أبناؤنا وحب الأوطان
مقولة أحد المصريين لي بعد أحداث ثورة مصر " الآن فقط أشعر بأني في وطني " , ورغم سعادتي بتلك الكلمات ؛ إلا أنها أثارت في نفسي الكثير من الأسئلة. لماذا لم يشعر المواطنون من قبل بانتمائهم لبلادهم؟ وهل لأن هناك أنظمة عمدت إلى تهميش ذلك الشعور في نفوس مواطنيها نفقد ذلك الشعور؟ أم أنها مشكلة في تربيتنا لأبنائنا منذ الصغر، وعدم غرس ذلك الشعور أو الإحساس بحب الوطن فيهم؟ وهل يتعارض حب الوطن مع انتمائي للإسلام؟
بداية أحب أن أوضح أن الانتماء إنما يجب أن يكون للإسلام أولا وآخرا , وأن دعوات القومية أو الطائفية كلها دعوات متهالكة اثبتت فشلها , فكل بلاد الإسلام وطن لكل المسلمين , وكل المسلمين مواطنون لهم حقهم في بلاد الإسلام أجمع , وهو الانتماء الذي يجب أن يعقد الإنسان عليه ولاءه .
لقد كانت ديار الإسلام كتلة واحدة وقطرا ليس فيه حدود ولا حواجز , فجاء الاستعمار وقسم البلاد والأوطان , ولاشك أننا جميعا نتطلع لليوم الذي تتوحد فيه بلاد الإسلام تحت راية واحدة هي راية لا إله إلا الله محمد رسول الله .
لكن الإسلام أيضا لم يهمل تلك العاطفة الجياشة التي تتكون في قلب كل إنسان نحو المكان الذي نشأ به وتربى وترعرع فهو يتعامل مع عاطفة الإنسان نحو وطنه باتزان فلا تفريط ولا إفراط فيها، فالإنسان يرتبط عاطفيا بموطنه الذي له فيه الذكريات والأحداث والأشخاص الدين يحبهم ويحبونه وفيه أقرباؤه وأصدقاؤه ومحبوه , ويؤكد على ذلك الارتباط ويعظمه، حنين الرسول- صلى الله عليه وسلم- لمكة المكرمة عندما خرج منها مكرهًا، فقال بعد أن التفت إليها
والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى ، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت).
وهنا نرى إنه لاتعارض بهذا المفهوم السابق مع الانتماء للإسلام وحب الأوطان، طالما لم يتعارض أو يتعاظم حب الوطن عن حب الإسلام أو تقديم محباته على حب الله ورسوله وكتابه والولاء إلى الإسلام والتضحية من أجل دينه؛ قال تعالى {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [سورة التوبة:آية 24].
فالحفاظ على الوطن وصيانته هو قيمة إسلامية ايضا فأوطاننا قطعة من جسد الإسلام وأهله جزء من أجزائه ومؤسساته جزء لايتجزأ منها ؛ ولله الحمد والمنة فمجتمعاتنا إسلامية ونداء التوحيد يرتفع في كل لحظة , وحب الله ورسوله وقرآنه راسخ في قلوب الناس , لذا حث الإسلام أتباعه على حب أوطانهم بهذا المعنى والاعتزاز بها والدفاع عنها والوقوف في وجه كل المعتدين أو المفسدين لها .
والوطن مكان نعيش فيه ويعيش فينا، نعيش فيه على أرضه، ويعيش هو في قلوبنا، فالوطن هو المنزل الذي يمثل موطن الإنسان ومحله، ومكان نشأته وتربيته , وحبه يعني تفضيل مصلحته العامة عن المصالح الشخصية للفرد، والدفاع والذود عنه بالغالي والنفيس، ويبدأ الانتماء لدى الفرد منذ الصغر، فيبدأ بالانتماء للأم ملبية الاحتياجات ورمز الحماية، يتبعه الانتماء للوالد، ثم الأسرة، ومنها للمجتمع الأكبر( الوطن )، وأخيرًا الانتماء الأكبر للدين الذي يشمل كل تلك الأنواع ويحض عليها وينميها.
وللأسف تعيش مجتمعاتنا العربية نوع من التغييب المتعمد لمسألة الانتماء بالمعنى الذي نتحدث عنه , فهي إما أنها تعرض مفهوم الأوطان جامدا بمعنى المكان الذي ينتفع منه الناس ويتكسبون أرزاقهم , أو بمعنى إضطراري إرغامي لازم أو غيره , أما عرض مفهوم الانتماء لأبنائنا على اعتبارها قيمة إنسانية فكرية عاطفية دينية ومبدأ ينتمي لمبدأ الانتماء للإسلام فقليل ماهو .
