الصحفية البريطانية إيفون ريدلي
إيفون ريدلي (Yvonne Ridley) الصحفية البريطانية, أسيرة طالبان التي أصبحت داعية للإسلام, لم تكن تتصور قط أن مغامرتها إلى أفغانستان ستنتهي بها لتصبح أحد دعاة الإسلام والمدافعين عن شرائعه, ما كانت تهتم بالسفر إلى أفغانستان إلا من أجل شرف الفوز بسبق صحفي تتميز به عن غيرها من الصحفيين, لكنها لم تتوقع أن يحول السبق حياتها، ويقلبها رأسًا على عقب.. إنها الصحفية البريطانية "إيفون ريدلي".
كانت إيفون ريدلي الصحفية النشطة والمغامرة تعمل لحساب صحيفة "صانداي أكسبريس" عندما تسللت في جنح الليل بين الحدود الباكستانية - الأفغانية على ظهر حمار تارة، أو في سيارة متهالكة تتعطل كل خمس دقائق تارة أخرى, مرتدية الشادوف الأفغاني النسائي المشهور، وحذاء من البلاستيك القوي يكاد يدمي قدمها.
نجحت في عبور الحدود مبهورة بهؤلاء الناس البسطاء الذين يكابدون مشقة الحياة برضا وطمأنينة، متلمسة في وجوههم الطيبة، وفي أخلاقهم الشجاعة والكرم، على الرغم من شظف العيش.
وفي أثناء طريقها إلى كابول توقفت في إحدى القرى الأفغانية لتتزود من المؤن والطعام، وهناك تعرفت أكثر على الشعب الأفغاني الودود المضياف؛ لتفترش الأرض وتنام إلى جانب ثماني نسوة من الأفغان وتتعجب منهن كيف يعشن، ويتأقلمن مع الحياة في بلد يعاني من ويلات الحروب منذ ما يزيد على ربع قرن، وتضحك من سخرية امرأة أفغانية منها؛ لأنها أم لطفل واحد بينما الأفغانيات يلدن 15 طفلاً.
وبعد أن وصلت كابول وأنهت مهمتها قررت العودة إلى باكستان, وفي هذه الأثناء وقعت أحداث الحادي عشر من سبتمبر لتقرر الولايات المتحدة شنَّ حرب ظالمة على الشعب الأفغاني المسكين، هذه التطورات دفعت حكومة طالبان للتشديد من إجراءاتها الأمنية تحسبًا لحرب محتملة، كما أغلقت باكستان حدودها مع أفغانستان.
قررت إيفون حينئذ الهروب من الطرق الجانبية منتحلة شخصية امرأة أفغانية خرساء اسمها "شميم" مسافرة مع زوجها إلى قرية في ضواحي "جلال آباد" لزيارة أمه المريضة, وعلى الحدود تأتي الريح بما لم تشتهِ السفن؛ حيث تسقط الصحفية المغامرة من فوق الحمار الذي تركبه، ولم تدرك نفسها إلا وهي تصرخ باللغة الإنجليزية، وتسقط الكاميرا التي تحملها، ليتحول الأمر إلى كارثة ورعب بعد أن سمعها أحد جنود طالبان.
تقول إيفون ريدلي: لن أنسى النظرة في وجه ذلك الرجل من طالبان وهو يرى الكاميرا. ووسط مشاعر الرعب كان لديَّ أمل في أن يبتعد، ولكنَّ ذلك لم يحدث.
ينفجر الرجل غاضبًا ويسحبني من فوق ظهر الحمار ويحطم الكاميرا، وخلال دقائق يتجمع حشد من الغاضبين، إنه كابوس والكل يصرخ ويصيح: "جاسوسة أمريكية.. جاسوسة أمريكية", ويتم اقتيادها إلى السجن ليتم التحقيق معها.
كانت لحظات القبض عليها لحظات رهيبة وثقيلة، وهنا بدأت الخواطر تتوارد عليها وتتخيل مستقبلها المظلم، وقفز إلى ذهنها الروايات التي كانت تسوقها وسائل الإعلام والصحف عن فظائع حكومة طالبان المتعطشة للدماء، والتي تفوق أكبر الأنظمة وحشية وهمجية في تاريخ البشر، عندها أيقنت أنَّ مصيرها إمَّا إلى حلقة من الجنود ليغتصبوها بصورة جماعية وينهشوا لحمها بعد أن يمارسوا ضدها كل أصناف التعذيب، أو في أحسن الأحوال رجم بالحجارة بعد تعذيبها لأيام.
إيفون ريدلي وتكشف الحقائق
لكن شيئًا فشيئًا ومع احتكاك "إيفون ريدلي" مع عناصر طالبان، أخذ الاطمئنان يتسرب إلى نفسها، وبدأت الصورة الذهنية الظالمة التي رسختها وسائل الإعلام في العقول تتلاشى, وتتبدل مكانها صورة أفراد يتميزون بدماثة الأخلاق، ويراعون الحقوق، حتى ولو كانت لكافر أو عدو.
فلم يقم أحد من الرجال بتفتيشها، بل أرسلوا إليها امرأة لتفتيشها لتعرف ما إذا كانت تحمل سلاحًا، ثم نقلوها إلى مكان مجهول، وكانت المفاجأة أن المكان مكيف وملحق به دورة مياه نظيفة، وكانت المعاملة من قبل الحارس والمترجم والمحقق في غاية الرقي والرأفة.
وهنا اندهشت عندما أضربت عن تناول الطعام، فقال لها المترجم والحارس: نحن غير سعداء لأنك ترهقين نفسك دون داع, إنَّ ديننا يدعونا إلى الإحسان للآخرين. واستدعوا لها الطبيب ليتابع وضعها الصحي، وقبيل الإفراج عنها بعد أن نفت التحقيقات عنها تهمة التجسس، أحضروا لها شيخًا يحدثها ويدعوها للإسلام, وحصل منها الشيخ على وعدٍ منها بدراسة الإسلام.
وتقارن إيفون ريدلي بين هذه المعاملة الإنسانية الراقية التي عوملت بها من عناصر طالبان التي تتهمهم قوى الغرب بالظلامية والهمجية، وبين المعاملة الوحشية وغير الأخلاقية التي عومل بها الأسرى في سجن "أبو غريب" وجونتانامو من دولة تدعي الحرية والتقدم والمدنية.
وتحكي إيفون ريدلي قائلة: "رفضتُ أنْ أكلمهم وأضربتُ عن الطعام، وكنتُ كلما ازددت رفضًا لتصرفاتهم ازدادوا لطفًا معي، وكانوا يقولون: أنتِ أختنا وضيفتنا، ونريدُ أن تكوني سعيدةً، وكنتُ لا أصدق كلامهم، وكنتُ أقول في نفسي ربما لو عاملتهم بلطفٍ سيعاملونني بقسوةٍ، وستبدأ رحلة التعذيب بالكهرباء والاغتصاب وغير ذلك، وكنتُ أتصور أنهم سيفعلون معي كل ما يفعله الأمريكان في المسلمين بجوانتانامو أو أبو غريب، ولكني لم أرَ رجلاً واحدًا نظر إليَّ أو تحرَّش بي".
وعقب الإفراج عنها وعودتها إلى بلادها تذكرت إيفون ريدلي الوعد الذي قطعته على نفسها للشيخ الأفغاني, ومكثت تقرأ القرآن، وتدرس الإسلام مدة ثلاثين شهرًا، شعرت خلالها بأنها تعيش رحلة روحانية ترتفع بها إلى قمم سامية من الصفاء والتصالح مع الذات، شعرت خلالها بحالة من الشفافية والنقاء غير معهودة, وكان من أوائل الكتب التي قرأتها وتأثرت بها كثيرًا كتاب "معالم في الطريق" للأستاذ سيد قطب رحمه الله، لتعلن في النهاية عن اعتناقها للإسلام، وتبدأ مرحلة جديدة في حياتها.
ردود فعل عنيفة على إسلام إيفون ريدلي
وبمجرد إعلان إيفون ريدلي عن إسلامها، شنَّت وسائل الإعلام الغربية هجومًا عنيفًا ضدها ووصفوها بأنها مصابة بمرضٍ نفسي يصيب الإنسان بعد اختطافه حيث يصبح فيه الشخص متعلقًا أو متعاطفًا مع مَن خطفوه، ولكن إيفون ريدلي أكدت أنها لم تتعلق نفسيًّا بأحدٍ من طالبان ممن اعتقلوها.
ولم يقتصر الأمر على وسائل الإعلام, فقد تلقت إيفون ريدلي تهديداتٍ بالقتل، وتمَّ الاعتداء عليها بالضرب من قِبل السلطات البريطانية لا لشخصها ولكن لاعتناقها الإسلام، رغم أنها كانت مفضلةً جدًّا لدى حكومة بلير البريطانية، وجاءتها رسائل تقول: إنَّ أي شخصٍ يعتنق الإسلام أو يرتدي الحجاب في الغرب يضع نفسه في الخطوط الأولى للصدام.
وتشير إيفون ريدلي إلى أن هذه التحديات تواجهها بالفعل معظم المسلمات المحجبات في الغرب، وللأسف الشديد في بعض الدول العربية والإسلامية.
وأما أسرتها فلم تتقبل الأمر بسهولة, تقول إيفون ريدلي: لي أختان؛ واحدة عاشت أكثر من عشرين سنة جارة لأسرةٍ مسلمةٍ، ولهذا لم يكن سماعها للخبر غريبًا عليها، وتقبَّلت الأمر بشكلٍ طبيعي، أما أختي الثانية فقالت لي في سخريةٍ: أعتقدُ أنكِ قريبًا ستفجرين نفسك وتقومين بعمليةٍ انتحارية. وبالنسبة لوالدتي فمنذ ذلك الوقت بدأت تذهب إلى الكنيسة كثيرًا للتأثير على إسلامي، وأمي بطبيعةِ الحال كانت متدينة، وهي قريبة جدًّا من الإسلام، وعندما دعوتها للإسلام قالت لي: أنا عمري 79 سنة، ولا يمكن أن أتغير.
