حروب الرسول صلى الله عليه وسلم غير دموية
المطلب الأول: حقن الدماء عند إعلان الإسلام
قد يكون قتلُ أحد الأعداء أمرًا حتميًا نتيجة جرائمه السابقة في حق المسلمين، ولكن الأخلاق النبوية الرفيعة كانت تتجه إلى إعطاء هذا العدو فرصة أخيرة إذا أعلن إسلامه، مع أن هذا الإعلان غالبًا ما يكون لتجنب القتل، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل إسلام الشخص مهما كان تاريخه العدائي، وليس في هذا إكراه في الدين، لأن الأصل في الأمور بالنسبة لهؤلاء أن الحكم بقتلهم قد صدر بالفعل، وقبول إسلامهم والعفو عنهم بعد صدور هذا الحكم هو منَّة من رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم.
ومن أفضل الأمثلة على هذا الأمر ما رأيناه منه صلى الله عليه وسلم عندما أنكر على أسامة بن زيد –رضي الله عنه- قتله لمشرك محارب بعد أن أعلن إسلامه، مع أن كل الظروف كانت تشير إلى أن المشرك لم يعلن إسلامه إلا تَقِيَّة! فقد روى الإمام مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بَعثًا من المسلمين إلى قومٍ من المشركين، وإنهم التقوا فكان رجل من المشركين إذا شاء أن يقصد إلى رجل من المسلمين قصد له فقتله، وإن رجلاً من المسلمين قصد غفلته قال -أي الراوي-: وكنا نُحَدَّث أنه أسامة بن زيد، فلما رفع عليه السيف، قال: لا إله إلا الله، فقتله، فجاء البشير إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فسأله فأخبره، حتى أخبره خبر الرجل كيف صنع، فدعاه فسأله فقال: «لِمَ قَتَلْتَه؟!» قال: يا رسول الله أوجع في المسلمين، وقتل فلانًا وفلانًا، وسمَّى له نفرًا، وإني حملت عليه فلما رأى السيف؛ قال: لا إله إلا الله.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أقتلته؟!» قال: نعم. قال: «فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟!» قال: يا رسول الله استغفر لي. قال: «وكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟»، قال: فجعل لا يزيده على أن يقول: «كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟».
فالرجل الذي في القصة كان قد أوجع في المسلمين، وقتل بالفعل عددًا من الصحابة، وحارب أسامةَ بن زيد –رضي الله عنه-، ولمَّا سقط السيف من يده، وشعر أن أسامة سيقتله قال: لا إله إلا الله! إن أي إنسان في مكان أسامة لعله سيأخذ نفس القرار الذي أخذه أسامة، فكل الظروف توحي أنه من العجيب أن يدخل الإيمان فجأة في قلب المقاتل المشرك عند رؤية السيف، لكن منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقن الدماء كان ينتهز الفرص -ولو كانت واهية غير مقنعة- ليرحم بها المقاتل ويعفو عنه!
وفي موقف مشابه أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم على خالد بن الوليد مثل هذا الأمر؛ فقد روى ابن عمر –رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا؛ فقالوا: صبأنا صبأنا، فجعل خالد يقتل ويأسر، ودفع إلى كل رجل منا أسيره، فأمَرَ كُلَّ رجل مِنَّا أن يقتل أسيره، فقلت: والله لا أقتل أسيري، ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره، فذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مَرَّتَيْنِ..».
لقد كان هذا تعليمًا للأمة كلها، وتحذيرًا شديدًا من القتل في غير محله، بل هو في الوقت نفسه حرص شديد من النبي صلى الله عليه وسلم على تفادي القتل عند أول فرصة تسنح بذلك، مما يؤكد لنا أن القتال في الإسلام إنما هو أمر لا يكون إلا عند الحاجة الماسَّة إليه، ومتى وُجِدَت أيَّةُ فرصة للخروج من القتال وحفظ الدماء؛ كان الأخذ بها هو منهج الإسلام ومنهج الرسول صلى الله عليه وسلم .
وقد كان ما فعله خالد -رضي الله عنه- اجتهادًا شخصيًا رآه وأخذ به، غير أن مَن معه من الصحابة -رضي الله عنهم- لم يوافقوه فيما رأى، بل أنكروا عليه، ولم يُنفِذُوا أمره في هذا الشأن. ولا شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قَبِل عذر خالد لأنه لم يُقم عليه حدًّا، ولم يُغرِّمه دية، ولكن كان لابد من هذا التعليق الشديد كي لا يتكرر الفعل مرة أخرى.
