{يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)}
قوله تعالى: {يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ} مجادلتهم: قولهم لما ندبهم إلى العير وفات العير وأمرهم بالقتال ولم يكن معهم كبير أهبة شق ذلك عليهم وقالوا: لو أخبرتنا بالقتال لأخذنا العدة. ومعنى {فِي الْحَقِّ} أي في القتال. {بَعْدَ ما تَبَيَّنَ 10} لهم أنك لا تأمر بشيء إلا بإذن الله.
وقيل: بعد ما تبين لهم أن الله وعدهم إما الظفر بالعير أو بأهل مكة، وإذ فات العير فلا بد من أهل مكة والظفر بهم. فمعنى الكلام الإنكار لمجادلتهم. {كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ} كراهة للقاء القوم. {وَهُمْ يَنْظُرُونَ} أي يعلمون أن ذلك واقع بهم، قال الله تعالى: {وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ} أي يعلم.
{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (
}
قوله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ} {إِحْدَى} في موضع نصب مفعول ثان. {أَنَّها لَكُمْ} في موضع نصب أيضا بدلا من {إِحْدَى}. وتودون أي تحبون {أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} قال أبو عبيدة: أي غير ذات الحد. والشوكة: السلاح. والشوك: النبت الذي له حد، ومنه رجل شائك السلاح، أي حديد السلاح. ثم يقلب فيقال: شاكي السلاح. أي تودون أن تظفروا بالطائفة التي ليس معها سلاح ولا فيها حرب، عن الزجاج. {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ} أي أن يظهر الإسلام. والحق حق أبدا، ولكن إظهاره تحقيق له من حيث إنه إذا لم يظهر أشبه الباطل. {بِكَلِماتِهِ} أي بوعده، فإنه وعد نبيه ذلك في سورة {الدخان} فقال: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} أي من أبي جهل وأصحابه. وقال: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}.
وقيل: {بِكَلِماتِهِ} أي بأمره، إياكم أن تجاهدوهم. {وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ} أي يستأصلهم بالهلاك. {لِيُحِقَّ الْحَقَّ} أي يظهر دين الإسلام ويعزه. {وَيُبْطِلَ الْباطِلَ} أي الكفر. وإبطاله إعدامه، كما أن إحقاق الحق إظهاره {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ}. {وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}.
{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)}
قول تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} الاستغاثة: طلب الغوث والنصر. غوث الرجل قال: وا غوثاه. والاسم الغوث والغواث والغواث. واستغاثني فلان فأغثته، والاسم الغياث، عن الجوهري.
وروى مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وسبعة عشر رجلا، فاستقبل نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القبلة، ثم مد يديه، فجعل يهتف بربه: «اللهم أنجز لي ما وعدتني. اللهم ائتني ما وعدتني. اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض. فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه. فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل الله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} فأمده الله بالملائكة». وذكر الحديث. {مردفين} بفتح الدال قراءة نافع. والباقون بالكسر اسم فاعل، أي متتابعين، تأتي فرقة بعد فرقة، وذلك أهيب في العيون. و{مردفين} بفتح الدال على ما لم يسم فاعله، لأن الناس الذين قاتلوا يوم بدر أردفوا بألف من الملائكة، أي أنزلوا إليهم لمعونتهم على الكفار. فمردفين بفتح الدال نعت لألف.