وللأسف فنجد أناسا يبيعون أنفسهم وأوطانهم بأبخس الأثمان، وآخرون يهرولون للخارج هربًا من صعوبة الداخل، فما السر في ذلك الضعف والوهن في نفوس أبناء مجتمعاتنا تجاه أوطانهم؟
لقد أشارت دراسة علمية نوقشت مؤخراً في جامعة أسيوط وسط صعيد مصر بأن ضعف الوازع الديني لدى الشباب هو سبب مباشر في ضعف انتمائهم للوطن. فيقول الدكتور "عبد الله النجار " - أستاذ الشريعة الإسلامية ، وعضو مجمع البحوث بالأزهر-
الإسلام غرس في نفوس المسلمين قيمة الانتماء للوطن والاعتزاز به والدفاع عنه . . ومن هنا كان واجب الدفاع عن الوطن هو أول ضريبة الحب له، إذا استدعى الأمر ذلك على النحو الذي يصبح به فرض عين على كل مسلم، في هذه الحالة تهون كل الحقوق الخاصة مهما بلغت درجة قداستها، بل حتى ولو كانت تمس علاقة الرجل بزوجته).
ويكمل " د/عبد الصبور شاهين" - الداعية الإسلامي المعروف والأستاذ في جامعة القاهرة - حول أسباب ضعف الانتماء لدى أبنائنا فيقول: ( ضعف الانتماء للوطن سببه الرئيسي شيوع الفساد والانحراف، فهذه المظاهر السلبية التي تتكرر في معظم بلادنا العربية والإسلامية هي التي قتلت حب الوطن في نفوس كثير من الشباب. فالشاب العاطل الذي لا يجد فرصة عمل وهو يرى حالة الإسراف والبذخ؛ لن تستطيع إقناعه بحب وطنه والتضحية من أجله. والشاب الذي لا يجد شقة سكنية متواضعة ليتزوج بها ويعف نفسه عن الحرام؛ في الوقت الذي يجد فيه أبناء الطبقات المرفهة يسكنون بيوتاً فخمة ويركبون أحدث وأفخم السيارات وربما الطائرات؛ لن يستمع بإنصات إلى أناشيد ودعوات حب الوطن. والشاب المتعلم الذي أفنى حياته في الدراسة والبحث وتحصيل العلم ووجد في النهاية دخلاً هزيلاً لا يكفي احتياجاته الضرورية؛ لن يحب وطنه ولن يتفانى في خدمته .. )
ولكن ما السبيل نحو إيجاد جيل ينتمي واقعًا لبلاده في وسط ذلك الكم من المشكلات والشهوات والمعوقات :
- بداية لا يمكن لخطبة أو مقالة أو ندوة فقط أن توضح للطفل ماذا يعني الوطن والانتماء له، ولا كيف يحض ديننا على كل تلك المعاني النبيلة. ولكن يجب أن يصل ذلك لأطفالنا من خلالنا نحن المربين، سواء كنا والدين في البيت، أو مدرس في المدرسة، أو مدرب في نادي، فالأمر يحتاج منا إلى تضافر كافة مؤسسات التربية في المجتمع لزرع ذلك المفهوم في نفوس أبنائنا. ولقد ذكرت من قبل أن ضعف الوازع الديني سبب أساسي في ضعف الانتماء، لذا وجب على المربين تنشئة أبنائنا على التمسك بالقيم الإسلامية، وتوعيتهم بقيمة الانتماء للدين والوطن كما يلي :
أولا : تثبيت مفهوم الانتماء للإسلام كانتماء عام كبير مقدم على كل شىء , ونبذ دعوات القومية والنعرات الطائفية .
ثانيا : التأكيد على أن أوطاننا التي نعيش فيها هي أوطان الإسلام وأجزاء لا تتجزأ من الوطن الإسلامي الكبير .
ثالثا : على المربي البدء مبكرًا في تنمية هذا الحس في نفوس أبنائنا، وبث الوعي بتاريخ الأمة ككل وأبطال الوطن، مع تثقيفهم بالأهمية الجغرافية والتاريخية للوطن.
رابعا : يمكن للمربي استخدام وسائل عدة في تنمية هذا الحس؛ عن طريق القصص والحكايات حول بطولات أجدادنا لحماية الدين والذود عن تراب الوطن.
خامسا : لنحرص على عدم توجيه الكلام المباشر لأطفالنا حول الانتماء للوطن والتفاني في حبه، حتى لا يتحول كلامنا إلى خطب إنشائية مليئة بالشعارات التي لا طائل منها ولا فائدة تذكر، وليكن كلامنا على أرض الواقع، فعلى الوالدين تعويد الطفل منذ الصغر على العمل التطوعي تحت مبادىء شرعية كمبدأ التعاون على البر والتقوى , وحب العمل المشترك، من خلال المشاركة في مشاريع خدمة المجتمع أو التطوع لنظافة الحي وخلافه، مما يعزز لدى الطفل حبه لوطنه، وقد أثار انتباهي رؤيتي لأسرة بأكملها في مدينة الإسكندرية بمصر؛ الأم والأب والأطفال كلهم جميعًا منهمكين في تنظيف الحي الذي يسكنون فيه؛ بعدما أصابه من دمار بعد الأحداث الأخيرة , فحتى أصغر طفل فيهم - وعمره قد لا يتعدى الخمس سنوات - ممسك بفرشاة ليلون الدرج بالونين الأصفر والأسمر، في جو يملؤه الفرح ، والشعور بالفخر بما يفعلونه لخدمة بلدهم.
سادسا : لاشك أن تقديم نماذج سيئة في المجتمع والترويج والتركيز عليها، يؤدي إلي شعور الفرد بنقص الانتماء للمجتمع والوطن الذي يعيش فيه. , فلننتبه من النماذج التي نقدمها لأبنائنا .
سابعا : محاولة إيجاد قدوة وطنية إسلامية ، ينشأ الطفل على حبها وحب أفعالها، فقد أثبتت الدراسات أن أكثر ما يهدد انتماء الطفل هو انتشار القدوة الغربية والترويج لها بين الأطفال والشباب، وإتباع بعض الإعلاميين والممثلين سلوكيات غربية تضر بالمجتمع، وكذلك تفضيل شراء سلع أجنبية، والتفاخر بالهجرة، أو بازدواج الجنسية.
ثامنا : كذلك يرتبط الانتماء بشعور الفرد بذاته داخل مجتمعه،وبحصوله على حقوقه وتقديره لدوره المنوط به , فالطفل إذا شعر بأن مجتمعه يمكنه ويحترمه زاد انتماؤه له والعكس صحيح أيضًا.
تاسعا : تعويد الأطفال من صغرهم على احترام القوانين والأنظمة التي تعمل على تنظيم شؤون الوطن وتحميه من كيد أعدائه والمفسدين له ، وخلق نوع من التعاون بين الأطفال وبعض أجهزة الدولة لتدعيم ذلك الشعور ( وكمثال على ذلك ما فعلته شرطة دبي مع الأطفال هناك حيث تعقد لهم دورات في احترام قوانين المرور، وجعل الأطفال يشاركون في تنظيم المرور بأنفسهم، وتوزيع كتيبات ونشرات عليهم لتعرفهم بحقوقهم وواجباتهم وغيرها من الأنشطة )
عاشرا : علينا غرس حب التاريخ وروايته في نفوس أطفالنا، من خلال القصص المختلفة والمستعينة بالفنون المباحة ، ونشر تلك الوسائل في كل مكان في البيت والمدرسة والحدائق العامة والمكتبات، مع تسليط الضوء على رموز المجتمع الذين نجحوا وأضافوا لمجتمعاتهم الكثير من الانجازات، وإعطاء الوالدين صورة مشرقة حول تلك الرموز , على أن تتصف تلك الرموز بالحفاظ على القيمة الإسلامية الإيمانية والخلق الحسن والسمعة الحسنة .
إن الانتماء مثله مثل باقي المكتسبات المجتمعية، ينتقل إلى الأطفال بالتعلم والنقل عن طريق الوالدين والمحيطين، فإذا كان حال الوالدين كره الأوطان والتخلي عنها والتنصل من المسئولية تجاهها كان انتماء الأبناء أقل ،وكلما زاد شعورنا نحن المربين بالانتماء؛ وترجمنا تلك المشاعر إلى مواقف وأفعال، نقلنا تلك المفاهيم إلى عقول ووجدان أبنائنا بدون أن ننطق بكلمة واحدة.