قال ابن حجر: "وأما خالد فحمل هذه اللفظة على ظاهرها؛ لأن قولهم: صبأنا أي: خرجنا من دين إلى دين، ولم يكتف خالد بذلك حتى يصرحوا بالإسلام". وقال الخطابي: "يُحتَمَل أن يكون خالد نَقَمَ عليهم العُدُولَ عن لفظ الإسلام لأنه فهم عنهم أن ذلك وقع منهم على سبيل الأَنَفَة، ولم ينقادوا إلى الدين؛ فقتلهم متأوِّلاً".
ومن أجمل مواقف السيرة ما حدث مع أبي سفيان زعيم مكة يوم ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتحها بعد خيانة قريش وبني بكر لصلح الحديبية، وفي هذا الموقف قَبِل رسول الله صلى الله عليه وسلم إسلام أبي سفيان مع أن الظروف المصاحبة لإعلان إسلامه قد تُشكِّك أيَّ إنسان في مصداقية هذا الإعلان!
ولكي نُقدِّر عظمة الأخلاق النبوية لابد من العودة إلى تاريخ أبي سفيان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين؛ لندرك الظروف التي حقن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه.
لم يكن أبو سفيان رجلاً عاديًّا من رجال قريش، لكنه كان من الرجال المعدودين الذين يشار إليهم بالحكمة وحسن القيادة، ولم يكن رجلاً محايدًا عندما ظهرت دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنما كان مهاجمًا لها، محاولاً بكل الطرق أن يُوقِفَ مَدَّها، وأن يُجهِض نموها.. ولقد ذكر الطبري أبا سفيان فيمن اجتمعوا في دار الندوة يخططون لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبيل هجرته إلى المدينة المنورة..
وفي فترة المدينة المنورة كان أبو سفيان على رأس المشركين في أول مواجهة بين سريةٍ مُسلمةٍ بقيادة عبيدة بن الحارث –رضي الله عنه-، وتَجَمُّعٍ للمشركين عند منطقة "ثنية المُرَّة"، وكان أبو سفيان على رأس القافلة التي نجت، وأعقبها مباشرة الصدام الكبير مع المشركين في بدر.
وفي غزوة بدر الكبرى قُتل سبعون من صناديد وقادة قريش كان منهم أبو جهل، ومن ثَمَّ اجتمعت قريش على رئاسة أبي سفيان لها بكل بطونها وفروعها، وهو حدث فريد في تاريخ مكة، ومن هذه اللحظة وأبو سفيان هو المحرِّك الأول لجموع قريش والقبائل العربية الأخرى لحرب المسلمين.. كما أن ابنه "حنظلة" كان قد قُتِلَ في بدر، وابنه الآخر "عمرو" قد أُسِر، فزاد ذلك في أضغانه وأحقاده، واستطاع أبو سفيان -بنفسه- أن يأسِر صحابيًّا جليلاً وهو سعد بن النعمان بن أكال فبادله بابنه عمرو بن أبي سفيان. ثم أقسم أبو سفيان ألا يَمَسَّ رأسَه ماءٌ من جنابة حتى يغزو محمدًا صلى الله عليه وسلم ، وبالفعل جمع مائتي فارس وغزا المدينة في الظلام، وقتل رجلين من الأنصار.. فيما عُرِف في التاريخ بغزوة السويق.
ثم كانت غزوة أحد، وخرج أبو سفيان يقود ثلاثة آلاف مشرك لحرب المسلمين، وكانت من أكبر الأزمات التي مرت بالمسلمين؛ فبعد الانتصار في أول المعركة تحول النصر إلى مصيبة، وصارت الدولة للمشركين، واستشهد من المسلمين سبعون، وقَتَل أبو سفيان يومها سلمة بن ثابت -رضي الله عنه-، وقيل إنه هو الذي قتل حنظلة غسيل الملائكة وقال: حنظلة بحنظلة، أي أن هذا الصحابي بابنه الذي قُتِلَ في بدر.
