همس الحياه
همس الحياه
همس الحياه
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

همس الحياه

موقع اسلامى و ترفيهى
 
الرئيسيةالأحداثأحدث الصورالمنشوراتالتسجيلدخول

 

 تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة فاطر}رقم(35)

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
ابو شنب
المدير العام
المدير العام
ابو شنب


عدد المساهمات : 10023
نقاط : 26544
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 08/12/2015

تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة فاطر}رقم(35) Empty
مُساهمةموضوع: تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة فاطر}رقم(35)   تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة فاطر}رقم(35) Emptyالإثنين ديسمبر 28, 2015 6:32 pm


{الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)}
قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} يجوز في {فاطِرِ} ثلاثة أوجه: الخفض على النعت، والرفع على إضمار مبتدأ، والنصب على المدح.
وحكى سيبويه: الحمد لله أهل الحمد مثله وكذا {جاعِلِ الْمَلائِكَةِ}. والفاطر: الخالق. وقد مضى في يوسف وغيرها. والفطر. الشق عن الشيء، يقال: فطرته فانفطر. ومنه: فطر ناب البعير طلع، فهو بعير فاطر. وتفطر الشيء تشقق. وسيف فطار، أي فيه تشقق. قال عنترة:
وسيفي كالعقيقة فهو كمعي *** سلاحي لا أفل ولا فطارا
والفطر: الابتداء والاختراع. قال ابن عباس: كنت لا أدري ما {فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي أنا ابتدأتها. والفطر. حلب الناقة بالسبابة والإبهام. والمراد بذكر السماوات والأرض العالم كله، ونبه بهذا على أن من قدر على الابتداء قادر على الإعادة. {جاعِلِ الْمَلائِكَةِ} لا يجوز فيه التنوين، لأنه لما مضى. {رُسُلًا} مفعول ثان، ويقال على إضمار فعل، لان فاعلا إذا كان لما مضى لم يعمل فيه شيئا، وإعماله على أنه مستقبل حذف التنوين منه تخفيفا. وقرأ الضحاك {الحمد لله فطر السماوات والأرض} على الفصل الماضي. {جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا} الرسل منهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، صلى الله عليهم أجمعين. وقرأ الحسن: {جاعل الملائكة} بالرفع. وقرأ خليد بن نشيط {جعل الملائكة} وكله ظاهر. {أُولِي أَجْنِحَةٍ} نعت، أي أصحاب أجنحة. {مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ} أي اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة. قال قتادة: بعضهم له جناحان، وبعضهم ثلاثة، وبعضهم أربعة، ينزلون بهما من السماء إلى الأرض، ويعرجون من الأرض إلى السماء، وهي مسيرة كذا في وقت واحد، أي جعلهم رسلا. قال يحيى بن سلام: إلى الأنبياء.
وقال السدي: إلى العباد برحمة أو نقمة.
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى جبريل عليه السلام له ستمائة جناح. وعن الزهري أن جبريل عليه السلام قال له: «يا محمد، لو رأيت إسرافيل إن له لاثني عشر ألف جناح منها جناح بالمشرق وجناح بالمغرب وإن العرش لعلى كاهله وإنه في الأحايين ليتضاءل لعظمة الله حتى يعود مثل الوصع والوصع عصفور صغير حتى ما يحمل عرش ربك إلا عظمته». و{أولو} اسم جمع لذو، كما أن هؤلاء اسم جمع لذا، ونظيرهما في المتمكنة: المخاض والخلفة. وقد مضى الكلام في {مثنى وثلاث ورباع} في {النساء} وأنه غير منصرف. {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ} أي في خلق الملائكة، في قول أكثر المفسرين، ذكره المهدوي.
وقال الحسن: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ} أي في أجنحة الملائكة ما يشاء.
وقال الزهري وابن جريج: يعني حسن الصوت. وقد مضى القول فيه في مقدمة الكتاب.
وقال الهيثم الفارسي: رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في منامي، فقال: «أنت الهيثم الذي تزين القرآن بصوتك جزاك الله خيرا».
وقال قتادة: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ} الملاحة في العينين والحسن في الأنف والحلاوة في الفم.
وقيل: الخط الحسن.
وقال مهاجر الكلاعي قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الخط الحسن يزيد الكلام وضوحا».
وقيل: الوجه الحسن. وقيل في الخبر في هذه الآية: هو الوجه الحسن والصوت الحسن والشعر الحسن، ذكره القشيري. النقاش: هو الشعر الجعد.
وقيل: العقل والتمييز.
وقيل: العلوم والصنائع. {إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} من النقصان والزيادة. الزمخشري: والآية مطلقة تتناول كل زيادة في الخلق، من طول قامة، واعتدال صورة، وتمام في الأعضاء، وقوه في البطش، وحصافة في العقل، وجزالة في الرأي، وجرأة في القلب، وسماحة في النفس، وذلاقة في اللسان، ولباقة في التكلم، وحسن تأت في مزاولة الأمور، وما أشبه ذلك مما لا يحيط به وصف.

{ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)}
وأجاز النحويون في غير القرآن {فلا ممسك له} على لفظ {ما} و{لَها} على المعنى. وأجازوا {وما يمسك فلا مرسل لها} وأجازوا {ما يفتح الله للناس من رحمة} بالرفع تكون {ما} بمعنى الذي. أي إن الرسل بعثوا رحمة للناس فلا يقدر على إرسالهم غير الله.
وقيل: ما يأتيهم به الله من مطر أو رزق فلا يقدر أحد أن يمسكه، وما يمسك من ذلك فلا يقد أحد على أن يرسله.
وقيل: هو الدعاء: قاله الضحاك. ابن عباس: من توبة.
وقيل: من توفيق وهداية. قلت: ولفظ الرحمة يجمع ذلك إذ هي منكرة للاشاعة والإبهام، فهي متناولة لكل رحمة على البدل، فهو عام في جميع ما ذكر.
وفي موطأ مالك: أنه بلغه أن أبا هريرة كان يقول إذا أصبح وقد مطر الناس: مطرنا بنوء الفتح، ثم يتلو هذه الآية {ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها}. {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} تقدم.

{يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)}
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} معنى هذا الذكر الشكر. {هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} يجوز في {غَيْرُ} الرفع والنصب والخفض، فالرفع من وجهين: أحدهما: بمعنى هل من خالق إلا الله، بمعنى ما خالق إلا الله. والوجه الثاني: أن يكون نعتا على الموضع، لان المعنى: هل خالق غير الله، و{مِنْ} زائدة. والنصب على الاستثناء.
والخفض، على اللفظ. قال حميد الطويل: قلت للحسن: من خلق الشر؟ فقال سبحان الله! هل من خالق غير الله عز وجل، خلق الخير والشر. وقرأ حمزة والكسائي: {هل من خالق غير الله} بالخفض. الباقون بالرفع. أي المطر. أي النبات. من الافك بالفتح وهو الصرف، يقال: ما افكك عن كذا، أي ما صرفك عنه.
وقيل: من الافك بالكسر وهو الكذب، ويرجع هذا أيضا إلى ما تقدم، لأنه قول مصروف عن الصدق والصواب، أي من أين يقع لكم التكذيب بتوحيد الله. والآية حجة على القدرية لأنه نفى خالقا غير الله وهم يثبتون معه خالقين، على ما تقدم في غير موضع.
{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4)}
قوله تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ}. يعني كفار قريش. يعزي نبيه ويسليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وليتأسى بمن قبله في الصبر. قرأ الحسن والأعرج ويعقوب وابن عامر وأبو حيوة وابن محيصن وحميد والأعمش وحمزة ويحيى والكسائي وخلف بفتح التاء على أنه مسمى الفاعل. وأختاره أبو عبيد لقول تعالى: {أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى: 53] الباقون {تُرْجَعُ} على الفعل المجهول.

{يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)}
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}. قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} هذا وعظ للمكذبين للرسول بعد إيضاح الدليل على صحة قوله: إن البعث والثواب والعقاب حق. قال سعيد بن جبير: غرور الحياة الدنيا أن يشتغل الإنسان بنعيمها ولذاتها عن عمل الآخرة، حتى يقول: يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي. قال ابن السكيت وأبو حاتم: {الْغَرُورُ} الشيطان. وغرور جمع غر، وغر مصدر. ويكون {الغرور} مصدرا وهو بعيد عند غير أبي إسحاق، لان {غررته} متعد، والمصدر المتعدي إنما هو على فعل، نحو: ضربته ضربا، إلا في أشياء يسيرة لا يقاس عليها، قالوا: لزمته لزوما، ونهكه المرض نهوكا. فأما معنى الحرف فأحسن ما قيل فيه ما قاله سعيد بن جبير، قال: الغرور بالله أن يكون الإنسان يعمل بالمعاصي ثم يتمنى على الله المغفرة. وقراءة العامة {الْغَرُورُ} بفتح الغين وهو الشيطان، أي لا يغرنكم بوساوسه في أنه يتجاوز عنكم لفضلكم. وقرأ أبو حيوة وأبو المال العدوي ومحمد بن المقع {الغرور} برفع الغين وهو الباطل، أي لا يغرنكم الباطل.
وقال ابن السكيت: والغرور بالضم ما اغتر به من متاع الدنيا. قال الزجاج: ويجوز أن يكون الغرور جمع غار، مثل قاعد وقعود. النحاس: أو جمع غر، أو يشبه بقولهم: نهكه المرض نهوكا ولزمه لزوما. الزمخشري: أو مصدر {غره} كاللزوم والنهوك.

{إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)}
قوله تعالى: {إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا}. أي فعادوه ولا تطيعوه. ويدلكم على عداوته إخراجه أباكم من الجنة، وضمانه إضلالكم في قول: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ} [النساء: 119] الآية. وقوله: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} [الأعراف: 17- 16] الآية. فأخبرنا عز وجل أن الشيطان لنا عدو مبين، واقتص علينا قصته، وما فعل بأبينا آدم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكيف أنتدب لعداوتنا وغرورنا من قبل وجودنا وبعده، ونحن على ذلك نتولاه ونطيعه فيما يريد منا مما فيه هلاكنا. وكان الفضيل بن عياض يقول: يا كذاب يا مفتر، أتق الله ولا تسب الشيطان في العلانية وأنت صديقه في السر.
وقال ابن السماك: يا عجبا لمن عصى المحسن بعد معرفته بإحسانه! وأطاع اللعين بعد معرفته بعداوته! وقد مضى هذا المعنى في البقرة مجودا. و{عدو} في قوله: {إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ} يجوز أن يكون بمعنى معاد، فيثنى ويجمع ويؤنث. ويكون بمعنى النسب فيكون موحدا بكل حال، كما قال عز وجل: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} [الشعراء: 77].
وفي المؤنث على هذا أيضا عدو. النحاس: فأما قول بعض النحويين إن الواو خفية فجاءوا بالهاء فخطأ، بل الواو حرف جلد. {إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ} كفت {ما} {إن} عن العمل فوقع بعدها الفعل. {حزبه} أي أشياعه. {لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ} فهذه عداوته. {الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ} يكون {الَّذِينَ} بدلا من {أَصْحابِ} فيكون في موضع خفض، أو يكون بدلا من {حِزْبَهُ} فيكون في موضع نصب، أو يكون بدلا من الواو فكون في موضع رفع وقول رابع وهو أحسنها يكون في موضع رفع بالابتداء ويكون خبره {لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ}، وكأنه. سبحانه بين حال موافقته ومخالفته، ويكون الكلام قد تم في قوله: {مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ} ثم ابتدأ فقال: {الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ}. في موضع رفع بالابتداء أيضا، وخبره {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} أي لذنوبهم. {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} وهو الجنة.
{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (Cool}
قوله تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} {من} في موضع رفع بالابتداء، وخبره محذوف. قال الكسائي: والذي يدل عليه قوله تعالى: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ} فالمعنى: أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا ذهبت نفسك عليهم حسرات. قال: وهذا كلام عربي طريف لا يعرفه إلا قليل. وذكره الزمخشري عن الزجاج. قال النحاس: والذي قال الكسائي أحسن ما قيل في الآية، لما ذكره من الدلالة على المحذوف، والمعنى أن الله جل وعز نهى نبيه عن شدة الاغتمام بهم والحزن عليهم، كما قال عز وجل: {فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ} [الكهف: 6] قال أهل التفسير: قاتل. قال نصر ابن علي: سألت الأصمعي عن قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أهل اليمن: «هم أرق قلوبا وأبخع طاعة» ما معنى أبخع؟ فقال: أنصح. فقلت له: إن أهل التفسير مجاهدا وغيره يقولون في قول الله عز وجل: {فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ}: معناه قاتل نفسك. فقال: هو من ذاك بعينه، كأنه من شدة النصح لهم قاتل نفسه.
وقال الحسين بن الفضل: فيه تقديم وتأخير، مجازه: أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء.
وقيل: الجواب محذوف، المعنى أفمن زين له سوء عمله كمن هدي، ويكون يدل على هذا المحذوف {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ}. وقرأ يزيد بن القعقاع: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ} وفي {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} أربعة أقوال، أحدها: أنهم اليهود والنصارى والمجوس، قال أبو قلابة. ويكون، {سُوءُ عَمَلِهِ} معاندة الرسول عليه الصلاة والسلام.
الثاني: أنهم الخوارج، رواه عمر بن القاسم. يكون {سوء عمله} تحريف التأويل.
الثالث: الشيطان، قال الحسن. ويكون {سُوءُ عَمَلِهِ} الإغواء.
الرابع: كفار قريش، قاله الكلبي. ويكون {سُوءُ عَمَلِهِ} الشرك. وقال: إنها نزلت في العاص بن وائل السهمي والأسود بن المطلب.
وقال غيره: نزلت في أبي جهل بن هشام. {فَرَآهُ حَسَناً} أي صوابا، قال الكلبي. وقال: جميلا. قلت: والقول بأن المراد كفار قريش أظهر الأقوال، لقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ} [البقرة: 272]، وقوله: {وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [آل عمران: 176]، وقال: {فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف: 6]، وقوله: {لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}، وقوله في هذه الآية: وهذا ظاهر بين، أي لا ينفع تأسفك على مقامهم على كفرهم، فإن الله أضلهم. وهذه الآية ترد على القدرية قولهم على ما تقدم، أي أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا تريد أن تهديه، وإنما ذلك إلى الله لا إليك، والذي إليك هو التبليغ. وقرأ أبو جعفر وشيبة وابن محيصن: {فلا تذهب} بضم التاء وكسر الهاء {نَفْسُكَ} نصبا على المفعول، والمعنيان متقاربان. {حَسَراتٍ} منصوب مفعول من أجله، أي فلا تذهب نفسك للحسرات. و{عَلَيْهِمْ} صلة {تَذْهَبْ}، كما تقول: هلك عليه حبا ومات عليه حزنا. وهو بيان للمتحسر عليه. ولا يجوز أن يتعلق بالحسرات، لان المصدر لا يتقدم عليه صلته. ويجوز أن يكون حالا كأن كلها صارت حسرات لفرط التحسر، كما قال جرير:
مشق الهواجر لحمهن مع السرى *** وحتى ذهبن كلاكلا وصدورا
يريد: رجعن كلاكلا وصدورا، أي لم يبق إلا كلاكلها وصدورها. ومنه قول الآخر:
فعلى إثرهم تساقط نفسي *** وحسرات وذكرهم لي سقام
أو مصدرا.

{وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (9)}
قوله تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ} ميت وميت واحد، وكذا ميتة وميتة، هذا قول الحذاق من النحويين.
وقال محمد بن يزيد: هذا قول البصريين، ولم يستثن أحدا، واستدل على ذلك بدلائل قاطعة. وأنشد:
ليس من مات فاستراح بميت *** وإنما الميت ميت الأحياء
إنما المت من يعيش كئيبا *** وكاسفا باله قليل الرجاء
قال: فهل ترى بين ميت وميت فرقا، وأنشد:
هينون لينون أيسار بنو يسر *** وسواس مكرمة أبناء أيسار
قال: فقد أجمعوا على أن هينون ولينون واحد، وكذا ميت وميت، وسيد وسيد. قال: {فَسُقْناهُ} بعد أن قال: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ} وهو من باب تلوين الخطاب.
وقال أبو عبيدة: سبيله {فتسوقه}، لأنه قال: {فَتُثِيرُ سَحاباً}. الزمخشري: فإن قلت: لم جاء {فَتُثِيرُ} على المضارعة دون ما قبله وما بعده؟ قلت: لتحكي الحال التي تقع فيها إثارة الرياح السحاب، وتستحضر تلك الصورة البديعة الدالة على القدوة الربانية، وهكذا يفعلون بفعل فيه نوع تمييز وخصوصية بحال تستغرب، أو تهم المخاطب أو غير ذلك، كما قال تأبط شرا:
بأني قد لقيت الغول تهوي *** وبسهب كالصحيفة صحصحان
فاضربها بلا دهش فخرت *** وصريعا لليدين وللجران
لأنه قصد أن يصور لقومه الحالة التي تشجع فيها بزعمه على ضرب الغول، كأنه يبصرهم إياها، ويطلعهم على كنهها مشاهدة للتعجب. من جرأته على كل هول، وثباته عند كل شدة وكذلك سوق السحاب إلى البلد الميت، لما كانا من الدلائل على القدرة الباهرة قيل: {فسقنا} و{أحيينا} معدولا بهما عن لفظة الغيبة إلى ما هو أدخل في الاختصاص وأدل عليه. وقراءة العامة {الرِّياحَ}. وقرأ ابن محيصن وابن كثير والأعمش ويحيى وحمزة والكسائي {الريح} توحيدا. وقد مضى بيان هذه الآية والكلام فيها مستوفي. أي كذلك تحيون بعد ما متم، من نشر الإنسان نشورا. فالكاف في محل الرفع، أي مثل إحياء الأموات نشر الأموات. وعن أبي رزين العقيلي قال: قلت يا رسول الله، كيف يحيي الله الموتى، وما آية ذلك في خلقه؟ قال: «أما مررت بوادي أهلك ممحلا ثم مررت به يهتز خضرا» قلت: نعم يا رسول الله. قال: «فكذلك يحيي الله الموتى وتلك آياته في خلقه» وقد ذكرنا هذا الخبر في الأعراف وغيرها.

{مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)}
قوله تعالى: {مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} التقدير عند الفراء: من كان يريد علم العزة. وكذا قال غيره من أهل العلم. أي من كان يريد علم العزة التي لا ذلة معها، لان العزة إذا كانت تؤدي إلى ذلة فإنما هي تعرض للذلة، والعزة التي لا ذل معها لله عز وجل. {جَمِيعاً} منصوب على الحال. وقدر الزجاج معناه: من كان يريد بعبادته الله عز وجل العزة والعزة له سبحانه فإن الله عز وجل يعزه في الآخرة والدنيا. قلت وهذا أحسن وروى مرفوعا على ما يأتي {فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} ظاهر هذا إيئاس السامعين من عزته، وتعريفهم أن ما وجب له من ذلك لا مطمع فيه لغيره، فتكون الالف واللام للعهد عند العالمين به سبحانه وبما وجب له من ذلك، وهو المفهوم من قوله الحق في سورة يونس: {وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ} [يونس: 65]. ويحتمل أن يريد سبحانه أن ينبه ذوي الاقدار والهمم من أين تنال العزة ومن أين تستحق، فتكون الالف واللام للاستغراق، وهو المفهوم من آيات هذه السورة. فمن طلب العزة من الله وصدقه في طلبها بافتقار وذل، وسكون وخضوع، وجدها عنده إن شاء الله غير ممنوعة ولا محجوبة عنه، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من تواضع لله رفعه الله». ومن طلبها من غيره وكله إلى من طلبها عنده. وقد ذكر قوما طلبوا العزة عند من سواه فقال: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} [النساء: 139]. فأنبأك صريحا لا إشكال فيه أن العزة له يعز بها من يشاء ويذل من يشاء.
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مفسرا لقوله: {مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً}: من أراد عز الدارين فليطع العزيز. وهذا معنى قول الزجاج. ولقد أحسن من قال:
وإذا تذللت الرقاب تواضعا *** ومنا إليك فعزها في ذلها
فمن كان يريد العزة لينال الفوز الأكبر، ويدخل دار العزة ولله العزة فليقصد بالعزة الله سبحانه والاعتزاز به، فإنه من اعتز بالعبد أذل الله، ومن اعتز بالله أعزه الله. قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} فيه مسألتان الأولى: قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} وتم الكلام. ثم تبتدئ {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} على معنى: يرفعه الله، أو يرفع صاحبه. ويجوز أن يكون المعنى: والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب، فيكون الكلام متصلا على ما يأتي بيانه. والصعود هو الحركة إلى فوق، وهو العروج أيضا. ولا يتصور ذلك في الكلام لأنه عرض، لكن ضرب صعوده مثلا لقبوله، لان موضع الثواب فوق، وموضع العذاب أسفل.
وقال الزجاج: يقال ارتفع الامر إلى القاضي أي علمه، فهو بمعنى العلم. وخص الكلام والطب بالذكر لبيان الثواب عليه. وقوله: {إِلَيْهِ} أي إلى الله يصعد.
وقيل: يصعد إلى سمائه والمحل الذي لا يجري فيه لاحد غيره حكم.
وقيل: أي يحمل الكتاب الذي كتب فيه طاعات العبد إلى السماء. و{الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} هو التوحيد الصادر عن عقيدة طيبة.
وقيل: هو التحميد والتمجيد، وذكر الله ونحوه. وأنشدوا:
لا ترض من رجل حلاوة قوله *** وحتى يزين ما يقول فعال
فإذا وزنت فعاله بمقاله *** فتوازنا فإخاء ذاك جمال
وقال ابن المقفع: قول بلا عمل، كثريد بلا دسم، وسحاب بلا مطر، وقوس بلا وتر. وفية قيل:
لا يكون المقال إلا بفعل *** وكل قول بلا فعال هباء
إن قولا بلا فعال جميل *** وونكاحا بلا ولي سواء
وقرأ الضحاك {يصعد} بضم الياء. وقرا. جمهور الناس {الْكَلِمُ} جمع كلمة. وقرأ أبو عبد الرحمن {الكلام}. قلت: فالكلام على هذا قد يطلق بمعنى الكلم وبالعكس، وعليه يخرج قول أبي القاسم: أقسام الكلام ثلاثة، فوضع الكلام موضع الكلم، والله أعلم. {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: المعنى والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب.
وفي الحديث: «لا يقبل الله قولا إلا بعمل، ولا يقبل قولا وعملا إلا بنية، ولا يقبل قولا وعملا ونية إلا بإصابة السنة». قال ابن عباس: فإذا ذكر العبد الله وقال كلاما طيبا وادي فرائضه، ارتفع قوله مع عمله وإذا قال ابن قوله على عمله. قال ابن عطية: وهذا قول يرده معتقد أهل السنة ولا يصح عن ابن عباس. والحق أن العاصي التارك للفرائض إذا ذكر الله وقال كلاما طيبا فإنه مكتوب له متقبل منه، وله حسناته وعليه سيئاته، والله تعالى يتقبل من كل من أتقى الشرك. وأيضا فإن الكلام الطيب عمل صالح، وإنما يستقيم قول من يقول: إن العمل هو الرافع للكلم، بأن يتأول أنه يزيده في رفعه وحسن موقعه إذا تعاضد معه. كما أن صاحب الأعمال من صلاة وصيام وغير ذلك، إذا تخلل أعماله كلم طيب وذكر الله تعالى كانت الأعمال أشرف، فيكون قول: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} موعظة وتذكرة وحضا على الأعمال. وأما الأقوال التي هي أعمال في نفوسها، كالتوحيد والتسبيح فمقبولة. قال ابن العربي: إن كلام المرء بذكر الله إن لم يقترن به عمل صالح لم ينفع، لان من خالف قوله فعله فهو وبال عليه. وتحقيق هذا: أن العمل إذا وقع شرطا في قبول القول أو مرتبطا، فإنه لا قبول له إلا به وإن لم يكن شرطا فيه فإن كلمه الطيب يكتب له، وعمله السيئ يكتب عليه، وتقع الموازنة بينهما، ثم يحكم الله بالفوز والربح والخسران. قلت: ما قال ابن العربي تحقيق. والظاهر أن العمل الصالح شرط في قبول القول الطيب. وقد جاء في الآثار أن العبد إذا قال: لا إله إلا الله بنية صادقة نظرت الملائكة إلى عمله، فإن كان العمل موافقا لقوله صعدا جميعا، وإن كان عمله. مخالفا وقف قوله حتى يتوب من عمله. فعلى هذا العمل الصالح يرفع الكلم الطيب إلى الله. والكناية في {يَرْفَعُهُ} ترجع إلى الكلم الطيب. وهذا قول ابن عباس وشهر بن حوشب وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة وأبي العالية والضحاك. وعلي أن {الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} هو التوحيد، فهو الرافع للعمل الصالح، لأنه لا يقبل العمل الصالح إلا مع الايمان والتوحيد. أي والعمل الصالح يرفعه الكلم الطيب، فالكناية تعود على العمل الصالح. وروي هذا القول عن شهر بن حوشب قال: {الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} القرآن {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} القرآن.
وقيل: تعود على الله جل وعز، أي أن العمل الصالح يرفعه الله على الكلم الطيب، لان العمل تحقيق الكلم، والعامل أكثر تعبا من القائل، وهذا هو حقيقة الكلام، لان الله هو الرافع الخافض. والثاني والأول مجاز، ولكنه سائغ جائز. قال النحاس: القول الأول أولاها وأصحها لعلو من قال به، وأنه في العربية أولى، لان القراء على رفع العمل. ولو كان المعنى: والعمل الصالح يرفعه الله، أو العمل الصالح يرفعه الكلم الطيب، لكان الاختيار نصف العمل. ولا نعلم أحدا قرأه منصوبا إلا شيئا روي عن عيسى، بن عمر أنه قال: قرأه أناس {والعمل الصالح يرفعه الله}.
وقيل: والعمل الصالح يرفع صاحبه، وهو الذي أراد العزة وعلم أنها تطلب من الله تعالى، ذكره القشيري.
الثانية: ذكروا عند ابن عباس أن الكلب يقطع الصلاة، فقرأ هذه الآية: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}. وهذا استدلال بعموم على مذهب السلف في القول بالعموم، وقد دخل في الصلاة بشروطها، فلا يقطعها عليه شيء إلا بثبوت ما يوجب ذلك، من مثل ما انعقدت به من قرآن أو سنة أو إجماع. وقد تعلق من رأى، ذلك بقوله عليه السلام: «يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود» فقلت: ما بال الكلب الأسود من الكلب الأبيض من الكلب الأحمر؟ فقال: «إن الأسود شيطان» خرجه مسلم. وقد جاء ما يعارض هذا، وهو ما خرجه البخاري عن ابن أخي ابن شهاب أنه سأل عمه عن الصلاة يقطعها شي؟ فقال: لا يقطعها شي، أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت: لقد كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقوم فيصلي من الليل، وإني لمعترضة بينه وبين القبلة على فراش أهله. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ} ذكر الطبري في كتاب آداب النفوس: حدثني يونس بن عبد الأعلى قال حدثنا سفيان عن ليث بن أبي سليم عن شهر بن حوشب الأشعري في قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ} قال: هم أصحاب الرياء، وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة.
وقال أبو العالية: هم الذين مكروا بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما اجتمعوا في دار الندوة.
وقال الكلبي: يعني الذين يعملون السيئات في السيئات في الدنيا مقاتل: يعني الشرك، فتكون {السَّيِّئاتِ} مفعولة. ويقال: بار يبور إذا هلك وبطل. وبارت السوق أي كسدت، ومنه: نعوذ بالله من بوار الأيم. وقوله: {وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً} [الفتح: 12] أي هلكى. والمكر: ما عمل على سبيل احتيال وخديعة. وقد مضى في سبأ.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://help.forumcanada.org
ابو شنب
المدير العام
المدير العام
ابو شنب


عدد المساهمات : 10023
نقاط : 26544
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 08/12/2015

تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة فاطر}رقم(35) Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة فاطر}رقم(35)   تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة فاطر}رقم(35) Emptyالإثنين ديسمبر 28, 2015 6:34 pm


{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)}
قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} قال سعيد عن قتادة قال: يعني آدم عليه السلام، والتقدير على هذا: خلق أصلكم من تراب. قال: أي التي أخرجها من ظهور آبائكم. قال: أي زوج بعضكم بعضا، فالذكر زوج الأنثى ليتم البقاء في الدنيا إلى انقضاء مدتها. {وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} أي جعلكم أزواجا فيتزوج الذكر بالأنثى فيتناسلان بعلم الله، فلا يكون حمل ولا وضع إلا والله عالم به، فلا يخرج شيء عن تدبيره. {عمره إلا في كتاب} سماه معمرا بما هو صائر إليه. قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: {وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ} إلا كتب عمره، كم هو سنة كم هو شهرا كم هو يوما كم هو ساعة ثم يكتب في كتاب آخر: نقص من عمره يوم، نقص شهر، نقص سنة، حتى يستوفي أجله.
وقال سعيد بن جبير أيضا، قال: فما مضى من أجله فهو النقصان، وما يستقبل فهو الذي يعمره، فالهاء على هذا للمعمر. وعن سعيد أيضا: يكتب عمره كذا وكذا سنة ثم يكتب في أسفل ذلك: ذهب يوم، ذهب يومان، حتى يأتي على آخره. وعن قتادة: المعمر من بلغ ستين سنة، والمنقوص من عمره من يموت قبل ستين سنة. ويذهب الفراء في معنى {وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ} أي ما يكون من عمره {وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} بمعنى آخر، أي ولا ينقص الآخر من عمره إلا في كتاب. فالكناية في {عُمُرِهِ} ترجع إلى آخر غير الأول. وكنى عنه بالهاء كأنه الأول، ومثله قولك: عندي درهم ونصفه، أي نصف أخر.
وقيل: إن الله كتب عمر الإنسان مائة سنة إن أطاع، وتسعين إن عصى، فأيهما بلغ فهو في كتاب. وهذا مثل قوله عليه الصلاة والسلام: «من أحب أن يبسط له في زرقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه» أي أنه يكتب في اللوح المحفوظ: عمر فلان كذا سنة، فإن وصل رحمه زيد في عمره كذا سنة. فبين ذلك في موضع آخر من اللوح المحفوظ، إنه سيصل رحمه فمن أطلع على الأول دون الثاني ظن أنه زيادة أو نقصان وقد مضى هذا المعنى عند قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39] والكناية على هذا ترجع إلى العمر.
وقيل: المعنى وما يعمر من معمر أي هرم، ولا ينقص آخر من عمر الهرم إلا في كتاب، أي بقضاء من الله جل وعز. روي معناه عن الضحاك واختاره النحاس، قال: وهو أشبهها بظاهر التنزيل. وروي نحوه عن ابن عباس. فالهاء على هذا يجوز أن تكون للمعمر، ويجوز أن تكون لغير المعمر. أي كتابة الأعمال والآجال غير متعذر عليه. وقراءة العامة {ينقص} بضم الياء وفتح القاف وقرأت فرقة منهم يعقوب {يُنْقَصُ} بفتح الياء وضم القاف، أي لا ينقص من عمره شي. يقال، نقص الشيء بنفسه ونقصه غيره، وزاد بنفسه وزاده غيره، متعد ولازم. وقرأ الأعرج والزهري {مِنْ عُمُرِهِ} بتخفيف الميم وضمها الباقون. وهما لغتان مثل السحق والسحق. و{يَسِيرٌ} أي إحصاء طويل الأعمار وقصيرها لا يتعذر عليه شيء منها ولا يعزب. والفضل منه: يسر ولو سميت به إنسانا انصرف، لأنه فعيل.

{وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)}
قوله تعالى: {وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ} فيه أربه مسائل:
الأولى: قال ابن عباس: {فُراتٌ} حلو، و{أُجاجٌ} مر. وقرأ طلحة: {هذا ملح أجاج} بفتح الميم وكسر اللام بغير ألف. وأما المالح فهو الذي يجعل فيه الملح. وقرأ عيسى وابن أبي إسحاق {سيغ شرابه} مثل سيد وميت. لا اختلاف في أنه منهما جميعا. وقد مضى في النحل الكلام فيه.
الثانية: قوله تعالى: {وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها} مذهب أبي إسحاق أن الحلية إنما تستخرج من الملح، فقيل منهما لأنهما مختلطان.
وقال غيره: إنما تستخرج الأصداف التي فيها الحلية من الدر وغيره من المواضع التي فيها العذب والملح نحو العيون، فهو مأخوذ منهما، لان في البحر عيونا عذبة، وبينهما يخرج اللؤلؤ عند التمازج.
وقيل:
من مطر السماء.
وقال محمد بن يزيد قولا رابعا، قال: إنما تستخرج الحلية من الملح خاصة. النحاس: وهذا أحسنها وليس هذا عنده، لأنهما مختلطان، ولكن جمعا ثم أخبر عن أحدهما كما قال عز وجل: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [القصص: 73]. وكما تقول: لو رأيت الحسن والحجاج لرأيت خيرا وشرا. وكما تقول: لو رأيت الأعمش وسيبويه لملأت يدك لغة ونحوا. فقد عرف معنى هذا، وهو كلام فصيح كثير، فكذا: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها} فاجتمعا في الأول وانفرد الملح بالثاني.
الثالثة: وفي قول: {تَلْبَسُونَها}، دليل على أن لباس كل شيء بحسبه، فالخاتم يجعل في الإصبع، والسوار في الذراع، والقلادة في العنق، والخلخال في الرجل.
وفي البخاري والنسائي عن ابن سيرين قال قلت لعبيدة: افتراش الحرير كلبسه؟ فال نعم. وفي، الصحاح عن أنس فقمت على حصير لنا قد اسود من طول ما لبس. الحديث.
الرابعة: قوله تعالى: {وترى الفلك فيه مواخر} قال النحاس: أي ماء الملح خاصة، ولولا ذلك لقال فيهما. وقد مخرت السفينة تمخر إذا شقت الماء. وقد مضى هذا في النحل. فال مجاهد: التجارة في الفلك إلى البلدان البعيدة: في مدة قريبة، كما تقدم في البقرة.
وقيل: ما يستخرج من حليته ويصاد من حيتانه. {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} على ما آتاكم من فضله.
وقيل: على ما أنجاكم من هول.

{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13)}
قوله تعالى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ} تقدم في آل عمران وغيرها. {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} تقدم في لقمان بيانه.
{ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ} أي هذا الذي من صنعه ما تقرر هو الخالق المدبر، والقادر المقتدر، فهو الذي يعبد. يعني الأصنام. {قطمير} أي لا يقدرون عليه ولا على خلقه. والقطمير القشرة الرقيقة البيضاء التي بين التمرة والنواة، قاله أكثر المفسرين.
وقال ابن عباس: هو شق النواة، وهو اختيار المبرد، وقال قتادة. وعن قتادة أيضا: القطمير القمع الذي على رأس النواة. الجوهري: ويقال: هي النكتة البيضاء التي في ظهر النواة، تنبت منها النخلة.{إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)}
قوله تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ} أي إن تستغيثوا بهم في النوائب لا يسمعوا دعاءكم، لأنها جمادات لا تبصر ولا تسمع. إذ ليس كل سامع ناطقا.
وقال قتادة: المعنى لو سمعوا لم ينفعوكم.
وقيل: أي لو جعلنا لهم عقولا وحياة فسمعوا دعاءكم لكانوا أطوع لله منكم، ولما استجابوا لكم على الكفر. {وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} أي يجحدون أنكم عبدتموهم، ويتبرءون منكم. ثم يجوز أن يرجع هذا إلى المعبودين مما يعقل، كالملائكة والجن والأنبياء والشياطين أي يجحدون أن يكون ما فعلتموه حقا، وأنهم أمروكم بعبادتهم، كما أخبر عن عيسى بقوله: {ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة: 116] ويجوز أن يندرج فيه الأصنام أيضا، أي يحييها الله حتى تخبر أنها ليست أهلا للعبادة. هو الله عز وجل، أي لا أحد أخبر بخلق الله من الله، فلا ينبئك مثله في عمله. ينبئك مثله في عمله.
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ} أي المحتاجون إليه في بقائكم وكل أحوالكم. الزمخشري: فإن قلت لم عرف الفقراء؟ قلت: قصد بذلك أن يريهم أنهم لشدة افتقارهم إليه هم جنس الفقراء، وإن كانت الخلائق كلهم مفتقرين إليه من الناس وغيرهم لان الفقر مما يتبع الضعف، وكلما كان الفقير أضعف كان أفقر، وقد شهد الله سبحانه على الإنسان بالضعف في قوله: {وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً} [النساء: 28]، وقال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} [الروم: 54] ولو نكر لكان المعنى: أنتم بعض الفقراء. فإن قلت: قد قوبل {الْفُقَراءُ} بـ {الْغَنِيُّ} فما فائدة {الْحَمِيدُ}؟ قلت: لما أثبت فقرهم إليه وغناه عنهم، وليس كل غنى نافعا بغناه إلا إذا كان الغني جوادا منعما، وإذا جاد وأنعم حمده المنعم عليهم واستحق عليهم الحمد- ذكر {الْحَمِيدُ} ليدل به على أنه الغني النافع بغناه خلقه، الجواد المنعم عليهم، المستحق بإنعامه عليهم أن يحمدوه. وتخفيف الهمزة الثانية أجود الوجوه عند الخليل، ويجوز تخفيف الأولى وحدها وتخفيفهما وتحقيقهما جميعا. {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} تكون {هو} زائدة، فلا يكون لها موضع من الاعراب، وتكون مبتدأة فيكون موضعها رفعا.

{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17)}
قوله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} فيه حذف، المعنى إن يشأ أن يذهبكم يذهبكم، أي يفنيكم. {وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} أي أطوع منكم وأزكى. {وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} أي ممتنع عسير متعذر. وقد مضى هذا في إبراهيم.

{وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)}
تقدم الكلام فيه، وهو مقطوع مما قبله. والأصل تؤزر حذفت الواو اتباعا ليزر. {وازِرَةٌ} نعت لمحذوف، أي نفس وازرة. وكذا {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها} قال الفراء: أي نفس مثقلة أو دابة. قال: وهذا يقع للمذكر والمؤنث. قال الأخفش: أي وإن تدع مثقلة إنسانا إلى حملها وهو ذنوبها. والحمل ما كان على الظهر، والحمل حمل المرأة وحمل النخلة، حكاهما الكسائي بالفتح لا غير.
وحكى ابن السكيت أن حمل النخلة يفتح ويكسر. {لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى} التقدير على قول الأخفش: ولو كان الإنسان المدعو ذا قربى. وأجاز الفراء ولو كان ذو قربى. وهذا جائز عند سيبويه، ومثله {وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ} [البقرة: 280] فتكون {كانَ} بمعنى وقع، أو يكون الخبر محذوفا، أي وإن كان فيمن تطالبون ذو عسرة.
وحكى سيبويه: الناس مجزيون بأعمالهم إن خير فخير، على هذا. وخيرا فخير، على الأول.
وروى عن عكرمة أنه قال: بلغني أن اليهودي والنصراني يرى الرجل المسلم يوم القيامة فيقول له: ألم أكن قد أسديت إليك يدا، ألم أكن قد أحسنت إليك؟ فيقول بلى. فيقول: أنفعني، فلا يزال المسلم يسأل الله تعالى حتى ينقص، من عذابه. وأن الرجل ليأتي إلى أبيه يوم القيامة فيقول: ألم أكن بك بارا، وعليك مشفقا، وإليك محسنا، وأنت ترى ما أنا فيه، فهب لي حسنة من حسناتك، أو احمل عني سيئة، فيقول: إن الذي سألتني يسير، ولكني أخاف مثل ما تخاف. وأن الأب ليقول لابنه مثل ذلك فيرد عليه نحوا من هذا. وأن الرجل ليقول لزوجته: ألم أكن أحسن العشرة لك، فاحملي عني خطيئة لعلي أنجو، فتقول: إن ذلك ليسير ولكني أخاف مما تخاف منه. ثم تلا عكرمة: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى}.
وقال الفضيل بن عياض: هي المرأة تلقى ولدها فتقول: يا ولدي، ألم يكن بطني لك وعاء، ألم يكن ثديي لك سقاء، ألم يكن حجري لك وطاء، يقول: بلى يا أماه، فتقول: يا بني، قد أثقلتني ذنوبي فاحمل عني منها ذنبا واحدا، فيقول: إليك عني يا أماه، فإني بذنبي عنك مشغول.
قوله تعالى: {إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} أي إنما يقبل إنذارك من يخشى عقاب الله تعالى، وهو كقوله تعالى: {إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ} [يس: 11]. قوله تعالى: {وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} أي من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه. وقرئ: {ومن أزكى فإنما يزكى لنفسه}. {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} أي إليه مرجع جميع الخلق.
{وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)}
قوله تعالى: {وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ} أي الكافر والمؤمن والجاهل والعالم. مثل: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} [المائدة: 100]. {وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ} قال الأخفش سعيد: {لَا} زائدة، والمعنى ولا الظلمات والنور، ولا الظل والحرور. قال الأخفش: والحرور لا يكون إلا مع شمس النهار، والسموم يكون بالليل، وقيل بالعكس.
وقال رؤبة ابن العجاج: الحرور تكون بالنهار خاصة، والسموم يكون بالليل خاصة، حكاه المهدوي.
وقال الفراء: السموم لا يكون إلا بالنهار، والحرور يكون فيهما. النحاس: وهذا أصح، لان الحرور فعول من الحر، وفية معنى التكثير، أي الحر المؤذي. قلت: وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «قالت النار رب أكل بعضي بعضا فأذن لي أتنفس فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف فما وجدتم من برد أو زمهرير فمن نفس جهنم وما وجدتم من حر أو حرور فمن نفس جهنم». وروي من حديث الزهري عن سعيد عن أبي هريرة: «فما تجدون من الحر فمن سمومها وشدة ما تجدون من البرد فمن زمهريرها» وهذا يجمع تلك الأقوال، وأن السموم والحرور يكون بالليل والنهار، فتأمله.
وقيل: المراد بالظل والحرور الجنة والنار، فالجنة ذات ظل دائم، كما قال تعالى: {أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها} [الرعد: 35] والنار ذات حرور، وقال معناه السدي.
وقال ابن عباس: أي ظل الليل، وحر السموم بالنهار. قطرب: الحرور الحر، والظل البرد. {وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ} قال ابن قتيبة: الأحياء العقلاء، والأموات الجهال. قال قتادة: هذه كلها أمثال، أي كما لا تستوي هذه الأشياء كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن. {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ} أي يسمع أولياءه الذين خلقهم لجنته. {وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} أي الكفار الذين أمات الكفر قلوبهم، أي كما لا تسمع من مات، كذلك لا تسمع من مات قلبه. وقرأ الحسن وعيسى الثقفي وعمرو ابن ميمون: {بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} بحذف التنوين تخفيفا، أي هم بمنزلة أهل القبور في أنهم لا ينتفعون بما يسمعونه ولا يقبلونه.

{إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (23)}
أي رسول منذر، فليس عليك إلا التبليغ، ليس لك من الهدي شيء إنما الهدى بيد الله تبارك وتعالى.

{إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (24)}
قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً} أي بشيرا بالجنة أهل طاعته، ونذيرا بالنار أهل معصيته. {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ} أي سلف فيها نبي. قال ابن جريج: إلا العرب.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://help.forumcanada.org
ابو شنب
المدير العام
المدير العام
ابو شنب


عدد المساهمات : 10023
نقاط : 26544
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 08/12/2015

تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة فاطر}رقم(35) Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة فاطر}رقم(35)   تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة فاطر}رقم(35) Emptyالإثنين ديسمبر 28, 2015 6:36 pm


{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (26)}
قوله تعالى: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ} يعني كفار قريش. {فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أنبياءهم، يسلي رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ} أي بالمعجزات الظاهرات والشرائع الواضحات. {وَبِالزُّبُرِ} أي الكتب المكتوبة. {وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ} أي الواضح. وكرر الزبر والكتاب وهما واحد لاختلاف اللفظين.
وقيل: يرجع البينات والزبر والكتاب إلى معنى واحد، وهو ما أنزل على الأنبياء من الكتب. {ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ} أي كيف كانت عقوبتي لهم. وأثبت ورش عن نافع وشيبة الياء في {نكيري} حيث وقعت في الوصل دون الوقف. وأثبتها يعقوب في الحالين، وحذفها الباقون في الحالين. وقد مضى هذا كله، والحمد لله.

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأنعام مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)}
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً} هذه الرؤية رؤية القلب والعلم، أي ألم ينته علمك ورأيت بقلبك أن الله أنزل، ف {أَنَّ} واسمها وخبرها سدت مسد مفعولي الرؤية. {فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ} هو من باب تلوين الخطاب. {مُخْتَلِفاً أَلْوانُها} نصبت {مُخْتَلِفاً} نعتا ل {ثَمَراتٍ}. {أَلْوانُها} رفع بمختلف، وصلح أن يكون نعتا ل {ثَمَراتٍ} لما عاد عليه من ذكره. ويجوز في غير القرآن رفعه، ومثله رأيت رجلا خارجا أبوه.
{بِهِ} أي بالماء وهو واحد، والثمرات مختلفة. {وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها} الجدد جمع جدة، وهي الطرائق المختلفة الألوان، وإن كان الجميع حجرا أو ترابا. قال الأخفش: ولو كان جمع جديد لقال: جدد بقسم الجيم والدال نحو سرير وسرر.
وقال زهير:
كأنه أسفع الخدين ذو جدد *** طاو ويرتع بعد الصيف عريانا
وقيل: إن الجدد القطع، مأخوذ من جددت الشيء إذا قطعته، حكاه ابن بحر. قال الجوهري: والجدة الخطة التي في ظهر الحمار تخالف لونه. والجدة الطريقة، والجمع جدد، قال تعالى: {وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها} أي طرائق تخالف لون الجبل. ومنه قولهم: ركب فلان جدة من الامر، إذا رأى فيه رأيا. وكساء مجدد: فيه خطوط مختلفة. الزمخشري: وقرأ الزهري {جدد} بالضم جمع جديدة، وهي الجدة، يقال: جديدة وجدد وجدائد كسفينة وسفن وسفائن. وقد فسر بها قول أبي ذؤيب:
جون السراة له جدائد أربع وروي عنه {جدد} بفتحتين، وهو الطريق الواضح المسفر، وضعه موضع الطرائق والخطوط الواضحة المنفصل بعضها من بعض. {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ} وقرئ: {وَالدَّوَابِّ} مخففا. ونظير هذا التخفيف قراءة من قرأ: {وَلَا الضَّالِّينَ} لان كل واحد منهما فر من التقاء الساكنين فحرك ذلك أولهما وحذف هذا آخرهما قاله الزمخشري. {وَالأنعام مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ} أي فيهم الأحمر والأبيض والأسود وغير ذلك وكل ذلك دليل على صانع مختار. وقال: {مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ} فذكر الضمير مراعاة ل {مِنَ} قاله المؤرج.
وقال أبو بكر بن عياش: إنما ذكر الكناية لأجل أنها مردودة إلى {ما} مضمرة مجازه: ومن الناس ومن الدواب ومن الأنعام ما هو مختلف ألوانه أي أبيض وأحمر وأسود. {وَغَرابِيبُ سُودٌ} قال أبو عبيدة: الغربيب الشديد السواد، ففي الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: ومن الجبال سود غرابيب. والعرب تقول للشديد السواد الذي لونه كلون الغراب: أسود غربيب. قال الجوهري: وتقول هذا أسود غربيب، أي شديد السواد. وإذا قلت: غرابيب سود، تجعل السود بدلا من غرابيب لان توكيد الألوان لا يتقدم.
وفي الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله يبغض الشيخ الغربيب» يعني الذي يخضب بالسواد. قال امرؤ القيس:
العين طامحة واليد سابحة *** والرجل لافحة والوجه غربيب
وقال آخر يصف كرما:
ومن تعاجيب خلق الله غاطية *** يعصر منها ملاحي وغربيب
{كَذلِكَ} هنا تمام الكلام، أي كذلك تختلف أحوال العباد في الخشية، ثم استأنف فقال: {إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} يعني بالعلماء الذين يخافون قدرته، فمن علم أنه عز وجل قدير أيقن بمعاقبته على المعصية، كما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ} قال: الذين علموا أن الله على كل شيء قدير.
وقال الربيع بن أنس: من لم يخش الله تعالى فليس بعالم.
وقال مجاهد: إنما العالم من خشي الله عز وجل. وعن ابن مسعود: كفى بخشية الله تعالى علما وبالاغترار جهلا. وقيل لسعد ابن إبراهيم: من أفقه أهل المدينة؟ قال أتقاهم لربه عز وجل. وعن مجاهد قال: إنما الفقيه من يخاف الله عز وجل. وعن علي رضي الله عنه قال: إن الفقيه حق الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله، ولم يرخص لهم في معاصي الله تعالى، ولم يؤمنهم من عذاب الله، ولم يدع القرآن رغبة عنه إلى غيره، إنه لا خير في عبادة لا علم فيها، ولا علم لا فقه فيه، ولا قراءة لا تدبر فيها. وأسند الدارمي أبو محمد عن مكحول قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم ثم تلا هذه الآية- إنما يخشى الله من عباده العلماء. إن الله وملائكته وأهل سماواته وأهل أرضيه والنون في البحر يصلون على الذين يعلمون الناس الخير» الخبر مرسل. قال الدارمي: وحدثني أبو النعمان حدثنا حماد ابن زيد عن يزيد بن حازم قال حدثني عمي جرير بن زيد أنه سمع تبيعا يحدث عن كعب قال: إني لأجد نعت قوم يتعلمون لغير العمل، ويتفقهون لغير العبادة، ويطلبون الدنيا بعمل الآخرة، ويلبسون جلود الضأن، قلوبهم أمر من الصبر، فبي يغترون، وإياي يخادعون، فبي حلفت لأتيحن لهم فتنة تذر الحليم فيهم حيران. خرجه الترمذي مرفوعا من حديث أبي الدرداء وقد كتبناه في مقدمة الكتاب.
الزمخشري: فإن قلت: فما وجه قراءة من قرأ {إنما يخشى الله} بالرفع {مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ} بالنصب، وهو عمر بن عبد العزيز. وتحكى عن أبي حنيفة. قلت: الخشية في هذه القراءة استعارة، والمعنى: إنما يجلهم ويعظمهم كما يجل المهيب المخشي من الرجال بين الناس من بين جميع عباده. {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} تعليل لوجوب الخشية، لدلالته على عقوبة العصاة وقهرهم، وإثابة أهل الطاعة والعفو عنهم. والمعاقب والمثيب حقه أن يخشى.

{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)}
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً} هذه آية القراء العاملين العالمين الذين يقيمون الصلاة الفرض والنفل، وكذا في الإنفاق. وقد مضى في مقدمة الكتاب ما ينبغي أن يتخلق به قارئ القرآن.
{يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ} قال أحمد بن يحيى: خبر {إِنَّ} {يَرْجُونَ}. {وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} قيل: الزيادة الشفاعة في الآخرة. وهذا مثل الآية الأخرى: {رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} إلى قوله: {وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 38- 37]، وقوله في آخر النساء: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 173] وهناك بيناه. {إِنَّهُ غَفُورٌ} للذنوب. {شَكُورٌ} يقبل القليل من العمل الخالص، ويثيب عليه الجزيل من الثواب.
{وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)}
قوله تعالى: {وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ} يعني القرآن. {هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ} أي من الكتب. {إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ}.

