{الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (3)}
قوله تعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} تقدم القول في أوائل السور.
وقال ابن عباس: المعنى أنا الله أعلم.
وقيل: هو أسم للسورة وقل اسم للقرآن. {حَسِبَ} استفهام أريد به التقرير والتوبيخ ومعناه الظن. {أَنْ يُتْرَكُوا} في موضع نصب ب {حَسِبَ} وهي وصلتها مقام المفعولين على قول سيبويه. و{أَنْ} الثانية من {أَنْ يَقُولُوا} في موضع نصب على إحدى جهتين، بمعنى لان يقولوا أو بأن يقولوا أو على أن يقولوا. والجهة الأخرى أن يكون على التكرير، التقدير {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} احسبوا {أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} قال ابن عباس وغيره: يريد بالناس قوما من المؤمنين كانوا بمكة، وكان الكفار من قريش يؤذونهم ويعذبونهم على الإسلام، كسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد وعمار بن ياسر وياسر أبوه وسميه أمه وعدة من بني مخزوم وغيرهم. فكانت صدورهم تضيق لذلك، وربما استنكر أن يمكن الله الكفار من المؤمنين، قال مجاهد وغيره: فنزلت هذه الآية مسلية ومعلمة أن هذه هي سيرة الله في عباده اختبارا للمؤمنين وفتنة. قال ابن عطية: وهذه الآية وإن كانت نزلت بهذا السبب أو ما في معناه من الأقوال فهي باقية في أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، موجود حكمها بقية الدهر. وذلك أن الفتنة من الله تعالى باقية في ثغور المسلمين بالأسر ونكاية العدو وغير ذلك. وإذا أعتبر أيضا كل موضع ففيه ذلك بالأمراض وأنواع المحن. ولكن التي تشبه نازلة المسلمين مع قريش هي ما ذكرناه من أمر العدو في كل ثغر. قلت: ما أحسن ما قاله، ولقد صدق فيما قال رضي الله عنه.
وقال مقاتل: نزلت في مهجع مولى عمر بن الخطاب كان أول قتيل من المسلمين يوم بدر، رماه عامر بن الحضرمي بسهم فقتله. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذ: «سيد الشهداء مهجع وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الامة». فجزع عليه أبواه وامرأته فنزلت {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} وقال الشعبي: نزل مفتتح هذه السورة في أناس كانوا بمكة من المسلمين، فكتب إليهم أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الحديبية أنه لا يقبل منكم إقرار الإسلام حتى تهاجروا، فخرجوا فأتبعهم المشركون فآذوهم. فنزلت فيهم هذه الآية: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} فكتبوا إليهم: نزلت فيكم آية كذا، فقالوا: نخرج وإن اتبعنا أحد قاتلناه، فاتبعهم المشركون فقاتلوهم، فمنهم من قتل ومنهم من نجا فنزل فيهم: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا} {وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} يمتحنون، أي أظن الذين جزعوا من أذى المشركين أن يقنع منهم أن يقولوا إنا مؤمنون ولا يمتحنون في إيمانهم وأنفسهم وأموالهم بما يتبين به حقيقة إيمانهم. قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي ابتلينا الماضين كالخليل ألقى في النار، وكقوم نشروا بالمناشير في دين الله فلم يرجعوا عنه.
وروى البخاري عن خباب بن الأرت: قالوا شكونا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا فقال: «قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد لحمه وعظمه فما يصرفه ذلك عن دينه والله ليتمن هذا الامر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون» وخرج ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري قال: دخلت على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يوعك، فوضعت يدي عليه، فوجدت حره بين يدي فوق اللحاف. فقلت: يا رسول الله ما أشدها عليك. قال: «إنا كذلك يضعف لنا البلاء ويضعف لنا الأجر» قلت: يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال: «الأنبياء» وقلت: ثم من. قال: «ثم الصالحون إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يحوبها وأن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء».
وروى سعد بن أبي وقاص قال: قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال: «الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلبا أشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقة أبتلي على حسب دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه من خطيئة».
وروى عبد الرحمن بن زيد أن عيسى عليه السلام كان له وزير، فركب يوما فأخذه السبع فأكله، فقال عيسى: يا رب وزيري في دينك، وعوني على بني إسرائيل، وخليفتي فيهم، سلطت عليه كلبا فأكله. قال: «نعم كانت له عندي منزلة رفيعة لم أجد عمله يبلغها فابتليته بذلك لا بلغه تلك المنزلة».