وقيل: هو حال من الضمير المنصوب في {مُمِدُّكُمْ}. أي ممدكم في حال إردافكم بألف من الملائكة، وهذا مذهب مجاهد. وحكى أبو عبيدة أن ردفني وأردفني واحد. وأنكر أبو عبيد أن يكون أردف بمعنى ردف، قال لقول الله عز وجل: {تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} ولم يقل المردفة. قال النحاس ومكي وغيرهما: وقراءة كسر الدال أولى، لأن أهل التأويل على هذه القراءة يفسرون. أي أردف بعضهم بعضا، ولأن فيها معنى الفتح على ما حكى أبو عبيدة، ولأن عليه أكثر القراء. قال سيبويه: وقرأ بعضهم {مردفين} بفتح الراء وشد الدال. وبعضهم {مردفين} بكسر الراء. وبعضهم {مردفين} بضم الراء. والدال مكسورة مشددة في القراءات الثلاث. فالقراءة الأولى تقديرها عند سيبويه مرتدفين، ثم أدغم التاء في الدال، وألقى حركتها على الراء لئلا يلتقي ساكنان. والثانية كسرت فيها الراء لالتقاء الساكنين. وضمت الراء في الثالثة اتباعا لضمة الميم، كما تقول: رد ورد ورد يا هذا. وقرأ جعفر بن محمد وعاصم الجحدري: {بآلف} جمع ألف، مثل فلس وأفلس. وعنهما أيضا {بألف}. وقد مضى في آل عمران ذكر نزول الملائكة وسيماهم وقتالهم. وتقدم فيها القول في معنى قوله: {وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى}. والمراد الإمداد. ويجوز أن يكون الإرداف. {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} نبه على أن النصر من عنده جل وعز لا من الملائكة، أي لولا نصره لما انتفع بكثرة العدد بالملائكة. والنصر من عند الله يكون بالسيف ويكون بالحجة.
{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (11)}
قوله تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ} مفعولان. وهي قراءة أهل المدينة، وهي حسنة لإضافة الفعل إلى الله عز وجل لتقدم ذكره في قوله: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}.
ولأن بعده {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ} فأضاف الفعل إلى الله عز وجل. فكذلك الإغشاء يضاف إلى الله عز وجل ليتشاكل الكلام. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {يغشاكم النعاس} بإضافة الفعل إلى النعاس. دليله {أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى} في قراءة من قرأ بالياء أو بالتاء، فأضاف الفعل إلى النعاس أو إلى الأمنة. والأمنة هي النعاس، فأخبر أن النعاس هو الذي يغشى القوم. وقرأ الباقون {يغشيكم} بفتح الغين وشد الشين. {النعاس} بالنصب على معنى قراءة نافع، لغتان بمعنى غشى وأغشى، قال الله تعالى: {فَأَغْشَيْناهُمْ}. وقال: {فَغَشَّاها ما غَشَّى}. وقال: {كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ 10: 27}. قال مكي: والاختيار ضم الياء والتشديد ونصب النعاس، لأن بعده {أَمَنَةً مِنْهُ} والهاء في {مِنْهُ 60} لله، فهو الذي يغشيهم النعاس، ولأن الأكثر عليه.
وقيل: أمنة من العدو و{أَمَنَةً} مفعول من أجله أو مصدر، يقال: أمن أمنة وأمنا وأمانا، كلها سواء. والنعاس حالة الآمن الذي لا يخاف. وكان هذا النعاس في الليلة التي كان القتال من غدها، فكان النوم عجيبا مع ما كان بين أيديهم من الأمر المهم، ولكن الله ربط جأشهم. وعن علي رضي الله عنه قال: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد على فرس أبلق، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح، ذكره البيهقي. الماوردي: وفي امتنان الله عليهم بالنوم في هذه الليلة وجهان:- أحدهما: أن قواهم بالاستراحة على القتال من الغد.
الثاني: أن أمنهم بزوال الرعب من قلوبهم، كما يقال: الأمن منيم، والخوف مسهر.
وقيل: غشاهم في حال التقاء الصفين. وقد مضى مثل هذا في يوم أحد في آل عمران. قوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ} ظاهر القرآن يدل على أن النعاس كان قبل المطر.
وقال ابن أبي نجيح: كان المطر قبل النعاس. وحكى الزجاج: أن الكفار يوم بدر سبقوا المؤمنين إلى ماء بدر فنزلوا عليه، وبقي المؤمنون لا ماء لهم، فوجست نفوسهم وعطشوا وأجنبوا وصلوا كذلك، فقال بعضهم في نفوسهم بإلقاء الشيطان إليهم: نزعم أنا أولياء الله وفينا رسول وحالنا هذه والمشركون على الماء. فأنزل الله المطر ليلة بدر السابعة عشرة من رمضان حتى سالت الأودية، فشربوا وتطهروا وسقوا الظهر وتلبدت السبخة التي كانت بينهم وبين المشركين حتى ثبتت فيها أقدام المسلمين وقت القتال. وقد قيل: إن هذ الأحوال كانت قبل وصولهم إلى بدر، وهو أصح، وهو الذي ذكره ابن إسحاق في سيرته وغيره. وهذا اختصاره: قال ابن عباس لما أخبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأبي سفيان أنه مقبل من الشام ندب المسلمين إليهم وقال: «هذه عير قريش فيها الأموال فأخرجوا إليهم لعل الله أن ينفلكموها» قال: فانبعث معه من خف، وثقل قوم وكرهوا الخروج، وأسرع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يلوي على من تعذر، ولا ينتظر من غاب ظهره، فسار في ثلاثمائة وثلاثة عشر من أصحابه من مهاجري وأنصاري.
وفي البخاري عن البراء بن عازب قال: كان المهاجرون يوم بدر نيفا وثمانين، وكان الأنصار نيفا وأربعين ومائتين. وخرج أيضا عنه قال: كنا نتحدث أن أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر، على عدد أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر، وما جاوز معه إلا مؤمن. وذكر البيهقي عن أبي أيوب الأنصاري قال: فخرجنا- يعني إلى بدر- فلما سرنا يوما أو يومين أمرنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نتعاد، ففعلنا فإذا نحن ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، فأخبرنا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعدتنا، فسر بذلك وحمد الله وقال: «عدة أصحاب طالوت». قال ابن إسحاق: وقد ظن الناس بأجمعهم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يلقى حربا فلم يكثر استعدادهم. وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتجسس الأخبار ويسأل من لقي من الركبان تخوفا على أموال الناس، حتى أصاب خبرا من بعض الركبان أن محمدا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد استنفر لكم الناس، فحذر عند ذلك واستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري وبعثه إلى مكة، وأمره أن يأتي قريشا يستنفرهم إلى أموالهم ويخبرهم أن محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد عرض لها في أصحابه، ففعل ضمضم. فخرج أهل مكة في ألف رجل أو نحو ذلك، وخرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أصحابه، وأتاه الخبر عن قريش بخروجهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الناس، فقام أبو بكر فقال فأحسن، وقام عمر فقال فأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، امض لما أمرك الله فنحن معك، والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ} ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون، والذي بعثك بالحق لو سرت إلى برك الغماد- يعني مدينة الحبشة- لجالدنا معك من دونه، فسر بذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودعا له بخير. ثم قال: «أشيروا علي أيها الناس» يريد الأنصار. وذلك أنهم عدد الناس، وكانوا حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله، إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذممنا، نمنعك مما نمنع منه أنفسنا وأبناءنا ونساءنا. فكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتخوف ألا تكون الأنصار ترى أن عليها نصرته إلا بالمدينة، وأنه ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو بغير بلادهم. فلما قال ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلمه سعد بن معاذ- وقيل سعد بن عبادة، ويمكن أنهما تكلما جميعا في ذلك اليوم- فقال: يا رسول الله، كأنك تريدنا معشر الأنصار؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أجل» فقال: إنا قد آمنا بك واتبعناك، فامض لما أمرك الله، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «امضوا على بركة الله فكأني أنظر إلى مصارع القوم». فمضى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسبق قريشا إلى ماء بدر. ومنع قريشا من السبق إليه مطر عظيم أنزله الله عليهم، ولم يصب منه المسلمين إلا ما شد لهم دهس الوادي وأعانهم على المسير. والدهس: الرمل اللين الذي تسوخ فيه الأرجل. فنزل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أدنى ماء من مياه بدر إلى المدينة، فأشار عليه الحباب ابن المنذر بن عمرو بن الجموح بغير ذلك وقال له: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله فليس لنا أن نتقدمه أو نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال عليه السلام: «بل هو الرأي والحرب والمكيدة». فقال: يا رسول الله، إن هذا ليس لك بمنزل، فانهض بنا إلى أدنى ماء من القوم فننزله ونعور ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضا فنملأه فنشرب ولا يشربون. فاستحسن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك من رأيه، وفعله. ثم التقوا فنصر الله نبيه والمسلمين، فقتل من المشركين سبعين وأسر منهم سبعين، وانتقم منهم للمؤمنين، وشفى الله صدر رسوله عليه السلام وصدور أصحابه من غيظهم.