لكن أشدَّ من ذلك ما ظهر منه من شعورٍ بالشماتة، وما بدا منه من مخالفةٍ لأعراف الحرب وآداب القتال عند العرب.. وذلك في الحوار الذي دار بينه وبين المسلمين بعد غزوة أحد مباشرة.. فقد روى البخاري وغيره أن أبا سفيان نادى بعد انتهاء المعركة يوم أُحُد: "أفي القوم محمد؟" ثلاث مرات، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه، ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ ثلاث مرات، ثم قال: أفي القوم ابن الخطاب؟ ثلاث مرات، ثم رجع إلى أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قُتِلوا، فما ملك عمر نفسه فقال: كذبت -والله- يا عدو الله! إن الذين عددت أحياء كلَّهم، وقد بَقِيَ لك ما يسوءُك.
قال: يومٌ بيومِ بدر، والحرب سجال، إنكم ستجدون في القوم مُثلة لم آمر بها، ولم تسؤني، ثم أخذ يرتجز: اُعْلُ هُبَلْ!! اُعْلُ هُبَلْ!! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «ألا تجيبونه؟!» قالوا: يا رسول الله، ما نقول؟ قال: قولوا: «الله أعلى وأَجَلُّ». قال أبو سفيان: إن لنا العزى ولا عزى لكم!! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «ألا تجيبونه؟!» قالوا: يا رسول الله، ما نقول؟ قال: قولوا: «الله مولانا ولا مولى لكم».
ففي هذا الحوار يُظهِر أبو سفيان الرضا بما حدث في الشهداء من تشويهٍ للأجساد، وتقطيعٍ للآذان، وبقرٍ للبطون، وهو ما لم تألفه العرب أصلاً في جاهلية ولا في إسلام، وإنما يدل كل ذلك على شهوة إبادة حقيقية، وعلى رغبةٍ أكيدةٍ في الكيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين..
وظهرت هذه الشهوة أيضًا عندما حضر أبو سفيان وشهد حادثة قتل زيد بن الدثنة في إقرارٍ واضحٍ لمبدأ الغدر في التعامل مع المسلمين.
وقد ظهرت هذه الشهوة بصورة أكبر وأكبر في غزوة الأحزاب في العام الخامس من الهجرة، وفي هذا الحصار حرص أبو سفيان -الذي كان على قيادة عشرة آلاف مشرك- والمشركون معه على التخلِّص من كلِّ المسلمين بالمدينة المنورة.. لقد كانت جريمة كبرى، عندما جمعوا الجموع ليحاصروا المدينة الآمنة، ولِيُرَوِّعُوا الرجال والنساء والأطفال!!
وظلَّ أبو سفيان زعيمًا لمكة حتى السنة الثامنة من الهجرة، وكان صلح الحديبية قد تمَّ منذ سنتين، وانضمت فيه قبيلة بني بكر لحلف المشركين، بينما انضمت قبيلة خزاعة لحلف المسلمين، ثم حدثت الخيانة المعروفة من بني بكر، وقتلت عددًا من قبيلة خزاعة، وساعدتها قريش على ذلك، فنُقِضَ بذلك صلح الحديبية.. ومن ثم قرر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة بجيش قوامه عشرة آلاف مؤمن..
إنها قصة طويلة، وتفصيلاتها كثيرة، وما يهمنا فيها أن أبا سفيان كان يتولَّى كبر الأمر في حرب المسلمين، وكان على رأس المهدِّدين لأمن الدولة الإسلامية..
ضع كل هذه الخلفيات المعقَّدة في ذهنك، وأنت تحلل الطريقة التي تعامل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي سفيان عندما قابله في الطريق من المدينة إلى مكَّة أثناء التوجه لفتح مكة المكرمة..
إننا ذكرنا هذا التاريخ الطويل من العداء لنفقه قيمة الخُلُق النبوي، وعظمة الرؤية الإسلامية للأمور..
لقد دارت الأيام، وأصبح أبو سفيان في موقف ضعيف جدًا، ووجد نفسه عاجزًا عن الحركة، بل عن التفكير، وذلك عندما بُوغِتَ بالجيوش الإسلامية على بعد عدة كيلومترات من مكة، وعلم أبو سفيان -يقينًا- أنه على رأس قائمة المطلوبين!! فقد كان حريصًا في أكثر من مرة على استهداف المسلمين، ورسولهم صلى الله عليه وسلم ، وأصابت أبا سفيان حالة من الرعب والهلع، ووجد أمامه أحد أصدقائه القدامى الذين آمنوا وانضموا إلى الصف المسلم وهو العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه-، عم الرسول صلى الله عليه وسلم ، فاستغاثه واستنجد به قائلاً: ما الحيلة؟ فداك أبي وأمي؟!