{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35)}
فيه أربع مسائل:
الأولى: هذه الآية مشكلة، لأنه قال جل وعز: {اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا} ثم قال: {فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ} وقد تكلم العلماء فيها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. قال النحاس: فمن أصح ما روى في ذلك ما روي عن ابن عباس {فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ} قال: الكافر، رواه ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس أيضا. وعن ابن عباس أيضا {فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ} قال: نجت فرقتان، ويكون التقدير في العربية: فمنهم من عبادنا ظالم لنفسه، أي كافر.
وقال الحسن: أي فاسق. ويكون الضمير الذي في {يَدْخُلُونَها} يعود على المقتصد والسابق لا على الظالم. وعن عكرمة وقتادة والضحاك والفراء أن المقتصد المؤمن العاصي، والسابق التقي على الإطلاق. قالوا: وهذه الآية نظير قوله تعالى في سورة الواقعة {وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً} [الواقعة: 7] الآية. قالوا وبعيد أن يكون ممن يصطفي ظالم. ورواه مجاهد عن ابن عباس. قال مجاهد: {فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ} أصحاب المشأمة، {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} أصحاب الميمنة، {وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ} السابقون من الناس كلهم.
وقيل: الضمير في {يَدْخُلُونَها} يعود على الثلاثة الأصناف، على ألا يكون الظالم ها هنا كافرا ولا فاسقا. وممن روي عنه هذا القول عمر وعثمان وأبو الدرداء، وابن مسعود وعقبة بن عمرو وعائشة، والتقدير على هذا القول: أن يكون الظالم لنفسه الذي عمل الصغائر. والمقتصد قال محمد بن يزيد: هو الذي يعطي الدنيا حقها والآخرة حقها، فيكون {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها} عائدا على الجميع على هذا الشرح والتبيين، وروي عن أبي سعيد الخدري.
وقال كعب الأحبار: استوت مناكبهم- ورب الكعبة- وتفاضلوا بأعمالهم.
وقال أبو إسحاق السبيعي: أما الذي سمعت منذ ستين سنة فكلهم ناج.
وروى أسامة بن زيد أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ هذه الآية وقال: «كلهم في الجنة». وقرأ عمر بن الخطاب هذه الآية ثم قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له». فعلى هذا القول يقدر مفعول الاصطفاء من قوله: {أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا}
مضافا حذف كما حذف المضاف في {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] أي اصطفينا دينهم فبقى اصطفيناهم، فحذف العائد إلى الموصول كما حذف في قوله: {وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ} [هود: 31] أي تزدريهم، فالاصطفاء إذا موجه إلى دينهم، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ} [البقرة: 132]. قال النحاس: وقول ثالث- يكون الظالم صاحب الكبائر، والمقتصد الذي لم يستحق الجنة بزيادة حسناته على سيئاته، فيكون: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها} للذين سبقوا بالخيرات لا غير. وهذا قول جماعة من أهل النظر، لان الضمير في حقيقة النظر لما يليه أولى. قلت: القول الوسط أولاها وأصحها إن شاء الله، لان الكافر والمنافق لم يصطفوا بحمد الله، ولا اصطفى دينهم. وهذا قول ستة من الصحابة، وحسبك. وسنزيده بيانا وإيضاحا في باقي الآية.
الثانية: قوله تعالى: {أَوْرَثْنَا الْكِتابَ} أي أعطينا. والميراث عطاء حقيقة أو مجازا، فإنه يقال فيما صار للإنسان بعد موت آخر. و{الْكِتابَ} ها هنا يريد به معاني الكتاب وعلمه وأحكامه وعقائده، وكان الله تعالى لما أعطى أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القرآن، وهو قد تضمن معاني الكتب المنزلة، فكأنه ورث أمة محمد عليه السلام الكتاب الذي كان في الأمم قبلنا. {اصْطَفَيْنا} أي اخترنا. واشتقاقه من الصفو، وهو الخلوص من شوائب الكدر. وأصله اصتفونا، فأبدلت التاء طاء والواو ياء. {مِنْ عِبادِنا} قيل المراد أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قاله ابن عباس وغيره. وكان اللفظ يحتمل جميع المؤمنين من كل أمة، إلا أن عبارة توريث الكتاب لم تكن إلا لامة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والأول لم يرثوه.
وقيل: المصطفون الأنبياء، توارثوا الكتاب بمعنى أنه انتقل عن بعضهم إلى آخر، قال الله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ} [النمل: 16]، وقال: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم: 6] فإذا جاز أن تكون النبوة موروثة فكذلك الكتاب. {فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ} من وقع في صغيرة. قال ابن عطية: وهذا قول مردود من غير ما وجه. قال الضحاك: معنى {فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ} أي من ذريتهم ظالم لنفسه وهو المشرك. الحسن: من أممهم، على ما تقدم ذكره من الخلاف في الظالم. والآية في أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد اختلفت عبارات أرباب القلوب في الظالم والمقتصد والسابق، فقال سهل بن عبد الله: السابق العالم، والمقتصد المتعلم، والظالم الجاهل.
وقال ذو النون المصري: الظالم الذاكر الله بلسانه فقط، والمقتصد الذاكر بقلبه، والسابق الذي لا ينساه.
وقال الأنطاكي: الظالم صاحب الأقوال، والمقتصد صاحب الافعال، والسابق صاحب الأحوال.
وقال ابن عطاء: الظالم الذي يحب الله من أجل الدنيا، والمقتصد الذي يحبه من أجل العقبى، والسابق الذي أسقط مراده بمراد الحق.
وقيل: الظالم الذي يعبد الله خوفا من النار، والمقتصد الذي يعبد الله طمعا في الجنة، والسابق الذي يعبد الله لوجهه لا لسبب.
وقيل: الظالم الزاهد في الدنيا، لأنه ظلم نفسه فترك لها حظا وهي المعرفة والمحبة، والمقتصد العارف، والسابق المحب.
وقيل: الظالم الذي يجزع عند البلاء، والمقتصد الصابر على البلاء، والسابق المتلذذ بالبلاء.
وقيل: الظالم الذي يعبد الله على الغفلة والعادة، والمقتصد الذي يعبده على الرغبة والرهبة، والسابق الذي يعبده على الهيبة.
وقيل: الظالم الذي أعطي فمنع، والمقتصد الذي أعطي فبذل، والسابق الذي يمنع فشكر وآثر. يروى أن عابدين التقيا فقال: كيف حال إخوانكم بالبصرة؟ قال: بخير، إن أعطوا شكروا وإن منعوا صبروا. فقال: هذه حالة الكلاب عندنا ببلخ! عبادنا إن منعوا شكروا وإن أعطوا آثروا.
وقيل: الظالم من استغنى بماله، والمقتصد من أستغنى بدينه، والسابق من أستغنى بربه.
وقيل: الظالم التالي للقرآن ولا يعمل به، والمقتصد التالي للقرآن ويعمل به، والسابق القارئ للقرآن العامل به والعالم به.
وقيل: السابق الذي يدخل المسجد قبل تأذين المؤذن، والمقتصد الذي يدخل المسجد وقد أذن، والظالم الذي يدخل المسجد وقد أقيمت الصلاة، لأنه ظلم نفسه الأجر فلم يحصل لها ما حصله غيره.
وقال بعض أهل العلم في هذا: بل السابق الذي يدرك الوقت والجماعة فيدرك الفضيلتين، والمقتصد الذي إن فاتته الجماعة لم يفرط في الوقت، والظالم الغافل عن الصلاة حتى يفوت الوقت والجماعة، فهو أولى بالظلم.
وقيل: الظالم الذي يحب نفسه، والمقتصد الذي يحب دينه، والسابق الذي يحب ربه.
وقيل: الظالم الذي ينتصف ولا ينصف، والمقتصد الذي ينتصف وينصف، والسابق الذي ينصف ولا ينتصف. وقالت عائشة رضي الله عنها: السابق الذي أسلم قبل الهجرة، والمقتصد من أسلم بعد الهجرة، والظالم من لم يسلم إلا بالسيف، وهم كلهم مغفور لهم. قلت: ذكر هذه الأقوال وزيادة عليها الثعلبي في تفسيره. وبالجملة فهم طرفان وواسطة، وهو المقتصد الملازم للقصد وهو ترك الميل، ومنه قول جابر بن حني الثعلبي:
نعاطي الملوك السلم ما قصدوا لنا *** وليس علينا قتلهم بمحرم
أي نعاطيهم الصلح ما ركبوا بنا القصد، أي ما لم يجوروا، وليس قتلهم بمحرم علينا إن جاروا، فلذلك كان المقتصد منزلة بين المنزلتين، فهو فوق الظالم لنفسه ودون السابق بالخيرات. {ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} يعني إتياننا الكتاب لهم.
وقيل: ذلك الاصطفاء مع علمنا بعيوبهم هو الفضل الكبير.
وقيل: وعد الجنة لهؤلاء الثلاثة فضل كبير.
الثالثة: وتكلم الناس في تقديم الظالم على المقتصد والسابق فقيل: التقديم في الذكر لا يقتضي تشريفا، كقوله تعالى: {لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ} [الحشر: 20].
وقيل: قدم الظالم لكثرة الفاسقين منهم وغلبتهم وأن المقتصدين قليل بالإضافة إليهم، والسابقين أقل من القليل، ذكره الزمخشري ولم يذكره غيره وقيل: قدم الظالم لتأكيد الرجاء في حقه، إذ ليس له شيء يتكل عليه إلا رحمة ربه. واتكل المقتصد على حسن ظنه، والسابق على طاعته.
وقيل: قدم الظالم لئلا ييئس من رحمة الله، وأخر السابق لئلا يعجب بعمله.
وقال جعفر بن محمد بن علي الصادق رضي الله عنه: قدم الظالم ليخبر أنه لا يتقرب إليه إلا بصرف رحمته وكرمه، وأن الظلم لا يؤثر في الاصطفائية إذا كانت ثم عناية، ثم ثنى بالمقتصدين لأنهم بين الخوف والرجاء، ثم ختم بالسابقين لئلا يأمن أحد مكر الله، وكلهم في الجنة بحرمة كلمة الإخلاص: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وقال محمد بن علي الترمذي: جمعهم في الاصطفاء إزالة للعلل عن العطاء، لان الاصطفاء يوجب الإرث، لا الإرث يوجب الاصطفاء، ولذلك قيل في الحكمة: صحح النسبة ثم ادع في الميراث.
وقيل: أخر السابق ليكون أقرب إلى الجنات والثواب، كما قدم الصوامع والبيع في سورة الحج على المساجد، لتكون الصوامع أقرب إلى الهدم والخراب، وتكون المساجد أقرب إلى ذكر الله.
وقيل: إن الملوك إذا أرادوا الجمع بين الأشياء بالذكر قدموا الأدنى، كقوله تعالى: {لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف: 167]، وقوله: {يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ} [الشورى: 49]، وقوله: {لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ} [الحشر: 20] قلت: ولقد أحسن من قال:
وغاية هذا الجود أنت وإنما *** يوافي إلى الغايات في آخر الامر
الرابعة: قوله: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها} جمعهم في الدخول لأنه ميراث، والعاق والبار في الميراث سواء إذا كانوا معترفين بالنسب، فالعاصي والمطيع مقرون بالرب. وقرئ: {جنة عدن} على الافراد، كأنها جنة مختصة بالسابقين لقلتهم، على ما تقدم. و{جنات عدن} بالنصب على إضمار فعل يفسره الظاهر، أي يدخلون جنات عدن يدخلونها. وهذا للجميع، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى. وقرأ أبو عمرو {يدخلونها} بضم الياء وفتح الخاء. قال: لقوله: {يُحَلَّوْنَ}. وقد مضى في الحج الكلام في قوله تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ}. {وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} قال أبو ثابت: دخل رجل المسجد فقال اللهم ارحم غربتي وآنس وحدتي يسر لي جليسا صالحا. فقال أبو الدرداء: لئن كنت صادقا فلانا أسعد بذلك منك، سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ} قال: «فيجيء هذا السابق فيدخل الجنة بغير حساب، وأما المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا، وأما الظالم لنفسه فيحبس في المقام ويوبخ ويقرع ثم يدخل الجنة فهم الذين قالوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ}» وفي لفظ آخر: «وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك يحبسون في طول المحشر ثم هم الذين يتلقاهم الله برحمته فهم الذين يقولون: {الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور} إلى قوله: {ولا يمسنا فيها لغوب}».
وقيل: هو الذي يؤخذ منه في مقامه، يعني يكفر عنه بما يصيبه من الهم والحزن، ومنه قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] يعني في الدنيا. قال الثعلبي: وهذا التأويل أشبه بالظاهر، لأنه قال: {جنات عدن يدخلونها}، ولقوله: {الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا} والكافر والمنافق لم يصطفوا. قلت: وهذا هو الصحيح، وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة، ريحها وطيب وطعمها مر». فأخبر أن المنافق يقرؤه، وأخبر الحق سبحانه وتعالى أن المنافق في الدرك الأسفل من النار، وكثير من الكفار واليهود والنصارى يقرءونه في زماننا هذا.
وقال مالك: قد يقرأ القرآن من لا خير فيه. والنصب: التعب. واللغوب: الإعياء.