جهود إيفون ريدلي في الدفاع عن الحجاب
صمدت إيفون ريدلي إزاء هذه الحملة التي استهدفتها, ولم يقتصر الأمر على مجرد إعلان إسلامها، بل أخذت تتعمق في فهم ودراسة الإسلام, وسخرت قلمها لتدافع عن قضايا الإسلام والمسلمين في كل مكان خاصة قضية الحجاب.
فنجدها تسطر العديد من المقالات في العديد من المنابر منتصرة لقضايا الحجاب في الغرب والعالم الإسلامي, ومنتقدة الهجوم على المحجبات في البلدان الإسلامية.
تقول إيفون ريدلي في محاضرة لها ضمن فعاليات المؤتمر العاشر للندوة العالمية للشباب الإسلامي: لقد التقطت اليوم صُحفًا مصرية لأكتشف أن وزير الثقافة قد لقب النساء اللاتي يلبسن الحجاب بأنهن رجعيات، متسائلة: كيف يجرؤ وزير مسلم على مثل هذا القول، ولماذا صمت رجال مصر ووقفوا عاجزين عن إسكاته، بعد أن طعن هذا الوزير في شرف وعفة كل امرأة مسلمة ترتدي الحجاب.
لافتة النظر إلى أن النقاب والحجاب أصبحا رمزًا لرفض أسلوب الحياة الغربية السلبي بما فيه من تعاطي المخدرات والمسكرات.. إنها رسالة أخلاقية للغرب بأننا لا نريد أن نحيا بطريقتهم، ورأت أن هؤلاء العرب الذين يريدون أن يكونوا غربيين في سلوكهم أكثر من الغربيين أنفسهم يثيرون السخرية أمام الآخرين.
كما فضحت إيفون ريدلي ممارسات النظام التونسي ضد المحجبات، حيث تقول: كل يوم تقريبًا تتناهى إلى أسماعنا قصص مفزعة عن رجال الشرطة في تونس وأساليبهم في نزع الحجاب عن رءوس النساء التونسيات، بعض من هؤلاء النسوة تعرضن للتحرش الجنسي بل وحتى ألقين في غياهب السجون بأمر من السلطات الحاكمة، في حين أنهنَّ لا ذنب لهنَّ سوى الامتثال لفريضة دينية، وهي ارتداء الحجاب.
ولعل اندهاش المرء يتزايد إذا تصور في المقابل حال السائحات الغربيات واستمتاعهن، وهن عراة، بحمامات الشمس التونسية في المنتجعات الساحلية. إذن لا بأس في أن تنخلعي من ملابسك تمامًا إذا كنت سائحةً غربيَّة ممن يدفعن بسخاء نظير استمتاعهم بحرارة الشمس والرمال والجنس والخمور... لكن حاولي أن ترتدي الحجاب وسترين ماذا سيحدث لكِ في هذه الدولة المسلمة المزعومة.
إيفون ريدلي وقضايا الأمة
ولم تقتصر جهود إيفون ريدلي في نصرة قضايا الحجاب فحسب, بل نراها تقف وقفة مشرفة مع الفلسطينيين في غزة، وتكتب عددًا من المقالات تطالب من خلالها برفع الحصار الظالم المفروض على أهالي غزة، كما تنتقد الرسوم الدنماركية، مشيدة في نفس الوقت بالترابط والتلاحم بين المسلمين أثناء الأزمة، ومثمنة المقاطعة الاقتصادية للمنتجات الدنماركية.
وتقول إيفون ريدلي: قوتنا في اتحادنا الذي رأيناه في مقاطعة بعض المنتجات الغربية بعد أحداث الدنمارك ورد الفعل الذي حدث؛ فالمقاطعة الاقتصادية سلاح قوي ومؤثر، وبما أننا نتحدث عن المقاطعة فيجب علينا مقاطعة الدول التي تدعم الحكومة الصهيونية، ليس فقط مقاطعة المنتجات بل مقاطعة الشركات نفسها التي تدعم هذه الحكومة.
كما انتقدت المذابح التي يشنها الجيش الروسي ضد الشعب الشيشاني المسلم.
وما زال قلمها وجهودها مكرسة لخدمة قضايا دينها, فلا تأخذها في الله لومة لائم, ولا ترضخ لضغوط ظالم أو مستبد، حتى إنها أقامت الحجة على هؤلاء الرجال الذين آثروا الراحة والدعة خوفًا على لعاعة من الدنيا, وعلى هؤلاء المسلمين الذين ولدوا من أبوين مسلمين وعاشوا في مجتمع مسلم, لكنهم لا يأبهون لقضايا أمتهم، ولا يتحرك لهم ساكن كلما تجرأ عليهم أعداء دينهم، وصدق الشاعر إذ يقول:
وما التأنيث لاسم الشمس عيب *** وما التذكير فخر للهلال