قال العباس –رضي الله عنه- يخاطب أبا سفيان: والله لئن ظَفِرَ بك لَيَضْرِبَنَّ عُنُقَكَ..!!
وهذا هو التصرف الطبيعي في تصور العباس -رضي الله عنه-، وفي تصور أي مُطَّلِعٍ على تاريخ أبي سفيان مع المسلمين.. ولكن العباس -رضي الله عنه- لصداقته القديمة مع أبي سفيان، أو لرغبته الأكيدة في حفظ دماء قريش، قرر أن يشفع لأبي سفيان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال -رضي الله عنه- لأبي سفيان: "اركب معي هذه البغلة؛ حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم أستأمنه لك"، فركب أبو سفيان مع العباس -رضي الله عنه-..
يقول العباس: "فخرجت به، فكلما مررتُ بنار من نيران المسلمين فقالوا: ما هذا؟ فإذا رأوا بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها عمه قالوا: هذه بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها عمه، حتى مررنا بنار عمر بن الخطاب، فقال: من هذا؟ وقام إليَّ، فلما رآه على عجز البغلة عرفه، فقال: والله عدوُّ الله!! الحمد الله الذي أمكن منك، فخرج يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل، وركضت البغلة فسبقته بقدر ما تسبق الدابة البطيئة الرجل البطيء، فاقتحمت عن البغلة، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل عمر فقال: هذا عدو الله أبو سفيان، قد أمكن الله منه في غير عهد ولا عقد؛ فدعني أضرب عنقه!! فقلتُ: قد أجرته يا رسول الله، ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت برأسه، فقلت: والله لا يناجيه الليلة رجل دوني، فلما أكثر عمر قلتُ: مهلاً يا عمر! فوالله لو كان رجلاً من بني عديٍّ ما قلت هذا، ولكنه من بني عبد مناف. فقال: مهلاً يا عباس، لا تقل هذا؛ فوالله لإسلامك حين أسلمت كان أحبَّ إليَّ من إسلام الخطاب أبي لو أسلم؛ وذلك أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا عباس، اذهب به إلى رحلك، فإذا أصبح فائتنا به». فذهبت به إلى الرحل فبات عندي، فلما أصبحت غدوت به، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ويحك يا أبا سفيان!! ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟!» قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك، وأكرمك، وأوصلك، وأعظم عفوك!! لقد كاد أن يقع في نفسي أن لو كان إله غيره لقد أغنى شيئًا بعد. فقال: «ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟!». قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك، وأكرمك، وأوصلك، وأعظم عفوك! أما هذه -والله- فكان في النفس منها حتى الآن شيء. قال العباس: فقلت: ويلك أسلم، واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله قبل أن تضرب عنقك. قال: فشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله..
لقد ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف مثلاً من أروع أمثلة المروءة والشهامة، كذلك من أروع أمثلة التجرِّد لله والحرص على الدعوة، كما أظهر حرصًا عجيبًا على حقن الدماء قلَّ أن تراه في التاريخ أو الواقع. فقد وقف صلى الله عليه وسلم يتحاور مع أبي سفيان بطريقة إقناعية فيها البحث عن الحجة والدليل، مع أن السيف كان الحلَّ الأمثل عند عامة القواد والزعماء.. وعندما سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وحدانية الله أجاب أبو سفيان إجابة غير شافية لا تدل عن قناعة كاملة بتوحيد الله، ولكنه على كل حال لم يرفض، لكن عندما سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إيمانه بنبوته صرَّح أبو سفيان أنه ما زال يشك في هذا الأمر!! وهنا هدَّده العباس -رضي الله عنه- بأن قتله أصبح وشيكًا، ولا يحفظ دمه إلا الإسلام، فأسلم عندئذ أبو سفيان..
إن الذي فعله العباس -رضي الله عنه- ليس إكراهًا في الدين، بل هو رحمة بأبي سفيان، ورحمة بكل قريش، إن قتل أبي سفيان في هذا الموقف لا يستنكره أحد، ولا ترفضه أعراف الدول لا في القديم ولا في الحديث؛ فهو يُصَنَّفُ في القانون الدولي الحديث على أنه مجرم حرب؛ لأنه دبَّر منذ سنتين محاولة "قتل جماعي" لأهل المدينة المنورة، ونَقَضَ منذ أيامٍ قليلةٍ عهدًا بينه وبين المسلمين راحَ ضحيَّة نقْضِهِ عددٌ من الرجال والنساء قتلى.. بل إن الذي يمكن أن يتوقعه أي متابع للأحداث أن يرفض رسول الله صلى الله عليه وسلم إسلام أبي سفيان في هذا الموقف، ويظنَّ -ظنًا أشبه باليقي- أنه ما فعل ذلك إلا تَقِيَّةً وخوفًا من القتل.. لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يُظهِر شكًّا في إيمان أبي سفيان، بل قبل منه ببساطة، ولم يناقشه أو يستوثق منه.. بل عفا عنه في لحظة واحدة!! لقد تناسى رسول الله صلى الله عليه وسلم في لحظة واحدة كل الذكريات المؤلمة والجراح العميقة.. فقلبه صلى الله عليه وسلم لا تغزوه الأحقاد، ولا سبيل للشيطان عليه..
وليُراجع العالم كيف يتعامل الزعماء والملوك مع معارضيهم ليدركوا عظمة نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم!
المطلب الثاني: عرض مبدأ الأمان في مقابل حقن الدماء
كثيرًا ما نرى الأقوياء يتسلطون بقوتهم على ضعفاء العالم، فإذا هناك تاريخ عداء قديم، وثأر موروث عبر الأجيال فإن المجازر تصبح متوقعة جدًا عند تمكن قويٍ من ضعيف!
والذي يُراجع تاريخ مكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوقع -بلا ريب- انتقامًا شرسًا من أولئك الذين أوقعوا الظلم بالمسلمين على مدار أكثر من عشرين سنة، لكننا لم نر هذا الانتقام، ولا معشاره! بل رأينا رغبة حقيقية في حقن الدماء حتى قبل إعلان الإسلام! وحتى نطَّلع سويًّا على صورة جليَّة واقعية لهذه الرغبة فلنعد إلى بقية قصة أبي سفيان يوم فتح مكة، والتي بدأناها في المطلب السابق.
لقد قَبِل رسول الله صلى الله عليه وسلم إسلام أبي سفيان مع تردده الواضح في إعلان إسلامه، ولكنَّه صلى الله عليه وسلم لم يكن يفكر في حقن دمِّ أبي سفيان وحده، إنما كان مشغولاً بحقن دماء شعب مكة بكامله! لذلك عندما قال له العباس: يا رسول الله، إن أبا سفيان يحب الفخر، فاجعل له شيئًا، لم يتردد في قبول ذلك، بل انتهزها فرصة وجعل الأمان لأهل مكة جميعًا، فقال: «نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو أمن، ومن أغلق بابه فهو آمن».
لقد كان من الممكن أن يعطي الأمان لأبي سفيان وكفى، وخاصَّة أنه أعلن إسلامه، ولكنه قرر إعطاء فرصة الأمان لشعب مكة وذلك قبل أن يسمع موقفهم من الإسلام!
أيُّ عظمة.. وأيُّ فضل..!!
إننا لا يمكن أن نتصور مدى النُّبل الذي في هذا الموقف إلا أن نضع أنفسنا في ذات الموقف، ولنكن صادقين مع أنفسنا، وليكن العالم صادقًا مع نفسه.. هل يفعل ذلك أحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!
أما زال هناك من يدَّعِي أن الإسلام دين إرهاب وعنف؟!
إننا نفتقر فقط إلى العلم، إننا لا نعرف من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قشورًا سطحية، ولو تعمَّقنا في دراسة سيرته، ونقلناها لعموم أهل الأرض لزالت الغشاوة عن أبصار قوم لا يعلمون.
المطلب الثالث: قبول فكرة إنهاء الحرب
لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم من هواة الحرب، بل كان ينأى عنها ما وجد إلى ذلك سبيلاً؛ ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض الإسلام أو الجزية أولاً، فإن أصرَّ العدو على القتال، حارب الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولكنه لا يغلق باب المسالمة؛ فإن رغب العدو في الصلح حتى بعدما تظهر بشائر النصر للمسلمين، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقبل الصلح، ويُقرُّه.
من ذلك ما حدث في غزوة خيبر؛ حيث يقول ابن كثير: "فلما أيقنوا بالهلكة، وقد حصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعةَ عشرَ يومًا نزل إليه ابن أبي الحقيق؛ فصالحه على حقن دمائهم، ويُسَيِّرُهم، ويُخلُّون بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين ما كان لهم من الأرض والأموال والصفراء والبيضاء والكِرَاع والحلقة وعلى البَزِّ، إلا ما كان على ظهر إنسان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وبرئت منكم ذمة الله وذمة رسوله إن كتمتم شيئًا، فصالحوه على ذلك».
وفي غزوة بني المصطلق، ورغم انتصار المسلمين، وأسرهم مائة بيتٍ من بني المصطلق، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم حقن دماءهم، ولم يفعل كقادة الجيوش وقتها أو الآن؛ فيقتلهم، ويقضي عليهم، بل زاد الرسول صلى الله عليه وسلم على الإبقاء على حياتهم أن أعتق جويرية بنت الحارث سيد بني المصطلق، وتزوجها؛ فقال المسلمون: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فأطلقوا سراح جميع ما بأيديهم من السبي.
المطلب الرابع: عدم دموية الحروب النبوية
تميَّزت الحروب النبوية بأنها حروب غير دموية، بمعنى أنها لم يكن فيها ما يُعرف الآن بجرائم إبادة الشعوب، حيث نجد فيما يُسمى "بحضارات" العالم الحديثة أن بعض الزعماء أخذوا قرارات نتج عنها إفناءٌ لِكَمٍّ هائلٍ من البشر في مدينة أو دولة أو أحيانًا قارة! لكن حروب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن على هذه الصورة، ذلك أنه -كما ذكرنا- كان حريصًا على تجنب القتال ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وإذا اضطر إليه حاول أن ينهيه بسرعة، وأثناء القتال نفسه كان يحفظ دماء المدنيين، وكذلك يحفظ دماء المستكرهين على القتال، ثم بعد القتال كان يعفو إذا ملك، ويسامح ويرحم إذا غَلَب. فجاءت حروبه على مستوى من الرقي لا تعرفه -بل لا تفهمه- "الحضارات" الحديثة!
ولغة الأرقام لا تكذب!
لذلك فقد قمت بإحصاء عدد الذين ماتوا في كل الحروب النبوية، سواء من شهداء المسلمين، أو من قتلى الأعداء، ثم قمت بتحليل لهذه الأعداد، وربطها بما يحدث في عالمنا المعاصر، فوجدت عجبًا!!
لقد بلغ عدد شهداء المسلمين في كل معاركهم أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك على مدار عشر سنوات كاملة، 262 شهيدًا تقريبًا، وبلغ عدد قتلى أعدائه صلى الله عليه وسلم حوالي 1022 قتيلاً، وقد حرصت في هذه الإحصائية على جمع كل من قُتِل من الطرفين حتى ما تم في حوادث فردية، وليس في حروب مواجهة، كما أنني حرصت على الجمع من الروايات الموثَّقة بصرف النظر عن الأعداد المذكورة، وذلك كي أتجنب المبالغات التي يقع فيها بعض المحققين بإيراد الروايات الضعيفة التي تحمل أرقامًا أقل، وذلك لتجميل نتائج الحروب النبوية!
وبذلك بلغ العدد الإجمالي لقتلى الفريقين 1284 قتيلاً فقط!!
ولكي لا يتعلل أحدٌ بأن أعداد الجيوش آنذاك كانت قليلة؛ ولذا جاء عدد القتلى على هذا النحو، فإنني قمت بإحصاء عدد الجنود المشتركين في المعارك، ثم قمت بحساب نسبة القتلى بالنسبة إلى عدد المقاتلين، فوجدت ما أذهلني!! إن نسبة الشهداء من المسلمين إلى الجيوش المسلمة تبلغ 1% فقط، بينما تبلغ نسبة القتلى من أعداء المسلمين بالنسبة إلى أعداد جيوشهم 2%!، وبذلك تكون النسبة المتوسطة لقتلى الفريقين هي 1.5% فقط!
إن هذه النسب الضئيلة في معارك كثيرة بلغت 25 أو 27 غزوة، و38 سرية، أي أكثر من 63 معركة، لمن أصدق الأدلة على عدم دموية الحروب في عهده صلى الله عليه وسلم .
ولكي تتضح الصورة بشكل أكبر وأظهر فقد قمت بإحصاء عدد القتلى في الحرب العالمية الثانية -كمثال لحروب "الحضارات" الحديثة، وخاصَّة أن الدول التي اشتركت فيها ما زالت تدَّعي أنها رائدة للحضارة ولحقوق الإنسان!- ثم قمت بحساب نسبة القتلى بالقياس إلى أعداد الجيوش المشاركة في القتال، فصُدِمْتُ بمفاجأة مذهلة!!! إن نسبة القتلى في هذه الحرب الحضارية بلغت 351% !!!
ومن جديد.. إن الأرقام لا تكذب!!!
لقد شارك في الحرب العالمية الثانية 15.600.000 جندي (خمسة عشر مليون وستمائة ألف)، ومع ذلك فعدد القتلى بلغ 54.800.000 قتيل (أربعة وخمسين مليون وثمانمائة ألف)!!! أي أكثر من ثلاثة أضعاف الجيوش المشاركة! وتفسير هذه الزيادة هو أن الجيوش المشاركة جميعًا -وبلا استثناء- كانت تقوم بحروب إبادة على المدنيين، وكانت تسقط الآلاف من الأطنان من المتفجرات على المدن والقرى الآمنة، فتبيد البشر، وتُفني النوع الإنساني، فضلاً عن تدمير البنى التحتية، وتخريب الاقتصاد، وتشريد الشعوب!!
لقد كانت كارثة إنسانية بكل المقاييس!
وليس خافيًا على أحد أن المشاركين في هذه المجازر كانت الدول التي تعرف آنذاك –والآن- بالدول المتحضرة الراقية! كبريطانيا وفرنسا وأمريكا والاتحاد السوفيتي والصين وألمانيا وإيطاليا واليابان!
أي تحضر هذا؟! وعن أي رقيًّ يتكلمون؟! ثم أين أولئك الذين يصفون رسولنا صلى الله عليه وسلم بالعنف والإرهاب؟!
قارن هذه النسب المفجعة بما كان على عهد رسول الرحمة صلى الله عليه وسلم.
إن العودة للأرقام سترد كلَّ مُنصفٍ إلى جادَّة الطريق، أما من اختار العمى على الهدى فلا يلومنَّ إلا نفسه!!
المطلب الخامس: رد شبهة التجاوز في التعامل مع بني قريظة
والشبهة التي تثار عند الحديث عن عدم دموية الحروب النبوية هي قتله لرجال قبيلة بني قريظة، والتي اختلفت الروايات في تحديد أعدادهم، فهم يتراوحون بين أربعمائة وسبعمائة رجل.. وقبل الحديث عن الحدث نفسه نود أولا أن نقف على حيثيات وظروف ذلك الحكم..
فمن المعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم بمجرد قدومه المدينة عقد مع اليهود الموجودين بها معاهدة رائدة، تعد بمثابة أقدم دستور مسجل في العالم، والتي كان من أهم بنودها: التزام كل من المسلمين واليهود بالمعايشة السلمية فيما بينهما وعدم اعتداء أي فريق منهما على الآخر في الداخل. وتعهد كل من الطرفين بالدفاع المشترك عن المدينة ضد أي اعتداء خارجي، وعلى اليهود أن يتفقوا مع المؤمنين ما داموا محاربين.
وقد حدث في العام الخامس من الهجرة؛ أن تجمعت أكبر قوة معادية للمسلمين في ذلك الوقت للقضاء عليهم داخل المدينة، وأحاطت جيوش الأحزاب بالمدينة في عشرة آلاف مقاتل من مشركي قريش وقبائل غطفان وأشجع وأسد وفزارة وبني سليم، على حين لم يزد عدد المسلمين على ثلاثة آلاف مقاتل. وكان المتوقع أن تنضم بني قريظة إلى صفوف المسلمين ضد القوات الزاحفة على المدينة بناء على نصوص المعاهدة المبرمة بين الفريقين، لكن الذي حدث هو عكس هذا تمامًا! فلم تكتف بنو قريظة بمجرد السلبية، ولكن فوجئ المسلمون بهم يخونهم في أخطر أوقات محنتهم، ولم يرعوا للعهود حرمة، في سبيل التعجيل بسحق المسلمين والقضاء عليهم قضاء تامًا.