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)}
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ} لما ذكر أهل الجنة وأحوالهم ومقالتهم، ذكر أهل النار وأحوالهم ومقالتهم. {لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} مثل: {لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى} [الأعلى: 13]. {وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها} مثل: {كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ} [النساء: 56]. {كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ}
أي كافر بالله ورسوله. وقرأ الحسن {فيموتون} بالنون ولا يكون للنفي حينئذ جواب ويكون {فيموتون} عطفا على {يُقْضى} تقديره لا يقضى عليهم ولا يموتون كقوله تعالى: {وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ}. قال الكسائي: {وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} بالنون في المصحف لأنه رأس آية و{لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} لأنه ليس رأس آية. ويجوز في كل واحد منهما ما جاز في صاحبه. {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها} أي يستغيثون في النار بالصوت العالي. والصراخ الصوت العالي، والصارخ المستغيث والمصرخ المغيث. قال:
كنا إذا ما أتانا صارخ فزع *** كان الصراخ له قرع الظنابيب
{رَبَّنا أَخْرِجْنا} أي يقولون ربنا أخرجنا من جهنم وردنا إلى الدنيا. {نَعْمَلْ صالِحاً} قال ابن عباس: نقل: لا إله إلا الله. وهو معنى قولهم: {غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} أي من الشرك، أي نؤمن بدل الكفر، ونطيع بدل المعصية، ونمتثل أمر الرسل. {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} هذا جواب دعائهم، أي فيقال لهم، فالقول مضمر. وترجم البخاري: (باب من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر لقوله عز وجل: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ} يعني الشيب) حدثنا عبد السلام بن مطهر قال حدثنا عمر بن علي قال حدثنا معن بن محمد الغفاري عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغه ستين سنة». قال الخطابي: {أعذر إليه} أي بلغ به أقصى العذر، ومنه قولهم: قد أعذر من أنذر، أي أقام عذر نفسه في تقديم نذارته. والمعنى: أن من عمره الله ستين سنة لم يبق له عذر، لان الستين قريب من معترك المنايا، وهو سن الإنابة والخشوع وترقب المنية ولقاء الله تعالى، ففيه إعذار بعد إعذار، الأول بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والموتان في الأربعين والستين. قال علي وابن عباس وأبو هريرة في تأويل قوله تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ}: إنه ستون سنة. وقد روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال في موعظته: «ولقد أبلغ في الاعذار من تقدم في الإنذار وإنه لينادي مناد من قبل الله تعالى أبناء الستين {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ}». وذكر الترمذي الحكيم من حديث عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا كان يوم القيامة نودي أبناء الستين وهو العمر الذي قال الله: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ}». وعن ابن عباس أيضا أنه أربعون سنة. وعن الحسن البصري ومسروق مثله. ولهذا القول أيضا وجه، وهو صحيح، والحجة له قوله تعالى: {حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الأحقاف 15] الآية. ففي الأربعين تناهي العقل، وما قبل ذلك وما بعده منتقص عنه، والله أعلم.
وقال مالك: أدركت أهل العلم ببلدنا وهم يطلبون الدنيا والعلم ويخالطون الناس، حتى يأتي لأحدهم أربعون سنة، فإذا أتت عليهم اعتزلوا الناس واشتغلوا بالقيامة حتى يأتيهم الموت. وقد مضى هذا المعنى في سورة الأعراف. وخرج ابن ماجه عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من تجاوز ذلك». قوله تعالى: {وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ} وقرئ: {وجاءتكم النذر} واختلف فيه، فقيل القرآن. وقيل الرسول، قاله زيد بن علي وابن زيد.
وقال ابن عباس وعكرمة وسفيان ووكيع والحسين ابن الفضل والفراء والطبري: هو الشيب.
وقيل: النذير الحمى.
وقيل: موت الأهل والأقارب.
وقيل: كمال العقل. والنذير بمعنى الإنذار.
قلت: فالشيب والحمى وموت الأهل كله إنذار بالموت، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الحمى رائد الموت». قال الأزهري: معناه أن الحمى رسول الموت، أي كأنها تشعر بقدومه وتنذر بمجيئه. والشيب نذير أيضا، لأنه يأتي في سن الاكتهال، وهو علامة لمفارقة سن الصبا الذي هو سن اللهو واللعب. قال:
رأيت الشيب من نذر المنايا *** لصاحبه وحسبك من نذير
وقال آخر:
فقلت لها المشيب نذير عمري *** ولست مسودا وجه النذير
وأما موت الأهل والأقارب والأصحاب والاخوان فإنذار بالرحيل في كل وقت وأوان، وحين وزمان. قال:
وأراك تحملهم ولست تردهم *** فكأنني بك قد حملت فلم ترد
وقال آخر:
الموت في كل حين ينشر الكفنا *** ونحن في غفلة عما يراد بنا
وأما كمال العقل فبه تعرف حقائق الأمور ويفصل بين الحسنات والسيئات، فالعاقل يعمل لآخرته ويرغب فيما عند ربه، فهو نذير. وأما محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبعثه الله بشيرا ونذيرا إلى عباده قطعا لحججهم، قال الله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] وقال: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} [الاسراء: 15]. قوله تعالى: {فَذُوقُوا} يريد عذاب جهنم، لأنكم ما اعتبرتم ولا اتعظتم. {فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} أي مانع من عذاب الله.إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (38)}
تقدم معناه في غير موضع. والمعنى: علم أنه لو ردكم إلى الدنيا لم تعملوا صالحا، كما قال: {وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28]. و{عالِمُ} إذا كان بغير تنوين صلح أن يكون للماضي والمستقبل، وإذا كان منونا لم يجز أن يكون للماضي.

{هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (39)}
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ} قال قتادة: خلفا بعد خلف، قرنا بعد قرن. والخلف هو التالي للمتقدم، ولذلك قيل لابي بكر: يا خليفة الله، فقال: لست بخليفة الله، ولكني خليفة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنا راض بذلك. {فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} أي جزاء كفره وهو العقاب والعذاب. {وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً} أي بغضا وغضبا. {وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً} أي هلاكا وضلالا.

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (40)}
قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ} {شُرَكاءَكُمُ} منصوب بالرؤية، ولا يجوز رفعه، وقد يجوز الرفع عند سيبويه في قولهم: قد علمت زيدا أبو من هو؟ لان زيدا في المعنى مستفهم عنه. ولو قلت: أرأيت زيدا أبو من هو؟ لم يجز الرفع. والفرق بينهما أن معنى هذا أخبرني عنه، وكذا معنى هذا أخبروني عن شركائكم الذي تدعون من دون الله، أعبدتموهم لان لهم شركة في خلق السماوات، أم خلقوا من الأرض شيئا! {أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً} أي أم عندهم كتاب أنزلناه إليهم بالشركة. وكان في هذا رد على من عبد غير الله عز وجل، لأنهم لا يجدون في كتاب من الكتب أن الله عز وجل أمر أن يعبد غيره. {فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ} قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وحفص عن عاصم {عَلى بَيِّنَةٍ} بالتوحيد، وجمع الباقون. والمعنيان متقاربان إلا أن قراءة الجمع أولى، لأنه لا يخلو من قرأه {عَلى بَيِّنَةٍ} من أن يكون خالف السواد الأعظم، أو يكون جاء به على لغة من قال: جاءني طلحت، فوقف بالتاء، وهذه لغة شاذة قليلة، قاله النحاس.
وقال أبو حاتم وأبو عبيد: الجمع أولى لموافقته الخط، لأنها في مصحف عثمان {بينات} بالألف والتاء. {بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً} أي أباطيل تغر، وهو قول السادة للسفلة: إن هذه الآلهة تنفعكم وتقربكم.
وقيل: إن الشيطان يعد المشركين ذلك.
وقيل: وعدهم بأنهم ينصرون عليهم.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://help.forumcanada.org
ابو شنب
المدير العام
المدير العام
ابو شنب


عدد المساهمات : 10023
نقاط : 26544
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 08/12/2015

تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة فاطر}رقم(35) Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة فاطر}رقم(35)   تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة فاطر}رقم(35) Emptyالإثنين ديسمبر 28, 2015 6:38 pm


{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (41)}
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا} لما بين أن آلهتهم لا تقدر على خلق شيء من السماوات والأرض بين أن خالقهما وممسكهما هو الله، فلا يوجد حادث إلا بإيجاده، ولا يبقى إلا ببقائه. و{إِنَّ} في موضع نصب بمعنى كراهة أن تزولا، أو لئلا تزولا، أو يحمل على المعنى، لان المعنى أن الله يمنع السماوات والأرض أن تزولا، فلا حاجة على هذا إلى إضمار، وهذا قول الزجاج. {وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} قال الفراء: أي ولو زالتا ما أمسكهما من أحد. و{إِنَّ} بمعنى ما. قال: وهو مثل قوله: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} [الروم: 51].
وقيل: المراد زوالهما يوم القيامة. وعن إبراهيم قال: دخل رجل من أصحاب ابن مسعود إلى كعب الأحبار يتعلم منه العلم، فلما رجع قال له ابن مسعود: ما الذي أصبت من كعب؟ قال سمعت كعبا يقول: إن السماء تدور على قطب مثل قطب الرحى، في عمود على منكب ملك، فقال له عبد الله: وددت أنك انقلبت براحلتك ورحلها، كذب كعب، ما ترك يهوديته! إن الله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا} إن السماوات لا تدور، ولو كانت تدور لكانت قد زالت. وعن ابن عباس نحوه، وأنه قال لرجل مقبل من الشام: من لقيت به؟ قال كعبا. قال: وما سمعته يقول؟ قال: سمعته يقول: إن السماوات على منكب ملك. فال: كذب كعب، أما ترك يهوديته بعد! إن الله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا} والسماوات سبع والأرضون سبع، ولكن لما ذكرهما أجراهما مجرى شيئين، فعادت الكناية إليهما، وهو كقوله تعالى: {أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما} [الأنبياء: 30] ثم ختم الآية بقوله: {إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً} لان المعنى فيما ذكره بعض أهل التأويل: أن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا من كفر الكافرين، وقولهم اتخذ الله ولدا. قال الكلبي: لما قالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله، كادت السماوات والأرض أن تزولا عن أمكنتهما، فمنعهما الله، وأنزل هذه الآية فيه، وهو كقوله تعالى: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} [مريم: 90- 89] الآية.

