟!
إنه حدث في زمان رسولنا صلى الله عليه وسلم!
بل إن قادة الإسلام كانوا حريصين على حماية أبي سفيان في بلدهم من مجرد الإيذاء المعنوي باللسان، وليس الحماية من الإيذاء البدني فقط. فها هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه الوزير الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعظم شخصية في المدينة - بل وفي الإسلام - بعد نبي الله صلى الله عليه وسلم، ها هو يقف مدافعًا عن أبي سفيان من أن يصاب بسوء بألسنة المسلمين، مع أن هؤلاء المسلمين عُذِّبوا وقُهروا على يد أبي سفيان وأتباعه قبل ذلك.. يروي عائذ بن عمرو رضي الله عنه أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَتَى عَلَى سلمان وصهيب وبلال فِي نَفَرٍ فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا أَخَذَتْ سُيُوفُ اللَّهِ مِنْ عُنُقِ عَدُوِّ اللَّهِ مَأْخَذَهَا! فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَتَقُولُونَ هَذَا لِشَيْخِ قُرَيْشٍ وَسَيِّدِهِمْ؟!
إن أبا بكر رضي الله عنه في هذا الموقف لم ينظر إلى ما لاقاه صهيب رضي الله عنه، ولا إلى ما لاقاه بلال رضي الله عنه من عذاب وقهر على يد المشركين في مكة، بل نظر إلى واجب الضيافة، ونظر إلى معاهدة الصلح التي بين الطرفين، ونظر إلى الرحم التي بينهم.. نظر إلى كل ذلك، فكان هذا رد فعله رضي الله عنه.
فهل بعد كل هذا الفكر السِلْمي، والوفاء النبوي النادر يدَّعي أحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعامل بالعنف، ويحب الحرب؟! إن المنصف حقيقةً لن يُرهَق كثيرًا ولا قليلاً في البحث في السيرة عن مواطن حبه صلى الله عليه وسلم للسلام، وإيثاره للرفق، فهذه – والله – واضحة بارزة كالشمس في وضح النهار، وما ذكرناه ليس إلا أمثلة معدودة، وإلا فحصر ذلك يحتاج إلى أسفار ضخمة، ومجلدات هائلة، فيا خيبة مَن غفلت عينه عن رؤية عظمته صلى الله عليه وسلم، ويا خسارة مَن ذهب عمره دون أن يعرفه!!
المطلب الثاني: الخوف من نقض المعاهدة
ظهر جليًّا من خلال ما سبق حرصُ المسلمين الشديد على تجنب القتال وتجنب أسبابه، بل والأخذُ بظاهر ما يقوله الأعداء إن أظهروا السلم، ولو كانوا يُبطِنون الغدر والخيانة، ولكن ماذا لو تيقَّن المسلمون أن عدوهم يسعى سعيًا حثيثًا لنقض المعاهدة، كثبوت مخالفات عسكرية، أوعقد تحالفات معينة، أو غير ذلك من أمور تشير إلى قرب نقض المعاهدة من طرف العدو؟ إن سكوت المسلمين قد يؤدي إلى كارثة عسكرية، وضياع للبلاد والعباد، وفي ذات الوقت فالمسلمون لا يريدون البدء بالنقض، فماذا عليهم أن يفعلوا؟