وبمجرد أن سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الخيانة الخطيرة أرسل وفدًا مكونًا من سعد بن معاذ سيد الأوس، وسعد بن عبادة سيد الخزرج، وعبد الله بن رواحة، وخوات بن جبير -رضي الله عنهم-؛ ليذكِّروا القوم بما بينهم وبين المسلمين من عهود، ويحذروهم مغبَّة ما هم مقدمون عليه، فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم، وقالوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : من رسول الله؟ لا عهد بيننا وبينه !! وهكذا ركب القوم رءوسهم، وقرروا الانضمام الفعلي للغزاة، وأخذوا يمدونهم بالمال والعتاد.
وقد تدخلت عناية الله لنصرة الإيمان وأهله، وشاء الله أن يندحر ذلك التحالف الوثني اليهودي {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب: 25]، وبعدها مباشرة جاء الوحي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بأمره بأن ينهض إلى بني قريظة؛ جزاءً لمكرهم وغدرهم وخيانتهم، فسار إليها وحاصرها صلى الله عليه وسلم والمسلمون شهرًا أو خمسة وعشرين يومًا.. ولمـا طال عليهم الحصار عرضوا على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتركهم ليخرجوا إلى أذرعات بالشام تاركين وراءهم ما يملكون، ورفض صلى الله عليه وسلم إلا أن يستسلموا دون قيد أو شرط، وبالفعل استسلم يهود بني قريظة، ونزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوكل الحكم فيهم إلى سعد بن معاذ أحد رؤساء الأوس. وكان سعد حليف بني قريظة في الجاهلية، وقد ارتاح اليهود لهذا الاختيار، وظنوا أن الرجل قد يحسن إليهم في حكمه، لكن سعدًا نظر إلى الموقف من جميع جوانبه، وقدَّره تقدير من عاش أحداثه وظروفه، وشاهد كروبه ومآزقه، وعرف النذر المستطيرة التي تراءت في الأفق، فأوشكت أن تطيح بالعصبة المؤمنة لولا عناية الله عز وجل التي أنقذت الموقف.. وكان هو نفسه الذي شفع لديهم بادئ ذي بدء ليرجعوا عن غدرهم وغيهم، لكن القوم مضوا في عنادهم لا يقدرون للنتائج عاقبة، ولا يراعون الله في حلف ولا ميثاق، ولذلك لما كُلِّم في شأنهم أكثر من مرة قال –رضي الله عنه-: "لقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم"، ثم بعد أن أخذ المواثيق على الطرفين أن يرضى كل منهما بحكمه أمر بني قريظة أن ينزلوا من حصونهم وأن يضعوا السلاح ففعلوا، ثم قال: "إني أحكم أن تقتل مقاتليهم وتسبى ذريتهم وأموالهم"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ» !! فقتل رجالهم وسبي نساؤهم وذراريهم، ولاقى بنو قريظة أسوأ مصير على أفظع خيانة..
وهنا يحلو للبعض أن يُشكِّكوا في تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم ومعاملته لبني قريظة، ويعتبروا أن معاملته هذه لهم تتسم بالوحشة والقسوة، وأنه كان من الممكن أن يعاقبوا بأي عقاب آخر كالإجلاء أو النفي..
وللبيان والتوضيح نقول: ماذا لو أن نتيجة غزوة الأحزاب تمت حسبما كان يخطط لها بنو قريظة وأحزابهم، ألم تكن هي الإبادة التامة للمسلمين أجمعين؟! على أن اليهود لم يُقدِموا على هذا العمل الخسيس إلا بعد أن تكوَّن لديهم ما يشبه اليقين بأنهم -بمساعدة المشركين- سوف يقومون بتدمير الكيان الإسلامي تدميرًا كاملاً، واستئصال شأفة المسلمين استئصالاً كليًا، ولهذا لم يترددوا في الغدر بحلفائهم المسلمين، وعلى تلك الصورة البشعة. ولقد كانوا حريصين الحرص كله على إبادة المسلمين، حتى لقد طلبوا من الأحزاب والمشركين أن يُسلِّموا إليهم سبعين شابًا من أبنائهم رهائن عندهم؛ ليضمنوا أن جيوش الأحزاب لن تنسحب من منطقة المدينة إلا بعد أن تفرغ من المسلمين وتقضي عليهم قضاء تامًا.
فعلى الذين يستبشعون الحكم على بني قريظة، ويصفونه بأنه كان قاسيًا شديدًا، عليهم أن يحيطوا علمًا بجوانب الموضوع، وظروف القضية؛ ليدركوا أن اليهود هم الذين جروا الوبال على أَنفسهم.
كتاب (أخلاق الحروب في السنة النبوية)