{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43)}
قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ} هم قريش أقسموا قبل أن يبعث الله رسوله محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حين بلغهم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم، فلعنوا من كذب نبيه منهم، وأقسموا بالله جل أسمه {لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ} أي نبي {لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ} يعني ممن كذب الرسل من أهل الكتاب. وكانت العرب تتمنى أن يكون منهم رسول كما كانت الرسل من بني إسرائيل، فلما جاءهم ما تمنوه وهو النذير من أنفسهم، نفروا عنه ولم يؤمنوا به. {اسْتِكْباراً} أي عتوا عن الايمان {وَمَكْرَ السَّيِّئِ} أي مكر العمل السيئ وهو الكفر وخدع الضعفاء، وصدهم عن الايمان ليكثر أتباعهم. وأنث {من إحدى الأمم} لتأنيث أمة، قاله الأخفش. وقرأ حمزة والأخفش {ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ} فحذف الاعراب من الأول واثبته في الثاني. قال الزجاج: وهو لحن، وإنما صار لحنا لأنه حذف الاعراب منه. وزعم المبرد أنه لا يجوز في كلام ولا في شعر، لان حركات الاعراب لا يجوز حذفها، لأنها دخلت للفرق بين المعاني. وقد أعظم بعض النحويين أن يكون الأعمش على جلالته ومحله يقرأ بهذا، قال: إنما كان يقف عليه، فغلط من أدى عنه، قال: والدليل على هذا أنه تمام الكلام، وأن الثاني لما لم يكن تمام الكلام أعرب باتفاق، والحركة في الثاني أثقل منها في الأول لأنها ضمة بين كسرتين. وقد احتج بعض النحويين لحمزة في هذا بقول سيبويه، وأنه أنشد هو وغيره:
إذا اعوججن قلت صاحب قوم ***
وقال الآخر:
فاليوم أشرب غير مستحقب *** إثما من الله ولا واغل
وهذا لا حجة فيه، لان سيبويه لم يجزه، وإنما حكاه عن بعض النحويين، والحديث إذا قيل فيه عن بعض العلماء لم يكن فيه حجة، فكيف وإنما جاء به على وجه الشذوذ ولضرورة الشعر وقد خولف فيه. وزعم الزجاج أن أبا العباس أنشده:
إذا اعوججن قلت صاح قوم ***
وأنه أنشد:
فاليوم أشرب غير مستحقب ***
بوصل الالف على الامر، ذكر جميعه النحاس. الزمخشري: وقرأ حمزة {ومكر السيئ} بسكون الهمزة، وذلك لاستثقاله الحركات، ولعله اختلس فظن سكونا، أو وقف وقفة خفيفة ثم ابتدأ {وَلا يَحِيقُ}. وقرأ ابن مسعود {ومكرا سيئا} وقال المهدوي: ومن سكن الهمزة من قوله: {وَمَكْرَ السَّيِّئِ} فهو على تقدير الوقف عليه، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف، أو على أنه أسكن الهمزة لتوالي الكسرات والياءات، كما قال:
فاليوم أشرب غير مستحقب ***
قال القشيري: وقرأ حمزة {ومكر السيئ} بسكون الهمزة، وخطأه أقوام.
وقال قوم: لعله وقف عليه لأنه تمام الكلام، فغلط الراوي وروى ذلك عنه في الإدراج، وقد سبق الكلام في أمثال هذا، وقلنا: ما ثبت بالاستفاضة أو التواتر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأه فلا بد من جوازه، ولا يجوز أن يقال: إنه لحن، ولعل مراد من صار إلى التخطئة أن غيره أفصح منه، وإن كان هو فصيحا. {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} أي لا ينزل عاقبة الشرك إلا بمن أشرك.
وقيل: هذا إشارة إلى قتلهم ببدر.
وقال الشاعر:
وقد دفعوا المنية فاستقلت *** ذراعا بعد ما كانت تحيق
أي تنزل، وهذا قول قطرب.
وقال الكلبي: {يَحِيقُ} بمعنى يحيط. والحوق الإحاطة، يقال: حاق به كذا أي أحاط به. وعن ابن عباس أن كعبا قال له: إني أجد في التوراة: من حفر لأخيه حفرة وقع فيها؟ فقال ابن عباس: فإني أوجدك في القرآن ذلك. قال: وأين؟ قال: فاقرأ {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} ومن أمثال العرب: من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا، وروى الزهري أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا تمكر ولا تعن ماكرا فإن الله تعالى يقول: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}، ولا تبغ ولا تعن باغيا فإن الله تعالى يقول: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ} [الفتح: 10] وقال تعالى: {إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ} [يونس: 23]» وقال بعض الحكماء:
يا أيها الظالم في فعله *** والظلم مردود على من ظلم
إلى متى أنت وحتى متى *** تحصى المصائب وتنسى النعم
وفي الحديث: «المكر والخديعة في النار». فقوله: «في النار» يعني في الآخرة تدخل أصحابها في النار، لأنها من أخلاق الكفار لا من أخلاق المؤمنين الأخيار، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في سياق هذا الحديث وليس من أخلاق المؤمن المكر والخديعة والخيانة.
وفي هذا أبلغ تحذير عن التخلق بهذه الأخلاق الذميمة، والخروج عن أخلاق الايمان الكريمة. قوله تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ} أي إنما ينتظرون العذاب الذي نزل بالكفار الأولين. {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} أي أجرى الله العذاب على الكفار، ويجعل ذلك سنة فيهم، فهو يعذب بمثله من استحقه، لا يقدر أحد أن يبدل ذلك، ولا أن يحول العذاب عن نفسه إلى غيره. والسنة الطريقة، والجمع سنن. وقد مضى في آل عمران وأضافها إلى الله عز وجل.
وقال في موضع آخر: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا} فأضاف إلى القوم لتعلق الامر بالجانبين، وهو كالاجل، تارة يضاف إلى الله، وتارة إلى القوم، قال الله تعالى: {فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} [العنكبوت: 5] وقال: {فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ} [النحل: 61].

{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (44)}
بين السنة التي ذكرها، أي أو لم يروا ما أنزلنا بعاد وثمود، وبمدين وأمثالهم لما كذبوا الرسل، فتدبروا ذلك بنظرهم إلى مساكنهم ودورهم، وبما سمعوا على التواتر بما حل بهم، أفليس فيه عبرة وبيان لهم، ليسوا خيرا من أولئك ولا أقوى، بل كان أولئك أقوى، دليله قوله: {وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} أي إذا أراد إنزال عذاب بقوم لم يعجزه ذلك. {إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً}.{وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45)}
قوله تعالى: {وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا} يعني من الذنوب. {ما ترك على ظهرها من دابة} قال ابن مسعود: يريد جميع الحيوان مما دب ودرج. قال قتادة: وقد فعل ذلك زمن نوح عليه السلام.
وقال الكلبي: {مِنْ دَابَّةٍ} يريد الجن والانس دون غيرهما، لأنهما مكلفان بالعقل.
وقال ابن جرير والأخفش والحسين بن الفضل: أراد بالدابة هنا الناس وحدهم دون غيرهم. قلت: والأول أظهر، لأنه عن صحابي كبير. قال ابن مسعود: كاد الجعل أن يعذب في حجره بذنب ابن آدم.
وقال يحيى بن أبي كثير: أمر رجل بالمعرف ونهى عن المنكر، فقال له رجل: عليك بنفسك فإن الظالم لا يضر إلا نفسه. فقال أبو هريرة: كذبت؟ والله الذي لا إله إلا هوثم قال- والذي نفسي بيده إن الحبارى لتموت هزلا في وكرها بظلم الظالم.
وقال الثمالي ويحيى بن سلام في هذه الآية: يحبس الله المطر فيهلك كل شي. وقد مضى في البقرة نحو هذا عن عكرمة ومجاهد في تفسير {وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} هم الحشرات والبهائم يصيبهم الجدب بذنوب علماء السوء الكاتمين فيلعنونهم. وذكرنا هناك حديث البراء ابن عازب قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: {وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} قال: «دواب الأرض». {وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى} قال مقاتل: الأجل المسمى هو ما وعدهم في اللوح المحفوظ.
وقال يحيى: هو يوم القيامة. {فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ} أي بمن يستحق العقاب منهم {بَصِيراً}. ولا يجوز أن يكون العامل في {إذا} {بَصِيراً} كما لا يجوز: اليوم إن زيدا خارج. ولكن العامل فيها {جاءَ} لشبهها بحروف المجازاة، والأسماء التي يجازى بها يعمل فيها ما بعدها. وسيبويه لا يرى المجازاة بـ {إذا} إلا في الشعر، كما قال:
إذا قصرت أسيافنا كان وصلها *** خطانا إلى أعدائنا فنضارب
ختمت سورة فاطر والحمد لله.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://help.forumcanada.org
 
تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة فاطر}رقم(35)
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
»  تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة آل عمران }رقم(3)
» تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة التكاثر}رقم(102)
» تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة الناس}رقم(114)
»  تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة الإنسان}رقم(76)
»  تفسير ۩القرآن الكريم۩تفسير القرطبى{سورة مريم}رقم(19)

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
همس الحياه :: المنتدى : الإسلامى العام :: قسم : تفسير ۩ القرآن الكريم ۩ القرطبى-
انتقل الى: