{يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)}
روى الترمذي عن عمران بن حصين أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما نزلت: {يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ- إلى قوله- وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} قال: أنزلت عليه هذا الآية وهو في سفر فقال: «أتدرون أي يوم ذلك»؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «ذاك يوم يقول الله لآدم أبعث بعث النار قال يا رب وما بعث النار قال تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة». فأنشأ المسلمون يبكون، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «قاربوا وسددوا فإنه لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية- قال- فيؤخذ العدد من الجاهلية فإن تمت وإلا كملت من المنافقين وما مثلكم والأمم إلا كمثل الرقمة في ذراع الدابة أو كالشامة في جنب البعير- ثم قال- إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة- فكبروا، ثم قال- إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة- فكبروا، ثم قال- إنى لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة» فكبروا. قال: لا أدري قال الثلثين أم لا. قال: هذا حديث حسن صحيح، وقد روي من غير وجه عن الحسن عن عمران بن حصين. وفيه: فيئس القوم حتى ما أبدوا بضاحكة، فلما رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «اعملوا وأبشروا فوالذي نفسي بيده إنكم لمع خليقتين ما كانتا مع شيء إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج ومن مات من بني آدم وبني إبليس» قال: فسري عن القوم بعض الذي يجدون، فقال: «اعملوا وأبشروا فوالذي نفس محمد بيده ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير أو كالرقمة في ذراع الدابة» قال: هذا حديث حسن صحيح.
وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «يقول الله تعالى يا آدم فيقول لبيك وسعديك والخير في يديك- قال- يقول أخرج بعث النار قال وما بعث النار قال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين قال فذاك حين يشيب الصغير {وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}». قال: فاشتد ذلك عليهم، قالوا: يا رسول الله، أينا ذلك الرجل؟ فقال: «أبشروا فإن من يأجوج ومأجوج ألفا ومنكم رجل». وذكر الحديث بنحو ما تقدم في حديث عمران بن حصين.
وذكر أبو جعفر النحاس قال: حدثنا أحمد بن محمد ابن نافع قال حدثنا سلمة قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: {يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ}- إلى- {وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} قال: نزلت على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو في مسير له، فرفع بها صوته حتى ثاب إليه أصحابه فقال: «أتدرون أي يوم هذا هذا يوم يقول الله عز وجل لآدم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يا آدم قم فابعث بعث أهل النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة». فكبر ذلك على المسلمين، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سدوا وقاربوا وأبشروا فوالذي نفسي بيده ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير أو كالرقمة في ذراع الحمار وإن معكم الخليقتين ما كانتا مع شيء إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج ومن هلك من كفرة الجن والانس». قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} المراد بهذا النداء المكلفون، أي اخشوه في أوامره أن تتركوها، ونواهيه أن تقدموا عليها. والاتقاء: الاحتراس من المكروه، وقد تقدم في أول البقرة القول فيه مستوفى، فلا معنى لإعادته. والمعنى: احترسوا بطاعته عن عقوبته. قوله تعالى: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} الزلزلة شدة الحركة، ومنه: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} [البقرة: 214]. واصل الكلمة من زل عن الموضع، أي زال عنه وتحرك. وزلزل الله قدمه، أي حركها. وهذه اللفظة تستعمل في تهويل الشيء.
وقيل: هي الزلزلة المعروفة التي هي إحدى شرائط الساعة، التي تكون في الدنيا قبل يوم القيامة، هذا قول الجمهور. وقد قيل: إن هذه الزلزلة تكون في النصف من شهر رمضان، ومن بعدها طلوع الشمس من مغربها، فالله أعلم.
{يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)}
قوله تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَها}
الهاء في {تَرَوْنَها} عائدة عند الجمهور على الزلزلة، ويقوي هذا وقوله عز وجل. {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها}. والرضاع والحمل إنما هو في الدنيا. وقالت فرقة: الزلزلة في يوم القيامة، واحتجوا بحديث عمران بن حصين الذي ذكرناه، وفيه: «أتدرون أي يوم ذلك...»الحديث. وهو الذي يقتضيه سياق مسلم في حديث أبي سعيد الخدري. قوله: {تَذْهَلُ} أي تشتغل، قاله قطرب. وأنشد:
ضربا يزيل الهام عن مقيله *** ويذهل الخليل عن خليله
وقيل: تنسى. وقيل تلهو.
وقيل: تسلو، والمعنى متقارب. {عَمَّا أَرْضَعَتْ} قال المبرد: {ما} بمعنى المصدر، أي تذهل عن الإرضاع. قال: وهذا يدل على أن هذه الزلزلة في الدنيا، إذ ليس بعد البعث حمل وإرضاع. إلا أن يقال: من ماتت حاملا تبعث حاملا فتضع حملها للهول. ومن ماتت مرضعة بعثت كذلك. ويقال: هذا كما قال الله عز وجل: {يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً} [المزمل: 17].
وقيل: تكون مع النفخة الأولى.
وقيل: تكون مع قيام الساعة، حتى يتحرك الناس من قبورهم في النفخة الثانية. ويحتمل أن تكون الزلزلة في الآية عبارة عن أهوال يوم القيامة، كما قال تعالى: {مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا} [البقرة: 214]. وكما قال عليه السلام: «اللهم اهزمهم وزلزلهم». وفائدة ذكر هول ذلك اليوم التحريض على التأهب له والاستعداد بالعمل الصالح. وتسمية الزلزلة ب {شَيْءٌ} إما لأنها حاصلة متيقن وقوعها، فيستسهل لذلك أن تسمى شيئا وهي معدومة، إذ اليقين يشبه الموجودات. وإما على المآل، أي هي إذا وقعت شيء عظيم. وكأنه لم يطلق الاسم ألان، بل المعنى أنها إذا كانت فهي إذا شيء عظيم، ولذلك تذهل المراضع وتسكر الناس، كما قال: {وَتَرَى النَّاسَ سُكارى}أي من هولها ومما يدركهم من الخوف والفزع. {وَما هُمْ بِسُكارى}من الخمر.
وقال أهل المعاني، وترى الناس كأنهم سكارى. يدل عليه قراءة أبي زرعة هرم بن عمرو بن جرير بن عبد الله {وَتَرَى النَّاسَ} بضم التاء، أي تظن ويخيل إليك. وقرأ حمزة والكسائي {سكرى} بغير ألف. الباقون {سُكارى} وهما لغتان لجمع سكران، مثل كسلي وكسالى. والزلزلة: التحريك العنيف. والذهول. الغفلة عن الشيء بطروء ما يشغل عنه من هم أو وجع أو غيره. قال ابن زيد: المعنى تترك ولدها للكرب الذي نزل بها.
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (4)}
قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} قيل: المراد النضر بن الحارث، قال: إن الله عز وجل غير قادر على إحياء من قد بلي وعاد ترابا. {وَيَتَّبِعُ} أي في قوله ذلك. {كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ} متمرد. {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ} قال قتادة ومجاهد: أي من تولى الشيطان. {فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ}.
{يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)}
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} إلى قوله: {مُسَمًّى} فيه اثنتا عشرة مسألة: الأولى: قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} هذا احتجاج على العالم بالبداءة الأولى. وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} متضمنة التوقيف. وقرأ الحسن ابن أبي الحسن: {الْبَعْثِ} بفتح العين، وهي لغة في {البعث} عند البصريين. وهي عند الكوفيين بتخفيف {بعث}. والمعنى: يا أيها الناس إن كنتم في شك من الإعادة. {فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ} أي خلقنا أباكم الذي هو أصل البشر، يعني آدم عليه السلام {مِنْ تُرابٍ}. {ثُمَّ} خلقنا ذريته. {مِنْ نُطْفَةٍ} وهو المني، سمي نطفة لقلته، وهو القليل من الماء، وقد يقع على الكثير منه، ومنه الحديث {حتى يسير الراكب بين النطفتين لا يخشى جورا}. أراد بحر المشرق وبحر المغرب. والنطف: القطر. نطف ينطف وينطف. وليلة نطوفة دائمة القطر. {ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} وهو الدم الجامد. والعلق الدم العبيط، أي الطري.
وقيل: الشديد الحمرة. {ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ} وهي لحمة قليلة قدر ما يمضغ، ومنه الحديث {ألا وإن في الجسد مضغة}. وهذه الأطوار أربعة أشهر. قال ابن عباس: وفي العشر بعد الأشهر الاربعة ينفخ فيه الروح، فذلك عدة المتوفى عنها زوجها، أربعة أشهر وعشر.
الثانية: روى يحيى بن زكريا بن أبي زائدة حدثنا داود عن عامر عن علقمة عن ابن مسعود وعن ابن عمر أن النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك بكفه فقال: «يا رب، ذكر أم أنثى، شقي أم سعيد، ما الأجل والأثر، بأي أرض تموت؟ فيقال له أنطلق إلى أم الكتاب فإنك تجد فيها قصة هذه النطفة، فينطلق فيجد قصتها في أم الكتاب، فتخلق فتأكل رزقها وتطأ أثرها فإذا جاء أجلها قبضت فدفنت في المكان الذي قدر لها»، ثم قرأ عامر: {يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ}.
وفي الصحيح عن أنس بن مالك- ورفع الحديث- قال: «إن الله قد وكل بالرحم ملكا فيقول أي رب نطفة. أي رب علقة. أي رب مضغة. فإذا أراد الله أن يقضي خلقا- قال- قال الملك أي رب ذكر أو أنثى شقي أو سعيد. فما الرزق فما الأجل. فيكتب كذلك في بطن أمه».
وفي الصحيح أيضا عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: «إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم يقول أي رب أذكر أم أنثى...»وذكر الحديث.
وفي الصحيح عن عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الصادق المصدوق«إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد...»الحديث. فهذا الحديث مفسر للأحاديث الأول، فإن فيه: «يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم أربعين يوما علقة ثم أربعين يوما مضغة ثم يبعث الملك فينفخ فيه الروح» فهذه أربعة أشهر وفي العشر ينفخ الملك الروح، وهذه عدة المتوفي عنها زوجها كما قال ابن عباس. وقوله: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه» قد فسره ابن مسعود، سئل الأعمش: ما يجمع في بطن أمه؟ فقال: حدثنا خيثمة قال قال عبد الله: إذا وقعت النطفة في الرحم فأراد أن يخلق منها بشرا طارت في بشرة المرأة تحت كل ظفر وشعر ثم تمكث أربعين يوما ثم تصير دما في الرحم، فذلك جمعها، وهذا وقت كونها علقة.
الثالثة: نسبة الخلق والتصوير للملك نسبة مجازية لا حقيقية، وأن ما صدر عنه فعل ما في المضغة كان عند التصوير والتشكيل بقدرة الله وخلقه واختراعه، ألا تراه سبحانه قد أضاف إليه الخلقة الحقيقية، وقطع عنها نسب جميع الخليقة فقال: {وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ} [الأعراف: 11]. وقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون: 12- 13]. وقال: {يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ}.
وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن: 2]. ثم قال: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ}. [غافر: 64]. وقال: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]. وقال: {خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ}. [العلق: 2]. إلى غير ذلك من الآيات، مع ما دلت عليه قاطعات البراهين أن لا خالق لشيء من المخلوقات إلا رب العالمين. وهكذا القول في قول: «ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح» أي أن النفخ سبب خلق الله فيها الروح والحياة. وكذلك القول في سائر الأسباب المعتادة، فإنه بإحداث الله تعالى لا بغيره. فتأمل هذا الأصل وتمسك به، ففيه النجاة من مذاهب أهل الضلال الطبيعيين وغيرهم.
الرابعة: لم يختلف العلماء أن نفخ الروح فيه يكون بعد مائة وعشرين يوما، وذلك تمام أربعة أشهر ودخوله في الخامس، كما بيناه بالأحاديث. وعليه يعول فيما يحتاج إليه من الأحكام في الاستلحاق عند التنازع، وفي وجوب النفقات على حمل المطلقات، وذلك لتيقنه بحركة الجنين في الجوف. وقد قيل: إنه الحكمة في عدة المرأة من الوفاة بأربعة أشهر وعشر، وهذا الدخول في الخامس يحقق براءة الرحم ببلوغ هذه المدة إذا لم يظهر حمل.
الخامسة: النطفة ليست بشيء يقينا، ولا يتعلق بها حكم إذا ألقتها المرأة إذا لم تجتمع في الرحم، فهي كما لو كانت في صلب الرجل، فإذا طرحته علقة فقد تحققنا أن النطفة قد استقرت واجتمعت واستحالت إلى أول أحوال يتحقق به أنه ولد. وعلى هذا فيكون وضع العلقة فما فوقها من المضغة وضع حمل، تبرأ به الرحم، وتنقضي به العدة، ويثبت به لها حكم أم الولد. وهذا مذهب مالك رضي الله عنه وأصحابه.
وقال الشافعي رضي الله عنه:
لا اعتبار بإسقاط العلقة، وإنما الاعتبار بظهور الصورة والتخطيط، فإن خفي التخطيط وكان لحما فقولان بالنقل والتخريج، والمنصوص أنه تنقضي به العدة ولا تكون أم ولد. قالوا: لان العدة تنقضي بالدم الجاري، فبغيره أولى.
السادسة: قوله تعالى: {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} قال الفراء: {مُخَلَّقَةٍ} تامة الخلق، {وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} السقط.
وقال ابن الاعرابي: {مُخَلَّقَةٍ} قد بدأ خلقها، {وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} لم تصور بعد. ابن زيد: المخلقة التي خلق الله فيها الرأس واليدين والرجلين، و{غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} التي لم يخلق فيها شي. قال ابن العربي: إذا رجعنا إلى أصل الاشتقاق فإن النطفة والعلقة والمضغة مخلقة، لان الكل خلق الله تعالى، وإن رجعنا إلى التصوير الذي هو منتهى الخلقة كما قال الله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ} [المؤمنون: 14] فذلك ما قال ابن زيد. قلت: التخليق من الخلق، وفية معنى الكثرة، فما تتابع عليه الأطوار فقد خلق خلقا بعد خلق، وإذا كان نطفة فهو مخلوق، ولهذا قال الله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ} [المؤمنون: 14] والله أعلم. وقد قيل: إن قوله: {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} يرجع إلى الولد بعينه لا إلى السقط، أي منهم من يتم الرب سبحانه مضغته فيخلق له الأعضاء أجمع، ومنهم من يكون خديجا ناقصا غير تمام.
وقيل: المخلقة أن تلد المرأة لتمام الوقت. ابن عباس: المخلقة ما كان حيا، وغير المخلقة السقط. قال:
أفي غير المخلقة البكاء *** فأين الحزم ويحك والحياء
السابعة: أجمع العلماء على أن الامة تكون أم ولد بما تسقطه من ولد تام الخلق. وعند مالك والأوزاعي وغيرهما بالمضغة كانت مخلقة أو غير مخلقة. قال مالك: إذا علم أنها مضغة.
وقال الشافعي وأبو حنيفة: إن كان قد تبين له شيء من خلق بني آدم إصبع أو عين أو غير ذلك فهي له أم ولد. وأجمعوا على أن المولود إذا استهل صارخا يصلى عليه، فإن لم يستهل صارخا لم يصل عليه عند مالك وأبي حنيفة والشافعي وغيرهما. وروي عن ابن عمر أنه يصلى عليه، وقاله ابن المسيب وابن سيرين وغيرهما. وروي عن المغيرة بن شعبة أنه كان يأمر بالصلاة على السقط، ويقول سموهم واغسلوهم وكفنوهم وحنطوهم، فإن الله أكرم بالإسلام كبيركم وصغيركم، ويتلو هذه الآية {فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابـ} إلى- {وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ}. قال ابن العربي: لعل المغيرة بن شعبة أراد بالسقط ما تبين خلقه فهو الذي يسمى، وما لم يتبين خلقه فلا وجود له.
وقال بعض السلف: يصلي عليه متى نفخ فيه الروح وتمت له أربعة أشهر.
وروى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «إذا استهل المولود ورث». الاستهلال: رفع الصوت، فكل مولود كان ذلك منه أو حركة أو عطاس أو تنفس فإنه يورث لوجود ما فيه من دلالة الحياة. وإلى هذا ذهب سفيان الثوري والأوزاعي والشافعي. قال الخطابي: وأحسنه قول أصحاب الرأي.
وقال مالك: لا ميراث له وإن تحرك أو عطس ما لم يستهل صارخا. وروي عن محمد ابن سيرين والشعبي والزهري وقتادة.
الثامنة: قال مالك رضي الله عنه: ما طرحته المرأة من مضغة أو علقة أو ما يعلم أنه ولد إذا ضرب بطنها ففيه الغرة.
وقال الشافعي: لا شيء فيه حتى يتبين من خلقه شي. قال مالك: إذا سقط الجنين فلم يستهل صارخا ففيه الغرة. وسواء تحرك أو عطس فيه الغرة أبدا، حتى يستهل صارخا ففيه الدية كاملة.
وقال الشافعي رضي الله عنه وسائر فقهاء الأمصار: إذا علمت حياته بحركة أو بعطاس أو باستهلال أو بغير ذلك مما تستيقن به حياته ففيه الدية.
التاسعة: ذكر القاضي إسماعيل أن عدة المرأة تنقضي بالسقط الموضوع، واحتج عليه بأنه حمل، وقال قال الله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}. قال القاضي إسماعيل: والدليل على ذلك أنه يرث أباه، فدل على وجوده خلقا وكونه ولدا وحملا. قال ابن العربي: ولا يرتبط به شيء من هذه الأحكام إلا أن يكون مخلقا. قلت: ما ذكرناه من الاشتقاق وقول عليه الصلاة والسلام: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه» يدل على صحة ما قلناه، ولان مسقطة العلقة والمضغة يصدق على المرأة إذا ألقته أنها كانت حاملا وضعت ما استقر في رحمها، فيشملها قوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] ولأنها وضعت مبدأ الولد عن نطفة متجسدا كالمخطط، وهذا بين.
العاشرة: روى ابن ماجة: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا خالد بن مخلد حدثنا يزيد عن عبد الملك النوفلي عن يزيد بن رومان عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «لسقط أقدمه بين يدي أحب إلي من فارس أخلفه خلفي». وأخرجه الحاكم في معرفة علوم الحديث له عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة فقال: «أحب إلي من ألف فارس أخلفه ورائي».
الحادية عشرة: {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} يريد: كمال قدرتنا بتصريفنا أطوار خلقكم. {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ} قرئ بنصب {نقر} و{نخرج}، رواه أبو حاتم عن أبي زيد عن المفضل عن عاصم قال قال أبو حاتم: النصب على العطف.
وقال الزجاج: {نُقِرُّ} بالرفع لا غير، لأنه ليس المعنى: فعلنا ذلك لنقر في الأرحام ما نشاء، وإنما خلقهم عز وجل ليدلهم على الرشد والصلاح.
وقيل: المعنى لنبين لهم أمر البعث، فهو اعتراض بين الكلامين. وقرأت هذه الفرقة بالرفع. {وَنُقِرُّ}، المعنى: ونحن نقر. وهي قراءة الجمهور. وقرى: {ويقر} و{يخرجكم} بالياء، والرفع على هذا سائغ. وقرأ ابن وثاب: {ما نشاء} بكسر النون. والأجل المسمى يختلف بحسب جنين جنين، فثم من يسقط وثم من يكمل أمره ويخرج حيا. وقال: {ما نَشاءُ} ولم يقل من نشاء لأنه يرجع إلى الحمل، أي نقر في الأرحام ما نشاء من الحمل ومن المضغة وهي جماد فكنى عنها بلفظ ما.
الثانية عشرة: قوله تعالى: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} أي أطفالا، فهو اسم جنس. وأيضا فإن العرب قد تسمي الجمع باسم الواحد، قال الشاعر:
يلحينني في حبها ويلمنني *** وإن العواذل ليس لي بأمير
ولم يقل أمراء.
وقال المبرد: وهو اسم يستعمل مصدرا كالرضا والعدل، فيقع على الواحد والجمع، قال الله تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ} [النور: 31].
وقال الطبري: وهو نصب على التمييز، كقوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً}
[النساء: 4].
وقيل: المعنى ثم نخرج كل واحد منكم طفلا. والطفل يطلق من وقت انفصال الولد إلى البلوغ. وولد كل وحشية أيضا طفل. ويقال: جارية طفل، وجاريتان طفل وجوار طفل، وغلام طفل، وغلمان طفل. ويقال أيضا: طفل وطفلة وطفلان وطفلتان وأطفال. ولا يقال: طفلات. وأطفلت المرأة صارت ذات طفل. والمطفلة: الظبية معها طفلها، وهي قريبة عهد بالنتاج. وكذلك الناقة، والجمع مطافل ومطافيل. والطفل بالفتح في الطاء الناعم، يقال: جارية طفلة أي ناعمة، وبنان طفل. وقد طفل الليل إذا أقبل ظلامه. والطفل بالتحريك: بعد العصر إذا طفلت الشمس للغروب. والطفل أيضا: مطر، قال:
لوهد جاده طفل الثريا ***
{ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} قيل: إن {ثُمَّ} زائدة كالواو في قوله: {حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها} [الزمر: 73]، لان ثم من حروف النسق كالواو. {أَشُدَّكُمْ} كمال عقولكم ونهاية قواكم. وقد مضى في الأنعام بيانه. {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} [70] أي أخسه وأدونه، وهو الهرم والخرف حتى لا يعقل، ولهذا قال: {لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} كما قال في سورة يس: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} [يس: 68]. وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. يدعو فيقول: «اللهم إني أعوذ بك من البخل وأعوذ بك من الجبن وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر وأعوذ بك من فتنة الدنيا وعذاب القبر». أخرجه النسائي عن سعد، وقال: وكان يعلمهن بنيه كما يعلم المكتب الغلمان. وقد مضى في النحل هذا المعنى.
قوله تعالى: {وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً} ذكر دلالة أقوى على البعث فقال في الأول: {فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ} فخاطب جمعا.
وقال في الثاني: {وَتَرَى الْأَرْضَ} فخاطب واحدا، فانفصل اللفظ عن اللفظ، ولكن المعنى متصل من حيث الاحتجاج على منكري البعث. {هامِدَةً} يابسة لا تنبت شيئا، قال ابن جريج.
وقيل: دارسة. والهمود الدروس. قال الأعشى:
قالت قتيلة ما لجسمك شاحبا *** وأرى ثيابك باليات همدا
الهروي: {هامِدَةً} أي جافة ذات تراب.
وقال شمر: يقال: همد شجر الأرض إذا بلي وذهب. وهمدت أصواتهم إذا سكنت. وهمود الأرض ألا يكون فيها حياة ولا نبت ولا عود ولم يصبها مطر.
وفي الحديث: «حتى كاد يهمد من الجوع» أي يهلك. يقال: همد الثوب يهمد إذا بلي. وهمدت النار تهمد. قوله تعالى: {فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ} أي تحركت. والاهتزاز: شدة الحركة، يقال: هززت الشيء فاهتز، أي حركته فتحرك. وهز الحادي الإبل هزيزا فاهتزت هي إذا تحركت في سيرها بحدائه. واهتز الكوكب في انقضاضه. وكوكب هاز. فالأرض تهتز بالنبات، لان النبات لا يخرج منها حتى يزيل بعضها من بعض إزالة خفية، فسماه اهتزازا مجازا.
وقيل: اهتز نباتها، فحذف المضاف، قال المبرد، واهتزازه شدة حركته، كما قال الشاعر:
تثنى إذا قامت وتهتز إن مشت *** كما اهتز غصن البان في ورق خضر
والاهتزاز في النبات أظهر منه في الأرض. {وَرَبَتْ} أي ارتفعت وزادت.
وقيل: انتفخت، والمعنى واحد، وأصله الزيادة. ربا الشيء يربو ربوا أي زاد، ومنه الربا والربوة. وقرأ يزيد بن القعقاع وخالد بن إلياس {وربأت} أي ارتفعت حتى صارت بمنزلة الربيئة، وهو الذي يحفظ القوم على شيء مشرف، فهو رابي وربيئة على المبالغة. قال امرؤ القيس:
بعثنا ربيئا قبل ذاك مخملا *** كذئب الغضا يمشي الضراء ويتقي
{وَأَنْبَتَتْ} أي أخرجت. {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ} أي لون. {بَهِيجٍ} أي حسن، عن قتادة. أي يبهج من يراه. والبهجة الحسن، يقال: رجل ذو بهجة. وقد بهج بالضم بهاجة وبهجة فهو بهيج. وأبهجني أعجبني بحسنه. ولما وصف الأرض بالإنبات دل على أن قوله: {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} يرجع إلى الأرض لا إلى النبات. والله أعلم.
{ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)}
قوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} لما ذكر افتقار الموجودات إليه وتسخيرها على وفق اقتداره واختياره في قول: {يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} إلى قوله: {بَهِيجٍ}. قال بعد ذلك: {ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ}. فنبه سبحانه وتعالى بهذا على أن كل ما سواه وإن كان موجودا حقا فإنه لا حقيقة له من نفسه، لأنه مسخر مصرف. والحق الحقيقي: هو الموجود المطلق الغني المطلق، وأن وجود كل ذي وجود عن وجوب وجوده، ولهذا قال في آخر السورة: {وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ} [الحج: 62]. والحق الموجود الثابت الذي لا يتغير ولا يزول، وهو الله تعالى.
وقيل: ذو الحق على عباده.
وقيل: الحق بمعنى في أفعاله.
وقال الزجاج: {ذلِكَ} في موضع رفع، أي الامر ما وصف لكم وبين. {بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} أي لان الله هو الحق. وقال: ويجوز أن يكون {ذلِكَ} نصبا، أي فعل الله ذلك بأنه هو الحق. {وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى} أي بأنه {وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي وبأنه قادر على ما أراد. {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ} عطف على قوله: {ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} من حيث اللفظ، وليس عطفا في المعنى، إذ لا يقال فعل الله ما ذكر بأن الساعة آتية، بل لأبد من إضمار فعل يتضمنه، أي وليعلموا أن الساعة آتية {لا رَيْبَ فِيها} أي لا شك. {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} يريد للثواب والعقاب.
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (
ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (9) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (10)}
قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ} أي نير بين الحجة. نزلت في النضر بن الحارث.
وقيل: في أبي جهل بن هشام، قال ابن عباس. والمعظم على أنها نزلت في النضر بن الحارث كالآية الأولى، فهما في فريق واحد، والتكرير للمبالغة في الذم، كما تقول للرجل تذمه وتوبخه: أنت فعلت هذا! أنت فعلت هذا! ويجوز أن يكون التكرير لأنه وصفه في كل آية بزيادة، فكأنه قال: إن النضر بن الحارث يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد، والنضر بن الحارث يجادل في الله من غير علم ومن غير هدى وكتاب منير، ليضل عن سبيل الله. وهو كقولك: زيد يشتمني وزيد يضربني، وهو تكرار مفيد، قال القشيري. وقد قيل: نزلت فيه بضع عشرة آية. فالمراد بالآية الأولى إنكاره البعث، وبالثانية إنكاره النبوة، وأن القرآن منزل من جهة الله. وقد قيل: كان من قول النضر بن الحارث أن الملائكة بنات الله، وهذا جدال في الله تعالى: {مِنَ} في موضع رفع بالابتداء. والخبر في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ}. {ثانِيَ عِطْفِهِ} نصب على الحال. ويتأول على معنيين: أحدهما- روي عن ابن عباس أنه قال: هو النضر بن الحارث، لوى عنقه مرحا وتعظما. والمعنى الأخر: وهو قول الفراء: أن التقدير: ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ثاني عطفه، أي معرضا عن الذكر، ذكره النحاس.
وقال مجاهد وقتادة: لاويا عنقه كفرا. ابن عباس: معرضا عما يدعى إليه كفرا. والمعنى واحد.
وروى الأوزاعي عن مخلد بن حسين عن هشام بن حسان عن ابن عباس في قوله عز وجل: {ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} قال: هو صاحب البدعة. المبرد: العطف ما انثنى من العنق.
وقال المفضل: والعطف الجانب، ومنه قولهم: فلان ينظر في أعطافه، أي في جوانبه. وعطفا الرجل من لدن رأسه إلى وركه. وكذلك عطفا كل شيء جانباه. ويقال: ثنى فلان عني عطفه إذا أعرض عنك. فالمعنى: أي هو معرض عن الحق في جداله ومول عن النظر في كلامه، وهو كقوله تعالى: {وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها} [لقمان: 7]. وقوله تعالى: {لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ} [المنافقون: 5]. وقوله: {أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ} [الاسراء: 83]. وقوله: {ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى} [القيامة: 33]. {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي عن طاعة الله تعالى. وقرى {ليضل} بفتح الياء. واللام لام العاقبة، أي يجادل فيضل، كقوله تعالى: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً} [القصص: 8]. أي فكان لهم كذلك. ونظيره {إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ. لِيَكْفُرُوا} [النحل:4 5- 55]. {لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ} أي هوان وذل بما يجري له من الذكر القبيح على ألسنة المؤمنين إلى يوم القيامة، كما قال: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ 10} [القلم: 10] الآية. وقوله تعالى: {تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1].
وقيل: الخزي هاهنا القتل، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتل النضر بن الحارث يوم بدر صبرا، كما تقدم في آخر الأنفال. {وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ} أي نار جهنم. {ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ} 10 أي يقال له في الآخرة إذا دخل النار: ذلك العذاب بما قدمت يداك من المعاصي والكفر. وعبر باليد عن الجملة، لان اليد التي تفعل وتبطش للجملة. و{ذلِكَ} بمعنى هذا، كما تقدم في أول البقرة.
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11)}
قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ} {مِنَ} في موضع رفع بالابتداء، والتمام {انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ} على قراءة الجمهور {خَسِرَ}. وهذه الآية خبر عن المنافقين. قال ابن عباس: يريد شيبة بن ربيعة كان قد أسلم قبل أن يظهر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما أوحى إليه ارتد شيبة بن ربيعة.
وقال أبو سعيد الخدري: أسلم رجل من اليهود فذهب بصره وماله، فتشاءم بالإسلام فأتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال أقلني! فقال: «إن الإسلام لا يقال» فقال: إني لم أصب في ديني هذا خيرا! ذهب بصري ومالي وولدي! فقال: «يا يهودي إن الإسلام يسبك الرجال كما تسبك النار خبث الحديد والفضة والذهب»، فأنزل الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ}.
وروى إسرائيل عن أبي حصين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ} قال: كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلاما ونتجت خيله قال هذا دين صالح، فإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال هذا دين سوء.
وقال المفسرون: نزلت في أعراب كانوا يقدمون على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيسلمون، فإن نالوا رخاء أقاموا، وإن نالتهم شدة ارتدوا. وقيل نزلت في النضر بن الحارث.
وقال ابن زيد وغيره: نزلت في المنافقين. ومعنى {عَلى حَرْفٍ} على شك، قاله مجاهد وغيره. وحقيقته أنه على ضعف في عبادته، كضعف القائم على حرف مضطرب فيه. وحرف كل شيء طرفه وشفيره وحده، ومنه حرف الجبل، وهو أعلاه المحدد.
وقيل: {عَلى حَرْفٍ} أي على وجه واحد، وهو أن يعبده على السراء دون الضراء، ولو عبدوا الله على الشكر في السراء والصبر على الضراء لما عبدوا الله على حرف.
وقيل: {عَلى حَرْفٍ} على شرط، وذلك أن شيبة ابن ربيعة قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أن يظهر أمره: أدع لي ربك أن يرزقني مالا وابلا وخيلا وولدا حتى أو من بك وأعدل إلى دينك، فدعا له فرزقه الله عز وجل ما تمنى، ثم أراد الله عز وجل فتنته واختباره وهو أعلم به فأخذ منه ما كان رزقه بعد أن أسلم فارتد عن الإسلام فأنزل الله تبارك وتعالى فيه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ} يريد شرط.
وقال الحسن: هو المنافق يعبد الله بلسانه دون قلبه. وبالجملة فهذا الذي يعبد الله على حرف ليس داخلا بكليته، وبين هذا بقوله: {فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ} صحة جسم ورخاء معيشة رضي وأقام على دينه. {وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ} أي خلاف ذلك مما يختبر به {انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ} أي ارتد فرجع إلى وجهه الذي كان عليه من الكفر. {خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ} قرأ مجاهد وحميد بن قيس والأعرج والزهري وابن أبي إسحاق- وروي عن يعقوب- {خاسر الدنيا} بألف، نصبا على الحال، وعليه فلا يوقف على {وَجْهِهِ}. وخسرانه الدنيا بأن لاحظ في غنيمة ولا ثناء، والآخرة بأن لا ثواب له فيها.
{يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12)}
قوله تعالى: {يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي هذا الذي يرجع إلى الكفر يعبد الصنم الذي ولا ينفع ولا يضر. {ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} قال الفراء: الطويل.
{يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)}
قوله تعالى: {يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} أي هذا الذي انقلب على وجهه يدعو من ضره أدنى من نفعه، أي في الآخرة لأنه بعبادته دخل النار، ولم ير منه نفعا أصلا، ولكنه قال: ضره أقرب من نفعه ترفيعا للكلام، كقوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24].
وقيل: يعبدونهم توهم أنهم يشفعون لهم غدا، كما قال الله تعالى:
{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ 10: 18} [يونس: 18].
وقال تعالى: {ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى} [الزمر: 3].
وقال الفراء والكسائي والزجاج: معنى الكلام القسم والتأخير، أي يدعو والله لمن ضره أقرب من نفعه. فاللام مقدمة في غير موضعها. و{مِنْ} في موضع نصب ب {يَدْعُوا} واللام جواب القسم. و{ضَرُّهُ} مبتدأ و{أَقْرَبُ} خبره. وضعف النحاس تأخير اللام وقال: وليس للأم من التصرف ما يوجب أن يكون فيها تقديم ولا تأخير. قلت: حق اللام التقديم وقد تؤخر، قال الشاعر:
خالي لانت ومن جرير خال *** ينل العلاء ويكرم الاخوالا
أي لخالي أنت، وقد تقدم. النحاس: وحكى لنا علي بن سليمان عن محمد بن يزيد قال: في الكلام حذف، والمعنى يدعو لمن ضره أقرب من نفعه إلها. قال النحاس: وأحسب هذا القول غلطا على محمد بن يزيد، لأنه لا معنى له، لان ما بعد اللام مبتدأ فلا يجوز نصب إله، وما أحسب مذهب محمد بن يزيد إلا قول الأخفش، وهو أحسن ما قيل في الآية عندي، والله أعلم، قال: {يَدْعُوا} بمعنى يقول. و{مِنْ} مبتدأ وخبره محذوف، والمعنى يقول لمن ضره أقرب من نفعه إلهه. قلت: وذكر هذا القول القشيري رحمه الله عن الزجاج والمهدوي عن الأخفش، وكمل إعرابه فقال: {يَدْعُوا} بمعنى يقول، و{مِنْ} مبتدأ، و{ضَرُّهُ} مبتدأ ثان، و{أَقْرَبُ} خبره، والجملة صلة {مِنْ}، وخبر {مِنْ} محذوف، والتقدير يقول لمن ضره أقرب من نفعه إلهه، ومثله قول عنترة:
يدعون عنتر والرماح كأنها *** أشطان بئر في لبان الأدهم
قال القشيري: والكافر الذي يقول الصنم معبودي لا يقول ضره أقرب من نفعه، ولكن المعنى يقول الكافر لمن ضره أقرب من نفعه في قول المسلمين معبودي وإلهي. وهو كقوله تعالى: {يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ} [الزخرف: 49]، أي يا أيها الساحر عند أولئك الذين يدعونك ساحرا.
وقال الزجاج: يجوز أن يكون {يَدْعُوا} في موضع الحال، وفية هاء محذوفة، أي ذلك هو الضلال البعيد يدعوه، أي في حال دعائه إياه، ففي {يَدْعُوا} هاء مضمرة، ويوقف على هذا على {يَدْعُوا}. وقوله: {لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} كلام مستأنف مرفوع بالابتداء، وخبره {لَبِئْسَ الْمَوْلى}، وهذا لان اللام لليمين والتوكيد فجعلها أول الكلام. قال الزجاج ويجوز أن يكون {ذلِكَ} بمعنى الذي، ويكون في محل النصب بوقوع {يَدْعُوا} عليه، أي الذي هو في الضلال البعيد يدعو، كما قال: {وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى 20: 17} أي ما الذي. ثم قوله: {لَمَنْ ضَرُّهُ} كلام مبتدأ، و{لَبِئْسَ الْمَوْلى} خبر المبتدأ، وتقدير الآية على هذا: يدعو الذي هو الضلال البعيد، قدم المفعول وهو الذي، كما تقول: زيدا يضرب، واستحسنه أبو علي. وزعم الزجاج أن النحويين أغفلوا هذا القول، وأنشد:
عدس ما لعباد عليك إمارة *** نجوت وهذا تحملين طليق
أي والذي.
وقال الزجاج أيضا والفراء: يجوز أن يكون {يَدْعُوا} مكررة على ما قبلها، على جهة تكثير هذا الفعل الذي هو الدعاء، ولا تعديه إذ قد عديته أولا، أي يدعو من دون الله ما لا ينفعه ولا يضره يدعو، مثل ضربت زيدا ضربت، ثم حذفت يدعو الآخرة اكتفاء بالأولى. قال الفراء: ويجوز {لَمَنْ ضَرُّهُ} بكسر اللام، أي يدعو إلى من ضره أقرب من نفعه، قال الله عز وجل: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها} أي إليها.
وقال الفراء أيضا والقفال: اللام صلة، أي يدعو من ضره أقرب من نفعه، أي يعبده. وكذلك هو في قراءة عبد الله بن مسعود. {لَبِئْسَ الْمَوْلى} أي في التناصر {وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} أي المعاشر والصاحب والخليل. مجاهد: يعني الوثن.