وقال وهب: قرأت في كتاب رجل من الحواريين: إذ سلك بك سبيل البلاء فقر عينا، فإنه سلك بك سبيل الأنبياء والصالحين، وإذا سلك بك سبيل الرخاء فابك على نفسك، فقد خولف بك عن سبيلهم قواه تعالى: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا} أي فليرين الله الذين صدقوا في إيمانهم. وقد مضى هذا المعنى في البقرة وغيرها. قال الزجاج: ليعلم صدق الصادق بوقوع صدقه منه، وقد علم الصادق من الكاذب قبل أن يخلقهما، ولكن القصد قصد وقوع العلم بما يجازى عليه. وإنما يعلم صدق الصادق واقعا كائنا وقوعه، وقد علم أنه سيقع.
وقال النحاس: فيه قولان أحدهما أن يكون {صَدَقُوا} مشتقا من الصدق و{الْكاذِبِينَ} مشتقا من الكذب الذي هو ضد الصدق، ويكون المعنى، فليبينن الله الذين صدقوا فقالوا نحن مؤمنون واعتقدوا مثل ذلك، والذين كذبوا حين اعتقدوا غير ذلك. والقول الآخر أن يكون صدقوا مشتقا من الصدق وهو الصلب والكاذبين مشتقا من كذب إذا انهزم، فيكون المعنى، فليعلمن الله الذين ثبتوا في الحرب، والذين انهزموا، كما قال الشاعر:
ليث بعثر يصطاد الرجال إذا *** ما الليث كذب عن أقرانه صدقا
فجعل {لَيَعْلَمَنَّ} في موضع فليبينن مجازا. وقراءة الجماعة {فَلَيَعْلَمَنَّ} بفتح الياء واللام. وقرأ علي بن أبي طالب بضم الياء وكسر اللام وهي تبين معنى ما قاله النحاس. ويحتمل ثلاثة معان: الأول أن يعلم في الآخرة هؤلاء الصادقين والكاذبين بمنازلهم من ثوابه وعقابه وبأعمالهم في الدنيا، بمعنى يوقفهم على ما كان منهم.
الثاني أن يكون المفعول الأول محذوفا تقديره، فليعلمن الناس والعالم هؤلاء الصادقين والكاذبين، أي يفضحهم ويشهرهم، هؤلاء في الخير وهؤلاء في الشر، وذلك في الدنيا والآخرة.
الثالث أن يكون ذلك من العلامة، أي يضع لكل طائفة علامة يشتهر بها. فالآية على هذا تنظر إلى قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «من أسر سريرة ألبسه الله رداءها».
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (7)}
قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ} أي الشرك قال: {أَنْ يَسْبِقُونا} أي يفوتنا ويعجزونا قبل أن نؤاخذهم بما يفعلون. قال ابن عباس: يريد الوليد بن المغيرة وأبا جهل والأسود والعاص بن هشام وشيبة وعتبة والوليد بن عتبة وعقبة بن أبي معيط وحنظلة بن أبي سفيان والعاص بن وائل. {ساءَ ما يَحْكُمُونَ} أي بئس الحكم ما حكموا في صفات ربهم أنه مسبوق والله القادر على كل شي. و{ما} في موضع نصب بمعنى ساء شيئا أو حكما يحكمون. ويجوز أن تكون {ما} في موضع رفع بمعنى ساء الشيء أو الحكم حكمهم. وهذا قول الزجاج. وقدرها ابن كيسان تقدير ين آخرين خلاف ذينك: أحدهما أن يكون موضع {ما يَحْكُمُونَ} بمنزلة شيء واحد، كما تقول: أعجبني ما صنعت، أي صنيعك، ف {ما} والفعل مصدر في موضع رفع، التقدير، ساء حكمهم. والتقدير الآخر أن تكون {ما} لا موضع لها من الاعراب، وقد قامت مقام الاسم لساء، وكذلك نعم وبئس. قال أبو الحسن ابن كيسان: وأنا أختار أن أجعل ل {ما} موضعا في كل ما أقدر عليه، نحو قوله عز وجل: {فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} وكذا {فَبِما نَقْضِهِمْ} وكذا {أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ} {ما} في موضع خفض في هذا كله وما بعده تابع لها، وكذا {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً} {ما} في موضع نصب و{بَعُوضَةً} تابع لها. قوله تعالى: {مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} {يَرْجُوا} بمعنى يخاف من قول الهذلي في وصف عسال:
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها وأجمع أهل التفسير على أن المعنى: من كان يخاف الموت فليعمل عملا صالحا فإنه لا بد أن يأتيه، ذكره النحاس. قال الزجاج: معنى {يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ} ثواب الله و{مَنْ} في موضع رفع بالابتداء و{كانَ} في موضع الخبر، وهي في موضع جزم بالشرط، و{يَرْجُوا} في موضع خبر كان، والمجازاة {فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}. قوله تعالى: {وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ} أي ومن جاهد في الدين، وصبر على قتال الكفار وأعمال الطاعات، فإنما يسعى لنفسه، أي ثواب ذلك كله له، ولا يرجع إلى الله نفع من ذلك. {إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ} أي عن أعمالهم وقيل: المعنى، من جاهد عدوه لنفسه لا يريد وجه الله فليس لله حاجة بجهاده.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا} أي صدقوا {وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ} أي لنغطينها عنهم بالمغفرة لهم. {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ} أي بأحسن أعمالهم وهو الطاعات. ثم قيل: يحتمل أن تكفر عنهم كل معصية عملوها في الشرك ويثابوا على ما عملوا من حسنة في الإسلام. ويحتمل أن تكفر عنهم سيئاتهم في الكفر والإسلام. ويثابوا على حسناتهم في الكفر والإسلام.
{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)}
قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً} نزلت في سعد بن أبي وقاص فيما روى الترمذي قال: أنزلت في أربع آيات فذكر قصة، فقالت أم سعد: أليس قد أمر الله بالبر! والله لا أطعم طعاما، ولا أشرب شرابا حتى أموت أو تكفر، قال: فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا فاها فنزلت هذه الآية: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً} الآية قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وروي عن سعد أنه قال: كنت بارا بأمي فأسلمت، فقالت: لتدعن دينك أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتعير بي، ويقال يا قاتل أمه، وبقيت يوما ويوما فقلت: يا أماه! لو كانت لك مائة نفس، فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني هذا فإن شئت فكلي، وإن شئت فلا تأكلي، فلما رأت ذلك أكلت ونزلت: {وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي} الآية.
وقال ابن عباس: نزلت في عياش بن أبي ربيعة أخى أبي جهل لامه وقد فعلت أمه مثل ذلك. وعنه أيضا: نزلت في جميع الامة إذ لا يصبر على بلاء الله إلا صديق. و{حُسْناً} نصب عند البصريين على التكرير أي ووصيناه حسنا.
وقيل: هو على القطع تقديره ووصيناه بالحسن كما تقول وصيته خيرا أي بالخير وقال أهل الكوفة: تقديره ووصينا الإنسان أن يفعل حسنا فيقدر له فعل.
وقال الشاعر:
عجبت من دهماء إذ تشكونا *** ومن أبي دهماء إذ يوصينا
خيرا بها كأنما خافونا أي يوصينا أن نفعل بها خيرا، كقوله: {فَطَفِقَ مَسْحاً} أي يمسح مسحا.
وقيل: تقديره ووصيناه أمرا ذا حسن، فأقيمت الصفة مقام الموصوف، وحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
وقيل: معناه ألزمناه حسنا. وقراءة العامة {حُسْناً} بضم الحاء وإسكان السين. وقراء أبو رجاء وأبو العالية والضحاك بفتح الحاء والسين. وقرأ الجحدري. {إحسانا} على المصدر، وكذلك في مصحف أبى، التقدير: ووصينا الإنسان أن يحسن إليهما إحسانا، ولا ينتصب بوصينا، لأنه قد استوفي مفعولية. {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} وعيد في طاعة الوالدين في معنى الكفر. {فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ} كرر تعالى التمثيل بحالة المؤمنين العاملين لتحرك النفوس إلى نيل مراتبهم. وقوله: {لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ} مبالغة على معنى، فالذين هم في نهاية الصلاح وأبعد غاياته. وإذا تحصل للمؤمن هذا الحكم تحصل ثمرته وجزاؤه وهو الجنة.
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (11)}
قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} الآية نزلت في المنافقين كانوا يقولن آمنا بالله {فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ} أي أذاهم {كَعَذابِ اللَّهِ} في الآخره فارتد عن إيمانه.
وقيل: جزع من ذلك كما يجزع من عذاب الله ولا يصبر غلى الأذية في الله.
{وَلَئِنْ جاءَ} المؤمنين {نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ} هؤلاء المرتدون {إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} وهم كاذبون، فقال الله لهم {أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ} يعني الله أعلم بما في صدورهم منهم بأنفسهم.
وقال مجاهد: نزلت في ناس كانوا يؤمنون بألسنتهم، فإذا أصابهم بلاء من الله أو مصيبة في أنفسهم افتتنوا.
وقال الضحاك: نزلت في ناس من المنافقين بمكة كانوا يؤمنون، فإذا أوذوا رجعوا إلى الشرك وقال عكرمة: كان قوم قد أسلموا فأكرههم المشركون على الخروج معهم إلى بدر فقتل بعضهم، فأنزل الله {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ} فكتب بها المسلمون من المدينة إلى المسلمين بمكة، فخرجوا فلحقهم المشركون، فافتتن بعضهم، فنزلت هذه الآية فيهم.
وقيل: نزلت في عياش بن أبي ربيعة، أسلم وهاجر، ثم أوذي وضرب فارتد. وإنما عذبه أبو جهل والحرث وكانا أخويه لامه. قال ابن عباس: ثم عاش بعد ذلك بدهر وحسن إسلامه. {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ} قال قتادة: نزلت في القوم الذين ردهم المشركون إلى مكة.
{وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13)}
قوله تعالى: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا} أي ديننا. {وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ} جزم على الامر. قال الفراء والزجاج: هو أمر في تأويل الشرط والجزاء، أي إن تتبعوا سبيلنا نحمل خطاياكم، كما قال:
فقلت ادعي وادع فإن أندى *** لصوت أن ينادى داعيان
أي إن دعوت دعوت. قال المهدوي: وجاء وقوع {إنهم لكاذبون} بعده على الحمل على المعنى، لان المعنى إن اتبعتم سبيلنا حملنا خطاياكم. فلما كان الامر يرجع في المعنى إلى الخبر وقع عليه التكذيب كما يوقع عليه الخبر. قال مجاهد: قال المشركون من قريش نحن وأنتم لا نبعث، فإن كان عليكم وزر فعلينا، أي نحن نحمل عنكم ما يلزمكم. والحمل هاهنا بمعنى الحمالة لا الحمل على الظهر.
وروى أن قائل ذلك الوليد بن المغيرة. {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ} يعني ما يحمل عليهم من سيئات من ظلموه بعد فراغ حسناتهم. روي معناه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد تقدم في آل عمران. قال أبو أمامة الباهلي: «يؤتى الرجل يوم القيامة وهو كثير الحسنات فلا يزال يقتص منه حتى تفنى حسناته ثم يطالب فيقول الله عز وجل اقتصوا من عبدي فتقول الملائكة ما بقيت له حسنات فيقول خذوا من سيئات المظلوم فاجعلوا عليه» ثم تلا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ} وقال قتادة: من دعا إلى ضلالة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شي. ونظيره قوله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ}. ونظير هذا قوله عليه السلام: «من سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزار هم شي» روي من حديث أبي هريرة وغيره.
وقال الحسن قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «من دعا إلى هدى فاتبع عليه وعمل به فله مثل أجور من اتبعه ولا ينقص ذلك من أجورهم شيئا وأيما داع دعا إلى ضلالة فاتبع عليها وعمل بها بعده فعليه مثل أوزار من عمل بها ممن أتبعه لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا» ثم قرأ الحسن {وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم}. قلت: هذا مرسل وهو معنى حديث أبي هريرة خرجه مسلم. ونص حديث أنس بن مالك عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «أيما داع دعا إلى ضلالة فاتبع فإن له مثل أوزار من اتبعه ولا ينقص من أوزارهم شيئا وأيما داع دعا إلى هدى فاتبع فإن له مثل أجور من اتبعه ولا ينقص من أجورهم شيئا» خرجه ابن ماجه في السنن.
وفي الباب عن أبي جحيفة وجرير. وقد قيل: أن المراد أعوان الظلمة.
وقيل: أصحاب البدع إذا اتبعوا عليها وقيل: محدثو السنن الحادثة إذا عمل بها من بعدهم. والمعنى متقارب والحديث يجمع ذلك كله.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (15)}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً} ذكر قصة نوح تسلية لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي ابتلى النبيون قبلك بالكفار فصبروا. وخص نوحا بالذكر، لأنه أول رسول أرسل إلى الأرض وقد امتلأت كفرا على ما تقدم بيانه في هود. وأنه لم يلق نبي من قومه ما لقي نوح على ما تقدم في هود عن الحسن وروي عن قتادة عن أنس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «أول نبي أرسل نوح» قال قتادة: وبعث من الجزيرة. وأختلف في مبلغ عمره. فقيل: مبلغ عمره ما ذكره الله تعالى في كتابه. قال قتادة: لبث فيهم قبل أن يدعوهم ثلاثمائة سنة ودعاهم ثلاثمائة سنة، ولبث بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة.
وقال ابن عباس: بعث نوح لأربعين سنة، ولبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، وعاش بعد الغرق ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا. وعنه أيضا: أنه بعث وهو ابن ميتين وخمسين سنة، ولبث فيهم ألف سنة إلا خمسين، وعاش بعد الطوفان مائتي سنة.
وقال وهب: عمر نوح ألفا وأربعمائة سنة.
وقال كعب الأحبار: لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، وعاش بعد الطوفان سبعين عاما فكان مبلغ عمره ألف سنة وعشرين عاما.
وقال عون بن شداد: بعث نوح وهو ابن خمسين وثلاثمائة سنة، ولبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، وعاش بعد الطوفان ثلاثمائة سنة وخمسين سنة، فكان مبلغ عمره ألف سنة وستمائة سنة وخمسين سنة ونحوه عن الحسن. قال الحسن: لما أتى ملك الموت نوحا ليقبض روحه قال: يا نوح كم عشت في الدنيا؟ قال: ثلاثمائة قبل أن أبعث، وألف سنة إلا خمسين عاما في قومي، وثلاثمائة سنة وخمسين سنة بعد الطوفان. قال ملك الموت: فكيف وجدت الدنيا؟ قال نوح: مثل دار لها بابان دخلت من هذا وخرجت من هذا.
وروى من حديث أنس قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «لما بعث الله نوحا إلي قومه بعثه وهو ابن خمسين ومائتي سنة فلبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما وبقي بعد الطوفان خمسين ومائتي سنة فلما أتاه ملك الموت قال يا نوح يا أكبر الأنبياء ويا طويل العمر ويا مجاب الدعوة كيف رأيت الدنيا قال مثل رجل بنى له بيت له بابان فدخل من واحد وخرج من الآخر» وقد قيل: دخل من أحدهما وجلس هنيهة ثم خرج من الباب الآخر.
وقال ابن الوردي: بنى نوح بيتا من قصب، فقيل له: لو بنيت غير هذا، فقال: هذا كثير لمن يموت، وقال أبو المهاجر: لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما في بيت من شعر، فقيل له: يا نبى الله بنبيتا فقال: أموت اليوم أو أموت غدا.
وقال وهب بن منبه: مرت بنوح خمسمائة سنة لم يقرب النساء وجلا من الموت.
وقال مقاتل وجويبر: إن أدم عليه السلام حين كبر ورق عظمه قال يا رب إلى متى أكد وأسعى؟ قال: يا أدم حتى يولد لك ولد مختون. فولد له نوح بعد عشرة أبطن، وهو يومئذ ابن ألف سنة إلا ستين عاما.
وقال بعضهم: إلا أربعين عاما. والله أعلم. فكان نوح بن لامك بن متوشلخ بن إدريس وهو أخنوخ بن يرد بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم. وكان اسم نوح السكن. وإنما سمي السكن، لان الناس بعد آدم سكنوا إليه، فهو أبوهم. وولد له سام وحام ويافث، فولد سام العرب وفارس والروم وفي كل هؤلاء خير. وولد حام القبط والسودان والبربر. وولد يافث الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج. وليس في شيء من هؤلاء خير.
وقال ابن عباس: في ولد سام بياض وأدمة وفي ولد حام سواد وبياض قليل.
وفي ولد يافث- وهم الترك والصقالبة- الصفرة والحمرة. وكان له ولد رابع وهو كنعان الذي غرق، والعرب تسميه يام. وسمي نوح نوحا لأنه ناح عن قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، يدعوهم إلى الله تعالى، فإذا كفروا بكى وناح عليهم. وذكر القشيري أبو القاسم عبد الكريم في كتاب التخبير له: يروى أن نوحا عليه السلام كان اسمه يشكر ولكن لكثرة بكائه على خطيئته أوحى الله إليه يا نوح كم تنوح فسمي نوحا، فقيل: يا رسول الله فأي شيء كانت خطيئته؟ فقال: «إنه مر بكلب فقال في نفسه ما أقبحه فأوحى الله إليه أخلق أنت أحسن من هذا».
وقال يزيد الرقاشي: إنما سمي نوحا لطول ما ناح على نفسه. فإن قيل: فلم قال: {أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً} ولم يقل تسعمائة وخمسين عاما. ففيه جوابان: أحدهما- أن المقصود به تكثير العدد فكان ذكره الالف أكثر في اللفظ وأكثر في العدد.
الثاني- ما روى أنه أعطى من العمر ألف سنة فوهب من عمره خمسين سنة لبعض ولده، فلما حضرته الوفاة رجع في استكمال الالف، فذكر الله تعالى ذلك تنبيها على أن النقيصة كانت من جهته. {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ} قال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة: المطر. الضحاك: الغرق.
وقيل: الموت. روته عائشة رضي الله عنها عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ومنه قول الشاعر:
أفناهم طوفان موت جارف قال النحاس: يقال لكل كثير مطيف بالجميع من مطر أو قتل أو موت طوفان. {وَهُمْ ظالِمُونَ} جملة في موضع الحال و{أَلْفَ سَنَةٍ} منصوب على الظرف {إِلَّا خَمْسِينَ عاماً} منصوب على الاستثناء من الموجب. وهو عند سيبويه بمنزلة المفعول، لأنه مستغنى عنه كالمفعول. فأما المبرد أبو العباس محمد بن يزيد فهو عنده مفعول محض. كأنك قلت استثنيت زيدا. تنبيه- روى حسان بن غالب بن نجيح أبو القاسم المصري، حدثنا مالك بن أنس عن الزهري عن ابن المسيب عن أبى بن كعب قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «كان جبريل يذاكرنى فضل عمر فقلت يا جبريل ما بلغ فضل عمر قال لي يا محمد لو لبثت معك ما لبث نوح في قومه ما بلغت لك فضل عمر» ذكره الخطيب أبو بكر أحمد بن ثابت البغدادي. وقال: تفرد بروايته حسان بن غالب عن مالك وليس بثابت من حديثه. قوله تعالى: {فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ} معطوف على الهاء. {وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ} الهاء والألف في {جَعَلْناها} للسفينة، أو للعقوبة، أو للنجاة، ثلاثة أقوال.
{وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19)}
قوله تعالى: {وَإِبْراهِيمَ} قال الكسائي: {وَإِبْراهِيمَ} منصوب ب {أنجينا} يعني أنه معطوف على الهاء. وأجاز الكسائي أن يكون معطوفا على نوح والمعنى وأرسلنا إبراهيم. وقول ثالث: أن يكون منصوبا بمعنى وأذكر إبراهيم. {إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ} أي أفردوه بالعبادة. {وَاتَّقُوهُ} أي اتقوا عقابه وعذابه. {ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} أي من عبادة الأوثان {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. قوله تعالى: {إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً} أي أصناما. قال أبو عبيدة: الصنم ما يتخذ من ذهب أو فضة أو نحاس، والوثن ما يتخذ من جص أو حجارة. الجوهري: الوثن الصنم والجمع وثن وأوثان مثل أسد وآساد. {وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} قال الحسن: معنى {تَخْلُقُونَ} تنحتون، فالمعنى إنما تعبدون أوثانا وأنتم تصنعونها.
وقال مجاهد: الافك الكذب، والمعنى تعبدون الأوثان وتخلقون الكذب. وقرأ أبو عبد الرحمن: {وتخلقون}. وقرئ: {تخلقون} بمعنى التكثير من خلق و{تخلقون} من تخلق بمعنى تكذب وتخرص. وقرئ: {إفكا} وفية وجهان: أن يكون مصدرا نحو كذب ولعب والافك مخففا منه كالكذب واللعب. وأن يكون صفة على فعل أي خلقا إفكا أي ذا إفك وباطل. و{أَوْثاناً} نصب ب {تَعْبُدُونَ} و{ما} كافة. ويجوز في غير القرآن رفع أوثان على أن تجعل {ما} اسما لآن {تَعْبُدُونَ} صلته، وحذفت الهاء لطول الاسم وجعل أوثان خبر إن. فأما {وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} فهو منصوب بالفعل لا غير. وكذا {لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ}
أي أصرفوا رغبتكم في أرزاقكم إلى الله فإياه فاسألوه وحده دون غيره. {وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} فقيل: هو من قوله إبراهيم أي التكذيب عادة الكفار وليس على الرسل إلا التبليغ. قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ} قراءة العامة بالياء على الخبر والتوبيخ لهم، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم. قال ابو عبيد: لذكر الأمم كأنه قال أو لم ير الأمم كيف. وقرأ أبو بكر والأعمش وابن وثاب وحمزة والكسائي: {تروا} بالتاء خطابا، لقول: {وَإِنْ تُكَذِّبُوا}. وقد قيل: {وَإِنْ تُكَذِّبُوا} خطاب لقريش ليس من قول ابراهيم. {ثُمَّ يُعِيدُهُ} يعني الخلق والبعث.
وقيل: المعنى أو لم يروا كيف يبدئ الله الثمار فتحيا ثم تفني ثم بعيدها أبدا. وكذلك يبدأ خلق والإنسان ثم يهلكه بعد أن خلق منه ولدا، وخلق من الولد ولدا. وكذلك سائر الحيوان. أي فإذا رأيتم قدرته على الإبداء والإيجاد فهو القادر على الإعادة {إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} لأنه إذا أراد أمرا قال له كن فيكون.
{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (23) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (25)}
قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} أي قل لهم يا محمد سيروا في الأرض {فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} على كثرتهم وتفاوت هيئاتهم واختلاف ألسنتهم وألوانهم وطبائعهم، وأنظروا إلى مساكن القرون الماضية وديارهم وآثارهم كيف أهلكهم، لتعلموا بذلك كمال قدرة الله. {ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} وقرأ أبو عمرو وابن كثير {النشاءة} بفتح الشين وهما لغتان مثل الرأفة والرآفة وشبهه. الجوهري: أنشأه الله خلقه، والاسم النشأة والنشاءة بالمد عن أبى عمرو بن العلاء. {إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ} أي بعدله. {وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ} أي بفضله. {وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} ترجعون وتردون. {وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ} قال الفراء: معناه ولا من في السماء بمعجزين الله. وهو غامض في العربية، للضمير الذي لم يظهر في الثاني. وهو كقول حسان:
فمن يهجو رسول الله منكم *** ويمدحه وينصره سواء
أراد ومن يمدحه وينصره سواء، فأضمر من، وقاله عبد الرحمن بن زيد. ونظيره قوله سبحانه: {وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ} أي من له. والمعنى إن الله لا يعجزه أهل الأرض في الأرض ولا أهل السماء إن عصوه.
وقال قطرب: ولا في السماء لو كنتم فيها، كما تقول: لا يفوتني فلان بالبصرة ولا هاهنا، بمعنى لا يفوتني بالبصرة لو صار إليها.
وقيل: لا يستطيعون هربا في الأرض ولا في السماء.
وقال المبرد: والمعنى ولا من في السماء على أن من ليست موصولة ولكن تكون نكرة و{فِي السَّماءِ} صفة لها، فأقيمت الصفة مقام الموصوف. ورد ذلك على ابن سليمان. وقال: لا يجوز. وقال: إن من إذا كانت نكرة فلا بد من وصفها فصفتها كالصلة، ولا يجوز حذف الموصول وترك الصلة، قال: والمعنى إن الناس خوطبوا بما يعقلون، والمعنى لو كنتم في السماء ما أعجزتم الله، كما قال: {وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ}. {وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} ويجوز {نصير} بالرفع على الموضع، وتكون {مِنْ} زائد. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ} أي بالقرآن أو بما نصب من الادلة والاعلام. {أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي} أي من الجنة ونسب اليأس إليهم والمعنى أويسوا. وهذه الآيات اعتراض من الله تعالى تذكيرا وتحذيرا لأهل مكة. ثم عاد الخطاب إلى قصة ابراهيم فقال: {فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ} حين دعاهم إلى الله تعالى: {إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ} ثم اتفقوا على تحريقه {فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ} أي من إذايتها {إِنَّ فِي ذلِكَ} أي في إنجائه من النار العظيمة حتى لم تحرقه بعد ما ألقى فيها {لَآياتٍ}. وقراءة العامة {جَوابَ} بنصب الباء على أنه خبر كان و{أَنْ قالُوا} في محل الرفع اسم كان. وقرأ سالم الأفطس وعمرو بن دينار: {جواب} بالرفع على أنه اسم {كانَ} و{إِنَّ} في موضع الخبر نصبا. {وَقالَ} إبراهيم {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا} وقرأ حفص وحمزة: {مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ}. وابن كثير وأبو عمرو والكسائي: {مودة بينكم}. والأعشى عن أبي بكر عن عاصم وابن وثاب والأعمش {مودة بينكم}. الباقون {مودة بينكم} فأما قراءة ابن كثير ففيها ثلاثة أوجه، ذكر الزجاج منها وجهين: أحدهما- أن المودة ارتفعت على خبر إن وتكون {ما} بمعنى الذي. والتقدير إن الذي اتخذتموه من دون الله أوثانا مودة بينكم. والوجه الآخر أن يكون على إضمار مبتدإ أي وهي مودة أو تلك مودة بينكم. والمعنى آلهتكم أو جماعتكم مودة بينكم. قال ابن الأنباري: {أَوْثاناً} وقف حسن لمن رفع المودة بإضمار ذلك مودة بينكم، ومن رفع المودة على أنها خبر إن لم يقف. والوجه الثالث الذي لم يذكره أن يكون {مودة} رفعا بالابتداء و{فِي الْحَياةِ الدُّنْيا} خبره، فأما إضافة {مَوَدَّةَ} إلى {بَيْنِكُمْ} فإنه جعل {بَيْنِكُمْ} اسما غير ظرف، والنحويون يقولون جعله مفعولا على السعة.
وحكى سيبويه: يا سارق الليلة أهل الدار. ولا يجوز أن يضاف إليه وهو ظرف، لعلة ليس هذا موضع ذكرها. ومن رفع {مودة} ونونها فعلى معنى ما ذكر، و{بَيْنِكُمْ} بالنصب ظرفا. ومن نصب {مَوَدَّةَ} ولم ينونها جعلها مفعولة بوقوع الاتخاذ عليها وجعل {إِنَّمَا} حرفا واحدا ولم يجعلها بمعنى الذي. ويجوز نصب المودة على أنه مفعول من أجله كما تقول: جئتك ابتغاء الخير، وقصدت فلانا مودة له {بَيْنِكُمْ} بالخفض. ومن نون {مودة} ونصبها فعلى ما ذكر {بينكم} بالنصب من غير إضافة، قال ابن الأنباري: ومن قرأ {مودة بينكم} و{مودة بينكم} لم يقف على الأوثان، ووقف على الحياة الدنيا. ومعنى الآية جعلتم الأوثان تتحابون عليها وعلى عبادتها في الحياة الدنيا {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} تتبرأ الأوثان من عبادها والرؤساء من السفلة كما قال الله عز وجل: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}. {وَمَأْواكُمُ النَّارُ} هو خطاب لعبدة الأوثان الرؤساء منهم والاتباع.
وقيل: تدخل فيه الأوثان كقوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ}.
{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)}
قوله تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} لوط أول من صدق إبراهيم حين رأى النار عليه بردا وسلاما. قال ابن إسحاق آمن لوط بإبراهيم وكان ابن أخته، وآمنت به سارة وكانت بنت عمه. {وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي} قال النخعي وقتادة: الذي قال: {إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي} هو إبراهيم عليه السلام. قال قتادة: هاجر من كوثا وهى قرية من سواد الكوفة إلى حران ثم إلى الشام، ومعه ابن أخيه لوط بن هاران بن تارخ، وامرأته سارة. قال الكلبي: هاجر من أرض حران إلى فلسطين. وهو أول من هاجر من أرض الكفر. قال مقاتل: هاجر إبراهيم وهو ابن خمس وسبعين سنة.
وقيل: الذي قال: {إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي} لوط عليه السلام. ذكر البيهقي عن قتادة قال: أول من هاجر إلى الله عز وجل بأهله عثمان بن عفان رضي الله عنه. قال قتادة: سمعت النضر بن أنس يقول سمعت أبا حمزة يعني أنس بن مالك يقول: خرج عثمان بن عفان ومعه رقية بنت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أرض الحبشة، فأبطأ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خبرهم، فقدمت امرأة من قريش فقالت: يا محمد رأيت ختنك ومعه امرأته. قال: «على أي حال رأيتهما» قالت: رأيته وقد حمل امرأته على حمار من هذه الدبابة وهو يسوقها، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «صحبهما الله إن عثمان لأول من هاجر بأهله بعد لوط» قال البيهقي: هذا في الهجرة الأولى، وأما الهجرة الثانية إلى الحبشة فهي فيما زعم الواقدي سنة خمس من مبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {إِلى رَبِّي} أي إلى رضا ربى وإلى حيث أمرني. {إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} تقدم. وتقدم الكلام في الهجرة في النساء وغيرها. قوله تعالى: {وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ} أي من الله عليه بالأولاد فوهب له إسحاق ولدا ويعقوب ولد ولد. وإنما وهب له إسحاق من بعد إسماعيل ويعقوب من إسحاق. {وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ} فلم يبعث الله نبيا بعد إبراهيم إلا من صلبه. ووحد الكتاب، لأنه أراد المصدر كالنبوة، والمراد التوراة والإنجيل والفرقان. فهو عبارة عن الجمع. فالتوراة أنزلت على موسى من ولد إبراهيم، والإنجيل على عيسى من ولده، والفرقان على محمد من ولده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعليهم أجمعين. {وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا} يعني اجتماع أهل الملل عليه، قاله عكرمة.
وروى سفيان عن حميد ابن قيس قال: أمر سعيد بن جبير إنسانا أن يسأل عكرمة عن قوله جل ثناؤه {وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا} فقال عكرمة: أهل الملل كلها تدعيه وتقول هو منا، فقال سعيد بن جبير: صدق.
وقال قتادة: هو مثل قوله: {وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً} أي عاقبة وعملا صالحا وثناء حسنا. وذلك أن أهل كل دين يتولونه.
وقيل: {آتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا} أن أكثر الأنبياء من ولده. {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} ليس {فِي الْآخِرَةِ} داخلا في الصلة وإنما هو تبيين. وقد مضى في البقرة بيانه. وكل هذا حث على الاقتداء بإبراهيم في الصبر على الدين الحق.