إن المسلمين في هذه الحالة، وقد اضطُرَّوا للحرب؛ فإنهم لا يندفعون إليها دون ضوابط، بل يلفتوا أنظار عدوهم بوضوح إلى أنهم سيحاربون؛ لكيلا يرتكبوا ما يُوصَف بالغدر والخيانة، وهذا ما يُعرف في الشريعة "بالنبذ". يقول تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58] والمنابذة في اللغة: الإلقاء والطرح، قال الراغب الأصفهاني: النبذ إلقاء الشيء وطرحه لقلة الاعتداد به، وهي في الاصطلاح: تخيّر كل واحدٍ من الفريقين الحرب. فمعنى الآية إذن: وإن كان بينك وبين قوم هدنة خفت منهم نقضًا للعهد فلا تبادر إلى النقض حتى تلقي إليهم أنك قد نقضت ما بينك وبينهم فيكونوا معك في علم النقض والعود إلى الحرب مستويين. وحقيقة ما يجري في المنابذة أن يكون بين فريقين مختلفين عهدٌ وهدنةٌ بعد القتال، ثم يريدان نقض ذلك العهد، فينبذ كل فريق منهما إلى صاحبه العهد الذي تعاهدا عليه. وقال ابن قدامة: يعني أعلمهم بنقض عهدهم، حتى تصير أنت وهم سواء في العلم، ولا يكفي وقوع ذلك في قبوله، حتى يكون عن أمارة تدل على ما خافه. ولا يجوز أن يبدأهم بقتال ولا غارة قبل إعلامهم بنقض العهد؛ للآية، ولأنهم آمنون منه بحكم العهد، فلا يجوز قتلهم، ولا أخذ مالهم. قال القرطبي رحمه الله: قال علماؤنا - رحمة الله عليهم -: إنما كان الغدر في حق الإمام أعظم وأفحش منه في غيره لما في ذلك من المفسدة، فإنهم إذا غدروا، وعُلِمَ ذلك منهم، ولم ينبذوا بالعهد؛ لم يأمنهم العدو على عهد ولا صلح، فتشتد شوكته ويعظم ضرره، ويكون ذلك منفرًا عن الدخول في الدين، وموجبا لذم أئمة المسلمين. وذهب المالكية، والشافعية، وجمهور الفقهاء إلى أن الهدنة عقد لازم لا يجوز نقضه، إلا إذا وجدت خيانة أو غدر من العدو، بقيام أماراتٍ تدل عليه، وإن لم توجد فيجب الوفاء لهم بالعهد. وقال الخطابي: العهد الذي بين المسلمين وبين العدو ليس بعقد لازم لا يجوز القتال قبل انقضاء مدته، ولكن لا يجوز أن يفعل ذلك إلا بعد الإعلام به والإنذار فيه، واستدل على ذلك بحديث سليم بن عامر أنه قال: كان بين معاوية وبين الروم عهد، وكان يسير نحو بلادهم حتى إذا انقضى العهد غزاهم، فجاء رجل على فرس أو برذون؛ وهو يقول: الله أكبر، الله أكبر، وفاء لا غدر؛ فنظروا فإذا عمرو بن عبسة، فأرسل إليه معاوية فسأله، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلَا يَشُدُّ عُقْدَةً وَلَا يَحُلُّهَا حَتَّى يَنْقَضِيَ أَمَدُهَا أَوْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ» فَرَجَعَ مُعَاوِيَةُ بالناسِ".
وبهذا نعلم أن المنابذة مرحلة تأتي بعد المعاهدة، وذلك بإعلان نقضها عند توقع الغدر.
والحق أن هذه الآية معجزة في سموّ الحكم الذي اشتملت عليه؛ لأن طبيعة القوانين البشرية أنها ترتقي برقي الإنسان الذي يضعها، أما هذه الآية؛ فقد جاءت بحكم غاية في السمو والرقي، وقد نزلت بعد غزوة بدرٍ، أي بعد فرض القتال بفترة وجيزة؛ مما يبين أن الحكم المتضمَّن فيها هو حكم ربَّاني، خاصةً وأنه جاء بعد نصر مؤزَّر، يجعل الماديين ومن لا صلة لهم بالله يتيهون فخرًا وكبرياءً، وبطشًا بالآخرين.
تمثُّل خلق النبذ على سواء في النبي صلى الله عليه وسلم:
تمثلَ هذا الخلق العظيم في النبي صلى الله عليه وسلم كسائر الأخلاق القرآنية التي تمثلها، فكانت ماثلة للناس برأي العين، حتى شهد له بذلك أعداؤه قبل أصدقاؤه، ومرت بنا قصة مسائلة هرقل لأبي سفيان عن صفاته وأخلاقه صلى الله عليه وسلم كان من أسئلته له قوله: فهل يغدر؟ فأجابه أبو سفيان بقوله: لا. ثم قال له هرقل: وسألتك: هل يغدر؟ فقلت: لا، وكذلك الرسل لا تغدر. وأبو سفيان هنا يقر بهذا الخلق العظيم كغيره من الأخلاق العظيمة التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتحلَّى بها، ولم يستطع أن ينكر هذه الحقيقة وهو عدو له حينئذٍ - والفضل ما شهدت به الأعداء – وكان ذلك دليلاً من دلائل نبوته التي عرفه هرقل بها كما يعلمه من أخلاق النبيين.
لذلك لم يكن صلى الله عليه وسلم وهو قائد المسلمين يغدر بمعاهديه ولا يخونهم ولا يتربص بهم الدوائر قط كما كان يفعل أعداؤه به، وإنما كان إذا بدا له من أمرهم شيءٌ من خيانة أو خديعة أو مكر، نابذهم على سواء حتى يكونوا على بصيرة من أمره وأمرهم، وذلك كنبذه صلى الله عليه وسلم ما للمشركين من معاهدة في العام التاسع (للمشركين عامة)؛ فنبذ ما لهم من العهد العام في الموادعة، وحج البيت الحرام وهم على شركهم وعادتهم، ونبذ العهود الخاصة التي كان قد أبرمها مع بعض القبائل العربية، لما علم ما كان منهم من محاولات لنقض ما عاهدوا اللهَ عليه ورسولَه، ومع ذلك فلم يبغتهم بهذه المنابذة بل أعطاهم فرصة كبيرة مدتها أربعة أشهر كاملة ليختاروا لأنفسهم ما أرادوا من الدخول في الإسلام، أو التأهب للقتال، أما من وفَّى بما عاهد عليه من أهل العهود الخاصة، بأن لم يظهروا خيانة ولا غدرًا ولا مراوغة، فقد التزم لهم بالوفاء بمعاهداتهم حتى ينتهي أجلها.
ويدل على ما سبق أيضًا الكثير من آيات القرآن الكريم، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، وقال: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 4]، وقال سبحانه: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 7] بل إن الأمر يذهب أبعد من ذلك حين نجد القرآن الكريم يوجه المسلمين إلى أمر في غاية العجب، وفي غاية العظمة أيضًا، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [الأنفال: 72] فلا تُنصَر تلك الفئةُ على المعاهدين من الكفار، مما يبين أن الله تعالى جعل حق الميثاق فوق حق الأخوة الإسلامية، فأوجب احترام عهد المُعاهِد غير المسلم، إن تعارض مع واجب نُصرة المسلم الذي يعيش وسط المشركين.
فهذه الآية التي ذكرت طريقة التعامل مع غير المسلمين إذا نقضوا العهود وغيرها من الآيات الكريمة تؤكد لنا بوضوح حرص الإسلام على تجنب القتال قدر المستطاع، والوفاء الكامل بالعهود والمواثيق، فمتى نقض المشركون عهودهم فلا يصح مباغتتهم بالحرب؛ بل لا بد من إعلامهم وهو ما سبق وأشرنا إليه بـالنَبْذ.
إن الإسلام يُوجِد مساحاتٍ شاسعةً من الفرص أمام غير المسلمين حتى يعودوا إلى رشدهم، ويئوبوا إلى صوابهم؛ تجنبًا لصدام يكرهه الشرع الإسلامي، وحقنًا لدماء يحرص الشرع على إبقائها نابضةً بالحياة معمِّرةً لها، ولكن عندما تأبى إرادة البشر وجحودهم إلا أن تدخل في صدامٍ مع الحقّ وأهله يأتي التشريع الإسلامي ليضع مجموعة من الأخلاق تحكم سيرَ المسلمين في حروبهم مع غيرهم، وهو ما لا يرقى إليه أي قانون من قوانين الأرض، وشتان بين قانون وضعه إنسان وشرع أبدعه وأحكمه رب العالمين!!
كتاب (أخلاق الحروب في السنة النبوية)