وفي ذلك يقول حسان:
عرفت ديار زينب بالكثيب *** كخط الوحي في الورق القشيب
تداولها الرياح وكل جون *** من الوسمي منهمر سكوب
فأمسى ربعها خلقا وأمست *** يبابا بعد ساكنها الحبيب
فدع عنك التذكر كل يوم *** ورد حرارة الصدر الكئيب
وخبر بالذي لا عيب فيه *** بصدق غير إخبار الكذوب
بما صنع الإله غداة بدر *** لنا في المشركين من النصيب
غداة كأن جمعهم حراء *** بدت أركانه جنح الغروب
فلاقيناهم منا بجمع *** كأسد الغاب مردان وشيب
أمام محمد قد وازروه *** على الأعداء في لفح الحروب
بأيديهم صوارم مرهفات *** وكل مجرب خاظي الكعوب
بنو الأوس الغطارف وازرتها *** بنو النجار في الدين الصليب
فغادرنا أبا جهل صريعا *** وعتبة قد تركنا بالجبوب
وشيبة قد تركنا في رجال *** ذوي نسب إذا نسبوا حسيب
يناديهم رسول الله لما *** قذفناهم كباكب في القليب
ألم تجدوا كلامي كان حقا *** وأمر الله يأخذ بالقلوب
فما نطقوا ولو نطقوا لقالوا *** أصبت وكنت ذا رأي مصيب
وهنا ثلاث مسائل:
الأولى: قال مالك: بلغني أن جبريل عليه السلام قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كيف أهل بدر فيكم»؟ قال: «خيارنا» فقال: «إنهم كذلك فينا». فدل هذا على أن شرف المخلوقات ليس بالذوات، وإنما هو بالأفعال. فللملائكة أفعالها الشريفة من المواظبة على التسبيح الدائم. ولنا أفعالنا بالإخلاص بالطاعة. وتتفاضل الطاعات بتفضيل الشرع لها، وأفضلها الجهاد، وأفضل الجهاد يوم بدر، لأن بناء الإسلام كان عليه.
الثانية: ودل خروج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلقى العير على جواز النفير للغنيمة لأنها كسب حلال. وهو يرد ما كره مالك من ذلك، إذ قال: ذلك قتال على الدنيا، وما جاء أن من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله دون من يقاتل للغنيمة، يراد به إذا كان قصده وحده وليس للدين فيه حظ.
وروى عكرمة عن ابن عباس قال: قالوا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين فرغ من بدر: عليك بالعير، ليس دونها شي. فناداه العباس وهو في الأسرى: لا يصلح هذا. فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ولم»؟ قال: لأن الله وعدك إحدى الطائفتين، وقد أعطاك الله ما وعدك. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صدقت». وعلم ذلك العباس بحديث أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبما كان من شأن بدر، فسمع ذلك في أثناء الحديث.
الثالثة: روى مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ترك قتلى بدر ثلاثا، ثم قام عليهم فناداهم فقال: «يا أبا جهل بن هشام يا أمية بن خلف يا عتبة بن ربيعة يا شيبة بن ربيعة أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقا فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا». فسمع عمر قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال يا رسول الله، كيف يسمعون، وأنى يجيبون وقد جيفوا؟ قال: «والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا». ثم أمر بهم فسحبوا فألقوا في القليب، قليب بدر. «جيفوا» بفتح الجيم والياء، ومعناه أنتنوا فصاروا جيفا. وقول عمر: «يسمعون» استبعاد على ما جرت به حكم العادة. فأجابه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنهم يسمعون كسمع الأحياء.
وفي هذا ما يدل على أن الموت ليس بعدم محض ولا فناء صرف، وإنما هو انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقته، وحيلولة بينهما، وتبدل حال وانتقال من دار إلى دار. قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الميت إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم» الحديث. أخرجه الصحيح. قوله تعالى: {وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ} الضمير في {بِهِ} عائد على الماء الذي شد دهس الوادي، كما تقوم.
وقيل: هو عائد على ربط القلوب، فيكون تثبيت الأقدام عبارة عن النصر والمعونة في موطن الحرب.
{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (12)}
قوله تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ} العامل في {إذ، يثبت} أي يثبت به الأقدام ذلك الوقت.
وقيل: العامل {لِيَرْبِطَ} أي وليربط إذ يوحي. وقد يكون التقدير: اذكر {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ} في موضع نصب، والمعنى: بأني معكم، أي بالنصر والمعونة. {مَعَكُمْ} بفتح العين ظرف، ومن أسكنها فهي عنده حرف. {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} أي بشروهم بالنصر أو القتال معهم أو الحضور معهم من غير قتال، فكان الملك يسير أمام الصف في، صورة الرجل ويقول: سيروا فإن الله ناصركم. ويظن المسلمون أنه منهم، وقد تقدم في آل عمران أن الملائكة قاتلت ذلك اليوم. فكانوا يرون رءوسا تندر عن الأعناق من غير ضارب يرونه. وسمع بعضهم قائلا يسمع قوله ولا يرى شخصه: أقدم حيزوم.
وقيل: كان هذا التثبيت ذكر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمؤمنين نزول الملائكة مددا. قوله تعالى: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} تقدم في آل عمران بيانه. {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ} هذا أم للملائكة.
وقيل: للمؤمنين، أي اضربوا الأعناق، و{فَوْقَ} زائدة، قاله الأخفش والضحاك وعطية. وقد روى المسعودي قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إني لم أبعث لأعذب بعذاب الله وإنما بعثت بضرب الرقاب وشد الوثاق».
وقال محمد بن يزيد: هذا خطأ، لأن {فَوْقَ} تفيد معنى فلا يجوز زيادتها، ولكن المعنى أنهم أبيح لهم ضرب الوجوه وما قرب منها.
وقال ابن عباس: كل هام وجمجمة.
وقيل: أي ما فوق الأعناق، وهو الرؤوس، قال عكرمة. والضرب على الرأس أبلغ، لأن أدنى شيء يؤثر في الدماغ. وقد مضى شيء من هذا المعنى في النساء وأن {فَوْقَ} ليست بزائدة، عند قوله: {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ}. واضربوا منهم كل بنان قال الزجاج: واحد البنان بنانة، وهي هنا الأصابع وغيرها من الأعضاء. والبنان مشتق من قولهم: أبن الرجل بالمكان إذا أقام به. فالبنان يعتمل به ما يكون للإقامة والحياة.
وقيل: المراد بالبنان هنا أطراف الأصابع من اليدين والرجلين. وهو عبارة عن الثبات في الحرب وموضع الضرب، فإذا ضربت البنان تعطل من المضروب القتال بخلاف سائر الأعضاء. قال عنترة:
وكان فتى الهيجاء يحمي ذمارها *** ويضرب عند الكرب كل بنان
ومما جاء أن البنان الأصابع قول عنترة أيضا:
وأن الموت طوع يدي إذا ما *** وصلت بنانها بالهندواني
وهو كثير في أشعار العرب، البنان: الأصابع. قال ابن فارس: البنان الأصابع، ويقال: الأطراف. وذكر بعضهم أنها سميت بنانا لأن بها صلاح الأحوال التي بها يستقر الإنسان ويبن وقال الضحاك: البنان كل مفصل.
{ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (13) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (14)}
{لِكَ} في موضع رفع على الابتداء، والتقدير: ذلك الأمر، أو الأمر ذلك. {شاقُّوا اللَّهَ} أي أولياءه. والشقاق: أن يصير كل واحد في شق. وقد تقدم. {ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ} قال الزجاج: {ذلِكُمْ} رفع بإضمار الأمر أو القصة، أي الأمر ذلكم فذوقوه. ويجوز أن يكون في موضع نصب ب {ذوقوا 10} كقولك: زيدا فاضربه. ومعنى الكلام التوبيخ للكافرين. {وَأَنَّ} في موضع رفع عطف على ذلكم. قال الفراء: ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى وبأن للكافرين. قال: ويجوز أن يضمر واعلموا أن. الزجاج: لو جاز إضمار واعلموا لجاز زيد منطلق وعمرا جالسا، بل كان يجوز في الابتداء زيدا منطلقا، لأن المخبر معلم، وهذا لا يقوله أحد من النحويين.